عن مطاوعة الكتابة وتمرّدها

2020-03-19

لمن يريد أن يكون كاتبا وهو بعدُ يوشك ان يرتقي العتبة الأُولى لأدراج الأدب العالية .. نقول له دعك من هذه المهمة الشاقة والشقية معا، لا تحاول، هناك الكثير من النشاطات غير الكتابية  تقول لك رحبا وسعة بك، فلماذا تولج نفسك في زقاق مغلق وتطرق أبوابا محكمة الأقفال وصدئة المفاتيح ؟

اذا لم تنطلق الكتابة من داخلك بقوة وتأتيك كالسيل العارم، وترغمك على ان تقول شيئا وتزيحك من مشاغلك الحياتية، فلا تكتب واترك هذا السعيّ لمن رهن حياته للكتابة واكتوى بنارها وعرف كيف يداوي لسعاتها وجراحها الموجعة .

إذا لم تخرج الكتابة من قلبك، ومن عقلك، ومن فمك، ومن أعماقك فاعتذر لها دون ان تكتب حرفا .

إذا جلست لساعاتٍ باحثًا عن الكلمات أمام شاشة الكمبيوتر أو تعبث بشخبطات على الورق فاترك الكتابة .

إذا كنت تكتب من أجل المال، او طمعا في مكافأة  أو ابتغاء الشهرة وكسبا للجاه او الحظوة، فاعلم ان المماطلة والمطالبة  من اجل المال أشد ما يمقته الناشرون ورعاة الصحافة ورؤساء التحرير وأغلبهم شحةً وبخلاً دون ايّ عطاء، وعليك الاّ تكتب، فهم شحيحون في العطاء والكرم بشكلٍ لا يطاق .

إذا كنت تكتب من أجل إعجاب النساء بك لاستمالتهنّ والإيقاع بهنّ في حبائلك، فاترك قلمك سائبا ولا تشغله بالكتابة . اشترِ عطرا أو قطعة ذهبية يرافقه غزلٌ جميل يكفي لاصطيادهن .

إذا كنت تضطر لترقيع كتاباتك الأولى وضمّها بين دفتي كتاب، وإعادته مرة بعد أخرى لتعيد طباعته ثانية وثالثة فلا تكتب، فمعركتك مع الناشرين تكون خاسرة حتما .

إذا فكرت في الكتابة وظننتها عبئا ثقيلا وهمّاً يضاف إلى همومك في الحياة وكدَرا مضاعفا فاعزفْ عن الكتابة .

إذا كنت تحاول الكتابة بطريقة شخص آخر تحبّه او تهدف إلى منافسته أو حتى الإقتراب منه فاقلع عنها نهائيا . فالقرّاء

ليسوا بحاجةٍ الى الظلال .

إذا كان عليك انتظار الكتابة لتخرج مدويّةً منك، هنا عليك ان تتريث دون يأس وتتمهل صابراً فسوف تصلك حتما ولو بعد لأيٍّ طويل .

إذا لم تخرج الكلمات منك بسهولة وصدق وزاد مخاضها الموجع دون نتائج تذكر ....

هنا عليك ان تبحث عن عمل آخر قد يرفع من منزلتك ويزيد أموالك رغدا وبحبوحة عيش دون كتابة .

إذا كان عليك أن تقرأ ما تكتب أولا لزوجتك، أو أصدقائك، أو والديك، أو لأي أحد على الإطلاق، هذا يعني انك لست جاهزا للكتابة لا اليوم ولا في الغد ولا حتى بعد غدٍ .

لا تكن مثل كثير من الكتّاب الذين يستجدون الضوء الأخضر من مقرّبيهم من الأهل والأصدقاء والمعارف .

لا تكن مثل آلاف البشر الذين سمّوا أنفسهم كتّابًا جزافا، دون ان يسميهم القراء ولا المتلقون .

لا تكن مثلهم منتفخا متورماً ومتبجحا، وأنانيا وتحشر نفسك في سعيرٍ مما لا طاقة لك به .

مكتبات العالم أضحت مقابر لجثث الكتب الميتة  بسبب هؤلاء الكثرة الكاثرة من الكتّاب الكسالى النوّم الغارقين في الأحلام، فلا تضع اسمك معهم؛ ولماذا تراهن على حصانٍ خاسر ؟

لا تكتب إلّا إذا كانت الكتابة تنطلق من روحك مثل وميضٍ بارق . هنا عليك ان تكتب تحت ضوء ذلك الوميض .

لا تكتب إلّا إذا كان صمتك عن الكتابة يقودك للجنون، أو الإنتحار، أو القتل .

لا تكتب إلّا إذا كانت شمس الكلمات تحرقك من الداخل . فالكتابة هنا تمنحك بردا وسلاما وهدأةً .

عندما يكون الوقت مناسبًا للكتابة ستختارك هي.. ستكتب نفسها، وسوف تستمر طيّعة معك حتى تموت، أو تموت هي في داخلك .

لا توجد طريقة أخرى للكتابة الجيدة غير هذه، ولن توجد أبدا .

قبل بضعة أيام قرأت خبرا أقنعني حقا .

حين سُئِلَت الكاتبة المجرية المدهشة  مؤخراً " أغوتا كريستوف "  : لماذا توقفتِ عن الكتابة ؟

 قالت ببساطة : لأنني لا استطيع أن أكتب أفضل مما كتبتُ قبلا , وهو اعتراف نادر الحدوث في عالم الكتابة بكل أنواعها من الرواية والقصة ووصولا إلى الشعر .

وما يقال ان التوقف عن الكتابة يعني الموت في الحياة فهذه ظنون بعيدة جدا عن اليقين .

الإعتزال عن الكتابة قد يصبح تخفيفا للعبء وشعورا بالراحة وقناعة وافية بالسكوت الهانئ لو شعر الكاتب ان لا جديد فيما سيقدمه؛ وهذه هي الهدأة والسكينة التي يجب على الكاتب ان يقنع بها ويسعد في بحبوحتها دون كتابة .

مخطئ من يهجس ان جزر الكتابة وانطفاء وقدتها وضمورها وشحّة وقودها على تحريك القلم وفقدان الحافز أيا كان معنويا أو ماديا  يعني الموت في شخص الكاتب .

أمام هذا الكم الهائل من الكتابات الرثّة والهزيلة والخافتة لم تعد الكتابة قـدَرا لابدّ من الإنصياع له سوى لعدد محدود جدا ممن امتهن التجديد في الكتابة الإبداعية  .

 لقد تعوّد القارئ في العالم العربي أن يقرأ للكاتب الراسخ ( الكبير ) ذي الماضي العريق إبداعيا حتى لو وصل مستوى الكتابة لديه درجة متدنية بعد أن أنهك نفسه وجزرت قريحته , وبنفس الوقت استغل الكاتب ( الكبير ) هذه الثغرة فصدّر إلينا الكثير من الكتب التي لا تستحق القراءة , حتى أساء الكاتب لتاريخه الأدبي وأخذ فرصته وفرصة غيره , وأتعب عمال المطابع معه لكلمات لن تصمد في مواجهة الزمن .

رحم الله كاتبا عرف ثراء قلمه في مرحلة ما من حياته الزاخرة بالتجارب والمعاناة فكتب وأجزل بعطائه الإبداعي مثلما عرف نفسه حين ينطفئ قنديل إبداعه ويخفت صوته؛ فعزف عن الكتابة وترك قلمه ودواته جانبا بعد ان جفّ سائله وانطفأ مصباحه .

ذلك هو الإعتزال الجميل ولا بأس من انطفاء النور حينما يحين موعد النوم .

 

 

 

جواد غلوم

خريج كلية الآداب/جامعة بغداد / قسم اللغة العربية لعام 1974-1975. عمل في التدريس بعد التخرج لغاية العام/1990 وفي الصحافة وهو طالب في الجامعة ونشرت في معظم الصحف والمجلات وقتذاك. سافر إلى خارج العراق بسبب الاضطهاد وظروف الحصار وعمل خلالها أستاذا في الأدب العربي/ ليبيا. عاد للعراق سنة/2004 وينشر في العديد من الصحف الورقية والالكترونية. ولديه اربع مجموعات شعرية مطبوعة وكتابان بعنوان / مذكرات مثقف عراقي أوان الحصار، و قطاف من شجرتَي الادب والفن وهي مقالات في النقد الادبي .

jawadghalom@yahoo.com

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved