الذكرى تصيبها بالحزن والإحباط، فتدفع فكرها بعيدا، بفعل أشواك نالت منها فأدمت قلبها، ولسعت أناملها ونكأت جراح ماضيها . فلم يعد القلم يستهوي أصابعها، وتحولت الكتابة إلى عبء ثقيل يؤلمها، بل صارت كابوسا نسجته يوما وهي عمياء القلب والعينين، من خيوط متشابكة يعسر حلها، لتحرك في أعماقها أشجان حاضرها وماضيها .
كانت قد تجاوزت عقدها الرابع ؟ حينما حثّتها صديقة مخلصة في سعيها، للزواج من رجل تربطها به علاقة صداقة طيبة . كان العريس يكبرها بعشرة أعوام، وقد انفصل عن زوجته الأولى، دون أن يثمر زواجهما عن أطفال .
وهكذا بعد تعارف قصير بين الطرفين، وافقت على الإرتباط به لرغبتها بالزواج، فلا تبقى فريسة وحدتها وقد ألحت عليها أفكارها لئلا يفوتها القطار، أو يمضي وهي في غفلة من أمرها، فيتجاوز محطتها التي لم تعد تتحمل الإإنتظار . لعلها تنعم ببعض الحياة الهادئة وتنجب إبنا أو ابنة، تعيش ما تبقى من عمرها هانئة بجانب أي منهما .
كان طبيبا ماهرا وجرّاحا واسع الشهرة ينشد الهدوء والاستقرار، ما يساعده على أداء رسالته بما يرضي كفاءته وضميره وسمعته الطيبة . لم تسله سبب انفصاله عن زوجته، كما لم يسلها عن سبب تأخرها في الزواج . هكذا عقدا القران لتمضي بهما الأيام هادئة رتيبة، خالية إلّا من المودة والوداعة والرضا . ومع تعاقب الأيام وانقضاء الزمن، ابتدأت تكتشفت فيه طباعا لم تكن تعرفها، وفهمت أن الصمت عادة تلازمه وأسلوب حياة يعيشه ويرضاه .
كانت الأيام تمضي متعاقبة برتابة بلغت حد الملل، حينما ابتدأت حياتها تتعكر ويتبدد صفوها، ويتسلل السأم إليها ليقض مضجعها وينكد عيشها . فلكم كانت تشتهي مثلا أن يضحك أمامها ملء قلبه، أو يمازحها ويهمس في أذنيها ولو كذبا كلاما عذبا يحرك خواطرها، فيغمرها بدفء يحرك أنوثتها، ويؤجج جذوتها بدل أن يساهم في إطفائها .
لم يخطر له مرة أن يمتدح إشراقة وجهها وعينيها، أو يعاين مفاتن جسدها ويلاحظ تسريحة شعرها الجديدة، أو يبدي إعجابه ببعض ما يعنيها . ليته اعترض مرة على الأحمر الصارخ في شفتيها . كم راودتها أحلامها بقضاء ليل مثير دافىء بجانبه، وأصابعه مشبعة بالحب تروي صحراءها القاحلة . هكذا كانت تحلم وتلح عليها حواسها ويشتعل خيالها، فلم يحدث ما كانت تتوقع وتحلم به طويلا . ولما لم يتبدل حاله معها فقد غزاها اليأس والقنوط .
طبيب وزميل له وفي نفس عمره تقريبا، ويعملان معا في نفس المشفى؛ كان قد دعاه يوما لزيارته في منزله لكي يتناول طعامه معهما، ويتميز زميله هذا بوجه مشرق وابتسامة وضاءة لا تفارق ثغره . صافح زوجة زميله وهو يسترق النظر إلى عمق عينيها . قال في جلستهم كلاما لطيفا هادئا، أحست معه ما يشبه الشعر والموسيقىى .
فأصاب سهمه قلبها وغلبها ضعفها على أمرها، حينما أحست بسكرة تتنازعها ودوخة عصفت بقلبها وراحت تفتك برأسها . إحساس جديد وعالم وردي لم تكن قد عرفته من قبل . هكذا تشارك ثلاثتهم الغداء وتبادلوا كلاما في مختلف الشؤون . كان كلامه عفويا مرحا دون أن يعقب زوجها على الحديث، أو ويشارك في الحوار إلّا قليلا .
في تلك الجلسة الجميلة المؤنسة المحرضة، عادت ودهمتها أنوثتها وشعرت بشيء، لم تكن قد شعرت به من قبل مع زوجها . كانت تتنفس ملء رئتيها وقلبها يرقص كفراشة ترفرف في حديقة أزهرت في قلبها من جديد، فتحسست ملامح وجهها، ووجدت نفسها تحتفظ بمسحة من الجمال، وتمنت في سرها لو تعرفت إليه قبل زوجها .
تلك الليلة الساحرة بقيت حاضرة في فكرها ووجدانها، وسط ضباب الأيام وبرودة الليالي التي قضتها في كنف زوجها . بعد تفكير طويل قررت المغامرة والتواصل معه في محاولة للقائه، أليس من حقها ان تعشق وتفرح وتضحك لها الدنيا . أوحت لزوجها أن يدعو زميله للغداء مرة أخرى؟ لكنه اعتذر بالنيابة عنه لانشغاله بعمل طبي جديد . وهكذا طلبت رقم هاتفه أو بريده، متعللة أن صديقة لها بحاجة لاستشارته في وضع صحي خاص .
بعد يومين حمل لها ورقة وعليها عنوان البريد الذي طلبته . ترددت طويلا قبل أن تكتب له، ثم تشجعت وباشرت رسم كلمات اختارتها بعناية، وبقيت تنتظر رده بلهفة المحروم . بعد ساعة كاملة من الإنتظار المرهق وصلها رده، كان كما تصورت ودودا ولطيفا، مما شجعها على الكتابة إليه مجددا، وهكذا بدأت تتبادل معه الرسائل .
وتوالت الرسائل بينهما في ساعات محددة . صار كل واحد منهما يعرف الموعد وينتظره بلهفة واشتياق، ومن حينها لم يعد صمت زوجها يزعجها، ولم تعد تلح عليه بالكلام معها أو تحاول فتح حوار معه، لم يعد يعنيها إعجابه بعينيها أو لون فساتينها، ما دام صديقه يعيش معها وتغرق يداه في مفاتنها، من شعرها حتى قدميها .
بقي قلبها مرهونا دون موعد أو لقاء، فخيال صوته وحده كان يزيد في قلبها الخفقان، والأمل يمنحها الصبر على مرور الأيام . تمنت لو طلب منها لقاء في أي مكان، ولو استجاب لرغبتها لوافته إلى الموعد المحدد دون تردد أو إبطاء . كانت الكتابة وسيلة التواصل الوحيدة بينهما، وكلما تدعوه لزيارتهم يعتذر ويتعلل بكثير من الأسباب .
كانت تتسوق يوما حينما تقابلا صدفة في محل تجاري، فتوهجت عيناها ورفرف قلبها في سماء الحب . ألقت عليه التحية وصافحته بحرارة، فابتسم لها وبدا غير مبالٍ بها وكأن شيئا لم يحدث بينهما، وحينما سألته عن أحواله ؟ تبسم لها بمودة وهو يودعها ويهمّ بمغادرتها، فراحت تناديه بصوت المتوسل والدمعة تطفر من عينيها . كانت تتوسل إليه وترجوه أن يتوقف، لتسأله والمرارة تتردد في داخلها، إن كان غاضبا منها ليغادر دون أن يحدثها !؟
تعجب من دموعها على خديها، دون أن يرد عليها بإجابة تشفي لوعتها وتطفئ لهفتها، فسألته من جديد عن سبب تأخره في الرد على رسالتها الأخيرة ؟ حينما تعجب وأنكر عليها أن يكون قد تلقى أي رسالة منها . أصابتها حيرة ودهشة أعلى، وبدأت الأفكار تخيم عليها وتحوم في ذهنها، وألف خاطرة وسؤال يدور في خلدها : من ذا الذي تتحدث إليه كل يوم ؟ من الذي تحكي له أوجاع يومياتها، حتى صار يعرفها أكثر من نفسها ؟ ارتبكت وتشتت أحوالها، وسألته متلعثمة عن العنوان البريدي الذي تراسله ؟ ورد على الفور أنه بريد العمل الخاص بزوجها .
صاعقة شقت رأسها وعمّ داخلها سكون رهيب . تجمدت الدنيا عن الحركة والدوران وراحت تلطم وجهها بيديها وتصرخ مستحيل ! مستحيل .. وتمنت حينئذٍ لو أن الأرض، تنشق فتخفيها من الوجود وتبتلعها .