عن صور النساء في ظل الحجر المنزلي

2021-04-08

عندما نشرت قصيدة "عن النهود في حجرها الصحي" في (7 نيسان 2020) اعترضت عليها أديبات، ورضيت عنها أخريات، ناهيكم عن موقف الأدباء بين معارض ومؤيد . منذ مدة وأنا ألاحظ ما تنشره النساء على صفحاتها أو على (stories) تتميز تلك (القصص) في أن أغلبها شخصية، وتميل إلى إظهار الجسد ومفاتن الأعضاء الحيوية فيه، هل يفعل الضجر كل هذا ويدفع إلى مثل هذه التصرفات . أنا أكتب كثيراً في هذه الظواهر . فأُشتم، ويقال عني الكثير سواء في السر أو في العلن . إحدى النساء اعتادت قبل أن تخلد إلى النوم أن تنشر لساقيها صورة عارية، تبدو الساقين منفرجتين، وتصل الصورة إلى أعلى الفخذ . الصورة موحية جداً فهما ساقان مكتنزان أبيضان، ناعمان، ولا ريبَ عندي في أنهما ساقان طريان جداً، وتزيد الإيحاءَ تلك العبارةُ المصاحبة (للقصة) قبل النوم .

مما لا شك فيه أن النساء تعاني من الوحدة كثيرا، وتشتاق كل امرأة لرجلها أو لرجل ما يملأ عليها حياتها . ماذا يفعلن في هذه الوحدة القاسية . أتذكر مشهدا سينمائيا للممثلة المصرية يسرا في أحد أفلامها تقف فيه أمام المرآة عارية تماما وتتأمل صدرها وتتحسّس ثدييها وتبكي . مم كانت تبكي يسرا في تلك اللحظة ؟ إن هناك ملايين النساء حول العالم في هذه الظروف يبكين مما كانت تبكي منه يسرا، قبل الحجر وبعده، ولكن الحجر المنزلي الحالي زاد من حجم الكبت والألم، ولن تفلح كل أدوات التكنولوجيا ووسائلها أو الألعاب الجنسية من تخفيف ذلك الوجع .

ستخرج النساء بعد كورونا بمزاج صعب وشرس . وليس فقط النساء . إن ملايين الرجال حول العالم يعانون مما تعاني منه النساء . ليس هناك ما هو أقسى من الوحدة والإنعزال . لذلك ترى الإعتقال الإنفرادي، وهو عزلة بعد عزلة، وعزلة داخل عزلة، إمعاناً في الإنفراد والوحدة؛ بوصفه إجراء عقابٍ نفسيّ شديد الوطأة .

حارب الوعي الجمعي الشعبي العزلة، وظهر ذلك في كثير من الأمثال والقصص والحكايات، فنسمع "الموت مع الجماعة رحمة"، و"الجنة بلا ناس ما بتنداس" . بيوتنا جنات بلا شك، ولكنها تحولت إلى جحيم، وصرنا نشعر أن الغرفة الواحدة بملايين الجدران، ولم يغب هذا المفهوم عن الدين فوجدت النصوص الداعية إلى الإجتماع، والتحذير من الإنفراد، "فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية" . أصبح الناس مقصيين بفعل "التباعد الإجتماعي"، ثمة أخطار كبيرة بسبب ذلك، لعلنا سندرك جلياً المعنى الحقيقي لمقولة علم الإجتماع : "الإنسان كائن اجتماعي بطبعه"، ليس فقط من أجل تقديم الخدمات وأخذها وتبادل المنافع المادية، بل سيتضح معنى هذه المقولة لكل أفراد المجتمع من ناحية نفسية، فإذا أصبحوا منفردين في زنازين بيوتهم، أصبحوا يفقدون معنى الإجتماع الذي هو معنى وجودهم في المجتمع . فالمجتمع ليس مجموعة أفراد متناثرين لا علاقة لأحدهم بالآخر، بل إنهم معا يشكلون مجتمعا عبر ما يتشاركون به من مشاعر وأفكار وتواصل حيّ . هنا سنكشف مدى الفهم الخاطئ في التعريف الذي يقصر المجتمع على أنه مجموعة من الأفراد، ولم ينظر إلى تلك الضرورة من الإجتماع، والتواصل الذي يأخذ بلا شك مظاهر متعددة، تلاشت في ظل هذه الظروف .

إن تأمل ظاهرة تداعيات كورونا لا بد أنها ستأخذ الباحثين إلى مناطق أكثر حساسية مما نظن، فليس بالأمر الهيّن ما يحدث الآن في مجتمعات الدول، وظهرت بعض آثاره في الصور والفيديوهات، إن مصيبة كورونا أجبرت الناس على تحطيم ما يربطهم بداهة بعضهم ببعض، فاشتاقوا لبعضهم ولتلك الروح التي تحاول هذه الجائحة وإجراءآتها الوقائية أن تحدثها .

ها نحن ننتبه إلى أنفسنا جيدا، ثمة ما يدفعنا إلى الريبة وإلى الجنون، فقد كثرت الأخبار الطريفة؛ كتبت إحدى الصحف أن عارضة أزياء خرجت على متابعيها بفيديو رقص جريء، وأخرى بملابس فاضحة، وبفعل هذا الفايروس انتعشت مواقع التواصل الإجتماعي وضجت بما هو غير عادي وغير طريف، كما أن الحجر الصحي قد يدفع البعض إلى الإنتحار، وإلى ممارسة العنف، وآخرون وأخريات يلجأون إلى كسر القاعدة، فلم تبق أي قاعدة محترمة، فالظروف حطمت كل ما توصلت إليه البشرية من مفاهيم وأفكار، وجعلتهم أكثر حزنا وشقاء، وهم يسائلون مصيرهم البشري كل يوم يأملون فيه أن تزول الجائحة، ولكنهم يصحون صباحا كما ناموا في ليلتهم السابقة وهم في قفص . حالة عبر عنها الشاعر حسب الشيخ جعفر في ديوانه "رباعيات العزلة الطيبة" في قوله :

"في اعتزالي الورى، وانفرادي الكظيم

قلت: (أبتاع طيرا

فيؤنسني الطير) فابتعته

واحتملت القفص..

فاشتكى الطير مني اعتقالا

فأطلقته طائرا في الفضاء الرحيم

بينما أنا معتقل في القفص"

إن البشرية اليوم، وليس الشاعر وحده، كلها في القفص، والطيور سابحة في الفضاء الرحيم، فما الذي سيعيد البشرية إلى سابق عهدها ؟ ربما كما نتأمل الآن "ظاهرة عزل العالم في البيوت"، سيكون هناك مشهد أكثر درامتيكية عندما يُطلق سراح العالم من معتقله، ربما ستجد البشرية أكثر جنونا بفرح الحرية والإجتماع من جديد، وستكون مظاهر تلك الحرية صادمة ومخيفة، وكلما زادت مدة الحجر المنزلي عالميا ستكون إجراءآت التعبير عن الفرح بالحرية أشد لفتا للإنتباه، لذلك من الضروري ألا يتم الإفراج عن العالم دفعة واحدة، لربما مات كثير من الناس من شدة الفرح، كما مات كثير منهم من شدة الضجر، وأشباح الملل .

نيسان 2020

فراس حج محمد

‏كاتب فللسطيني عضو اتحاد الكتاب الفلسطينيين. أصدر (18) كتابا في فلسطين والأردن ومصر . نشر في العديد من الصحف العربية

 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved