رواية "نساء على أجنحة الحلم"، كتبت بالأنجليزية، وترجمت إلى عدة لغات . عمل إبداعي ليس كأي إبداع، إنه لعالمة اجتماع، سكبت فيه الكثير من معارفها في مجال تخصصها .
رواية يمكن إدراجها في جنس رواية- السير ذاتية، وإن كانت سيرة ليست بمفهومها التقليدي، تتبع خط حياة الكاتبة
كرنولوجيا، بقدر ما هي سيرة لمرحلة هامة من تاريخ الحريم بالمغرب . هل تم القطع معه والإنعتاق من سطوته أم لا؟ سؤال للبحث و المناقشة .
وجها لوجه.. معسكر التحرر والتجديد مع معسكر الجمود والتقليد :
فحسب الرواية، فالحريم منقسم على نفسه إلى فسطاطين. فسطاط التحرر تتزعمه أم فاطمة من آل المرنيسي بفاس، كانت بحكم مكانتها وسط الحريم على جبهة النار مع رموز معسكر الجمود والتقليد الذي تمثله للامهاني جدتها لأبيها و للا راضية أم شامة . كانت تسندها شامة وعمتها حبيبة، وإن كانت هذه بحكم وضعيتها باعتبار طلاقها تلوك معارضتها في صمت ص 49 .
فبقدر سعي معسكر التحديث لكسر القيود المفروضة على النساء، ونبذ أي تمييز حتى في أبسط تجلياته، كالزغاريد عند الولادات تقول فاطمة "أصرت عند ولادتي أن تطلق النساء الزغاريد بنفس الطريقة التي استقبلن بها سمير، لقد رفضت دائما تفوق الذكور وعدّته عبثا وأمرا مناقضا مع الإسلام الحق، وكانت لا تفتأ تردد لقد خلقنا الله متساوين .. حتى اعتقد الجيران بميلاد ذكرين " ص17، و كذا طريقة مشط الشعر واللباس والطرز ونوع الموسيقى والرقص إذ كن يرقصن على أنغام أغاني اسمهان عبر الراديو الذي حصلن على مفتاح دولابه بأعجوبة، بما أنه كان في غرفة الذكور يحرصون على أن لا تصل آذانهن لما يبشر به من تغيير . تقول زمجر أبي لما علم بحصولهن عليه فقال "إذا توفرن اليوم على مفتاح آخر للراديو سيكون لهن غدا مفتاح آخر للباب الكبيرة" ص 16، إلى أكبرها وأعقدها
كالموقف من امتلاك الإماء والتعليم والمساواة في الحقوق كما الواجبات و تعدد الزوجات، بقدر إصرار معسكر الجمود الذي تتزعمه لللامهاني، كانت تحب فرض الإحترام "كانت تشغل حجرة نقصدها مرتين في اليوم لتقبيل يدها إحداها في الصباح والأخرى في المساء" ص14 وهي من العادات تقول "كانت أمي ترفض وتسخر من عادة تقبيل اليد كل يوم" ص34، فقد كن حريصات على التقاليد المرعية حتى في رسومات الطرز . فأية محاولة للخروج عليها تقابل بالعتاب والتقريع، كرسم طيور بأجنحتهن مثلا . فحسبهن إنه بدعة فظيعة ونوع من التمرد على الماضي . فقد كانتا دائما في صف الرجال، حتى إن أمي كانت تتهمهن بالتآمر على بنات جنسهن وتقول "إنهن أخطر من الرجال.. ذلك لأنهن مثلنا في المظهر ولكنهن في الحقيقة ذئابا متنكرة في شكل خراف" ص152 وهي عالمة الإجتماع المتمرسة، تدرك مفعول الدين وسلطته، فكان لا بد من إضفاء الصبغة الدينية على موقف هذا المعسكر عبر لللا طام "الفقيهة " كانت تتولى تفقيه الأطفال بكتاب الحريم . كانت تقول "التربية هي أن تتعلم كيف تميز الحدود" ص11 . والحدود المقصودة
"يقول أبي بأن الله خلق الأرض وما عليها وفصل بين النساء والرجال، وشق بحراً بكامله بين النصارى والمسلمين، ذلك أن النظام والإنسجام لا يتحققان إلّا إذ احترمت كل فئة حدودها، وكل خرق يؤدي بالضرورة إلى الفوضى والشقاء" ص9
أحلام نساء معسكر العصريات بتعبيرها :
- أمنية الأمنيات رجل لكل امرأة :
التعدد كان بالنسبة إليهن أم المشكلات . كانت أمنيتهن أن تداعب كل واحدة زوجها كل يوم، بدل انتظار أربعة أيام أو أكثر في حالة وجود الإماء، وإن كانت الياسمين زوجة عمها بالضيعة تستدرك لتؤكد بمرارة بأن حالهن على أية حال أحسن مقارنة بحريم هارون الرشيد . "عليها أن لا تبالغ في الشكوى لأن كل زوجة من زوجات هارون الرشيد
كانت تنتظره تسعمائة وتسعة وتسعين يوما بما أنه يملك ألف جارية" 43 والحال أفظع مع المقتدر (أحد عشر ألف من العبيد والجواري)، يوم كان سلطان الخلفاء يقاس بعددهم . فما كان يسري ويخفف عنها "إنني سعيدة لأن نساء جيلكن لسن مجبرات على اقتسام أزواجهن" وتضيف ردا على دفاع معسكر الجمود الذي يدافع عن التعدد"يا للعجب من
يحكمنا اليوم رئيس الجمهورية الفرنسية له قصر في الإيليزي إن له زوجة واحدة تظل تجوب الأزقة بتنورتها المفتوحة الكل يرى عجيزتها ونهديها ولا أحد يشك أنه أقوى رجل في البلاد .. إن سلطة الرجال لم تعد بعدد النساء ولكن هذه الأمور مستحدثة بفاس لأن عقارب الساعة توقفت عند زمن هارون الرشيد" ص 53.
- التعليم :
تقول فاطمة "ما أن علمت أمي بالخبر حتى طلبت من والدي نقلي من كتاب للا طام إلى مدرسة حقيقية حسب تعبيرها" 210 . كان رد الأم جد قاس على لللا مهاني لما اعترضت على تعليم النساء بقولها "جعلت المدرسة للبنات لا للأمهات . إن ذلك لا يشكل جزء من تقاليدنا . 213، فقالت لها بانفعال"ماذا يمكن أن نقدم للوطن ونحن محاصرات في ساحة ؟
لماذا نحرم من التعليم ؟ من الذي اخترع الحريم ؟ وبأي هدف ؟ من يشرح لي ؟" . تهدأ ثم تعقب باطمئنان وهي تتحدث عن مستقبل أطفالها "على الأقل ستحيا بناتي حياة أفضل، سيكتشفن العالم ويفهمنه ويساهمن في تغييره" ثم تلتفت إلي وتقول "أنت سترين العالم .
أليس كذلك ؟ ستقودين السيارة أو الطيارة كثريا الشاوي، ستخلفين عالما دون أسوار ولا حدود، حيث الحراس في عطلة دائمة" ص 214. فكانت لازمتها التي نشّأت عليها ابنتها كما تقول "أمي ترغب أن أصبح كالأميرة عائشة ابنة محمد الخامس التي تلقي خطبها بالعربية والفرنسية وترتدي القفطان الطويل أو الفساتين الفرنسية القصيرة على عكس الرجال كانوا معارضين لكل ذلك ويجدونه خطيراً" ص193
- حرية الحركة خارج البيت :
لم يكن معسكر التقليد يجد ما يبرر به موقفه بخصوص حرية المرأة غير الإدعاء بأن الرجال يهيئون لهن الدور الرائعة والغذاء الجيد واللباس الجميل والجواهر" فهل تحتاج المرأة إلى أكثر من هذا لتغدو سعيدة ؟ وحدهنّ النساء الفقيرات مجبرات على الخروج للبحث عن لقمة العيش شأن لوزة زوجة أحمد البوّاب، أمّا النساء الغنيات فلا يأبهن لذلك ص54. والأفظع من هذا لما يدعين بأن التزام النساء بيوتهن هو في صالحهن، لأن خروجهن سيتسبب في في فتنة الرجال، فتتوقف عجلة الإقتصاد عن الدوران . فكان رد أمي قويا بقولها "إن الفرنسيين يا حماتي العزيزة، لا يأسرن نساءهم وراء الأسوار .. والكل يمرح ويلهو، ومع ذلك ينجزون كل الأعمال المنوطة بهم، بل إن مردوديتهم أفضل وقد أهلتهم لتجهيز جيش قوي بعثوا به لإطلاق الرصاص علينا في المدينة" ص 50. وجاء على لسان شامة رداً على أبي لما قال بأن تجول المرأة حاسرة الرأس تقليدا للفرنسيات بأن " ثقافتنا ستموت" ص194، بسؤال لم يجب عنه، فحواه لو كان هذا سبب لموتها لماتت من زمن . فهاهم الإخوة وأبناء الأعمام يتجولون وشعرهم قصير كالعسكر الفرنسي ولا أحد يذكرهم بأن ثقافتنا على شفا الانقراض .
فالحريم بالنسبة لهن سجن حقيقي، حتى النوافذ مفتوحة على الداخل . وأي تفكير في الخروج، يحتاج إلى إذن من أكثر من جهة، ابتداء من أعلى سلطة في الحريم من أهل الحل والعقد، ممن بيدهم رقاب كل من بالدار، إلى أبسطها أحمد البواب، الذي كان موكلا بمراقبة باب الدار وسطحه بما أن السلم كان بحوزته، و كذا مراقبة حتى الأزرار الكهربائية في المدخل يطفئها على الساعة التاسعة، ليجبر كل من في السطح ليلتحق بمقر نومه ص25 . لذلك كان معكسر التحرر مجبرا ليُحوِّل كل أنشطته إلى السطح . إنه كان متنفس الكبار والصغار . إشارة من الكاتبة أنه لا مجال للإستسلام مهما كانت الظروف . ففيه يتسلل الشبان لإلقاء نظرة على بنات الجيران، ويلعب الأطفال لعبة الغميضة، وفيه تمارس بعض المحرمات كمضغ الشوينكوم، وطلاء الأظافر، وتدخين السجائر، وإحراق الشمع في ممارسات السحر، واعتماد تسريحات شعر شبيهة بالممثلات، فضلا عما هو أهم المسرح والتمثيل عن قصد وليس تجزية للوقت والمتعة فقط،"إن الهدف من كل عرض هو مؤازرتكم لكي لا تتخلوا عن الأمل وتؤمنوا بأن تغيير حياتكم أمر ممكن" ص119. فعلى ركحه تعرفن على مجموعة من رائدات التحرر من مصر وتركيا، من أمثال عائشة التيمورية وعلى هدى شعراوي التي
قادت أول مظاهرة ضد الإحتلال بدون حجاب ص142 و أرغمت المشرعين على سن عدة قوانين كرفع سن زواج البنات إلى 16 سنة في 1924، ونددت بالقانون الذي كان يقصر التصويت على الرجال . كما تعرفن على قصة شجرة الدر التي حكمت مصر أربعة أشهر، وحين قرر زوجها الثاني و كان أكبر قائد عسكري في الجيش التركي اتخاذ زوجة ثانية مات مسلوقا في الحمام، على عكس الأميرة فريدة، لم تكن تعرف كيف تدافع عن حقوقها في القصر، لذا كن يتعاطفن معها ويكرهن الملك فاروق لأنه كان يهددها بالطلاق بدعوى أنها خلفت ثلاث بنات لا يد لها فيهن، إذ لم يكن من حق إحداهن اعتلاء العرش لأن الشريعة تمنع من تسلم المرأة قيادة البلاد ص39. فتتساءلن إن كان هذا الرجل الذي يطلق زوجته لمجرد كونها لم تلد طفلا ذكرا أهو قائد إسلامي كفؤ ؟ ألم يقل الله تعالى "هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء"؟ وقبل هؤلاء تعرفن على شخصية شهرزاد . كانت ترى فيها رمز التحرر والقدرة على قهر سلطة الذكر المتسلط، ليس لجمالها الباهر أو لعصبية قبلية أو لثراء فاحش، بقدر ما كان بعلمها وسعة اطلاعها على قصص الحاضرين والغابرين من مختلف الثقافات والديانات، فضلا عن سحر بيانها. فقد كانت بالنسبة لها رائدة المدافعات عن النساء منذ قرون خلت في وجه شهريار أعتى طاغية عرفته المرأة عبر تاريخها .
إسهام البادية في الثورة على الحريم:
وعلى غير عادة كثير من الدارسين، تؤكد الكاتبة أن الثورة على الحريم والنضال ضد عسفه، لم يكن شأنا مدينيا وحسب، بقدر ما كان فعلا بدويا أيضا، تمثل في شخصية الياسمين بضيعة آل التازي، استطاعت أن تروض زوجها ليتخلى عن مجموعة من العادات القديمة كتعدد الزوجات، و إن احتفظ بعادة شراء الإماء من أسواق النخاسة من أفريقيا، و أخريات اختطفن من أسرهن إبان فترة الفوضى التي أعقبت قدوم الفرنسيين في 1912 ص42. تعزز نضالها بقدوم طامو من الريف بحثا عن المساعدة للمقاومة . فقد كان وصولها بمثابة زلزال في صفوف نساء الضيعة . قلب لديهن معايير الجمال رأسا على عقب . إذ تأكد لهن أن المرأة يمكن أن تكون فاتنة لأنها تعرف القتال، وترفض العجز، و تسب بصوت عال، وتنطلق في جولات لوحدها، و تركب الخيل، وتقوم بحركات بهلوانية، وتعرف استعمال البندقية، وتتكلم
الاسبانية . فقد بعثت فيهن الوعي بقوتهن الداخلية وقدرتهن على مقاومة الأقدار أيا كانت تقول"فمن يوم أن شيد لها جدي طابقا علويا غدا بيتها بمثابة قيادة عامة للتضامن النسوي" ص62، تقابلهن بشراسة لللاطهور في حراسة التقاليد الموروثة عبر القرون .
آليات التغيير المقترحة:
كدأبها في كتاباتها و بمشرط الباحث الاجتماعي، تصف الكاتبة الواقع وتقترح آليات التغيير، كما هو الشأن في روايتها هاته . فقد أكدت على الحلم ضمن مجموعة من الآليات في التنشئة، إدراكا منها أنه لا تقدم بدون حلم. فقد كانت عمتها حبيبة تقول بأن على الأمهات أن يحدثن أطفالهن على أهمية الأحلام"لا يكفي أن ترفضين ساحة هذا الحريم، بل من اللازم أن تتصوري المروج التي ستضعينها مكانها" 227. كما أكدت على السفر"إن الدهن يتعود على التفكير حين نجول في أرض الله الواسعة، وهم يحبسوننا وراء الأسوار لكي يتبلد ذهننا"ص 199 . وبطريقة ساخرة انتقدت العقل العربي المتكلس طبعا "الزمان هو جرح العرب، إنهم يرتاحون إلى الماضي... التقليد هو مكان الأموات والمستقبل رعب و ذنوب والتجديد بدعة وإجرام ... أود أن أعيش في الحاضر فهل أقترف إثما؟" ص229 . كان هذا مونولوج ورد على لسان شامة، فضلا عما سبق من آليات فعالة من حكي وتمثيل وغيرها مما ورد بفنية في درج روايتها .
خانمة
كانت الكاتبة كقائد اوركسترا ماهر، استطاعت بدربة المتمكن من ناصية صنعته، أن توزع الأدوار بين شخوص منجزها الكثيرين . كل شخصية تعبر بلغتها وبحسب بمستواها المعرفي ومكانتها الإجتماعية . استطاعت أن تتبع عن كثب عملية استنبات أجنحة تحرر النساء وانعتاقهن، رغم المعارضة الشديدة من لدن سدنة بيت التقاليد العتيقة، بما أنها تحفظ لهم سلطتهم المادية والمعنوية، وتلبي رغباتهم الشبقية بتعدد الزوجات وامتلاك الجواري والإماء . ويبقى السؤال معلقا حول ما إن تم بالفعل القطع النهائي مع جحيم الحريم، أم لا يزال بين ظهرانينا يتخذ أشكالا مختلفة، لا بد من الكشف عنها على درب التحرر منها، لنستحق فعلا شرف الإنتماء لعصر المواطنة الحقة، يكون الإستحقاق بناء على الأهلية والكفاءة، وليس على جنس الذكورة أو الأنوثة .