في الشمال الشرقي لمدينة الموصل وعلى بعد 30 كم منها وعلى قمة جبل الألفاف أو ما يسمى جبل مقلوب، يقع واحداً من أهم وأجمل المواقع الأثرية والسياحية الذي يحتل ثلثي مساحة قمته، هو دير مار متي الذي أسسه الناسك السرياني مار متي في سنة 363 ميلادية بمساعدة الملك سنحاريب ابن سرجون الثاني ملك الإمبراطورية الآشورية، ويتبع هذا الدير مطرانية السريان الأرثودوكس، وإنضوى إليه بضعة آلاف من الرهبان والمتوحّدين من نواحي نينوى، وبقي هذا الدير يخدم العديد من الكهنة والرهبان اللذين يقيمون بشكل شبه دائم فيه .
هو عبارة عن مبنى يضم كنيسة، وصهاريج، وصوامع لسكن الرهبان، أحيط بسور كبير، وتم تعبـيد الطريـق المؤدي إليه بما يعرف (بالطَّبكي) وهي كلمة سريانية معناها المرتقي . وهذه الكلمة مأخوذة أصلا عن المصطلح السرياني «طبيوثو» الذي يعني المرتقى، وهو طريق يتسلق الجبل بين مرتفعين مرصوفين بالحجارة في إثنتين وثلاثين استدارة يتلوى يميناً ويساراً على امتداد كيلومتر واحد إلى قمة جبل مقلوب وعلى ارتفاع 2400 متر عن سطح البحر. ومع وجود طريق معبد للسيارات، ألاّ أن هناك من المسيحيين المتدينين ما يزال يصر على الإرتقاء إلى الدير سيرا على الأقدام، كما كان يصعده الرهبان منذ أكثر من 1600 عام .
في عام 480 م مارس السناطرة والفرس اضطهاداً على الأرثودوكـسيين في كنيـسة المشرق، ووصل اضطهادهم إلى هذا الدير، حيث أضرمت فيه النا ر فالتهمت كل ما فيه من آنية كنسية، وأثاث، وأتت على مكتبته العامرة، وتشرد رهبانه، وبعد عـام 544 عاد الرهبان ثانية إلى الدير فرمموا الديرواستأنفوا أعمالهم الكنسية، ولقد اشتهر الدير في أواخر القرن السادس والقرن السابع، إذ أصبح مركزاً هامـاً في كنيسة المشرق، كما اشتهر بمعهده الديني ومكتبته الذائعة الصيت، وامتـدت حقبـة الشهرة هذه حتى نهاية القرن الثالث عشر، حيث تعرض لهجمـات الفـرس والمغـول وتيمور لنك ودمروا المبنى تدميراً كاملاً وهُجِر لمدة طويلة من الزمن .
يعتبر هذا الديرأقدم دير في تاريخ العراق ومن أهم الأماكن المقدسة لدى المسيحيين، وتعتبر الكنيسة والدير من أهم وأجمل المواقع الأثرية والسياحية في منطقة شمال الموصل، ويوجد إلى جانب الدير كهف وفي داخلة مجرى ماء مباركة . ويزور المنطقة العديد من الزوار والسائحيين والطلبة من مختلف المدن العراقية . كما أن المنطقة المجاورة تعتبر متنزة رائع ويوجد كذلك في منطقة قريبة من هذا الدير الرائع شلال ( كلي زنطة ) الذي أضاف سحراً خاصاً وجعل منها منطقة سياحية رائعة وفيها العديد من المناظر والمواقع الجميلة .
عندما نقصد الدير عبر الطريق الممتد من مركز مدينة أربيل نمر بمدينة برطيلا وبعشيقة وبحزاني، وبالإضافة الى الطبيعة الخلابة والمناظر المذهلة نجد أن أبرز ميزة تعرف بها هذه البلدات الثلاث (برطيلا وبعشيقة وبحزاني) هي أنها تضم عراقيين من ثلاث ديانات، مسلمين ومسيحيين وأيزيديين، يعيشون متسامحين ومتداخلين مع بعضهم بعضا منذ قرون عدة .
عند رصد أبنية الدير الراسخة فوق قمة جبل مقلوب من عند سفحه، نجد أن دير مار متى بأبنيته الموغلة في القدم، والمشيدة من صخور الجبل ذاته، والأبنية الحديثة الأخرى المنسوجة مع القديمة، هو بناء ضخم ومهيب يشكل في مظهره تاجاً فوق قمة الجبل الذي يختلف في طبيعته الجيولوجية عن بقية الجبال المحيطة به، فهو الجبل الوحيد الذي تتجه صخوره على العكس من اتجاهات صخور الجبال الأخرى، ولهذا سمي بجبل مقلوب «كما سمي بجبل (الفاف) وهي مفردة سريانية تعني (ألوف أو آلاف) نسبة إلى بلوغ عدد الرهبان الذين تقاطروا على هذا الدير منذ بنائه وحتى القرن السابع سبعة آلاف راهب، وارتفاع قمته 3400 قدم عن سطح البحر، والدير مبني على مساحة ثلثي الجبل باتجاه القمة»، .
وتختلط الحقيقة بالأُسطورة في بناء هذا الدير، وتحضر الأسطورة بكل سحرها وتأثيرها، إذ تقول «الدير بني على أثر أعجوبة، إذ أشفى مار متى سارة ابنة الملك سنحاريب (نمرود) من البرص، فدخلت مع أخيها بهنام و40 ضابطا الديانة المسيحية وهجروا الوثنية، مما دفع بأبيهم الملك نمرود إلى الأمر بقتلهم لهجرهم الديانة الوثنية، فعاقبه الله بالصرع والجنون، فظهر الأمير بهنام في الحلم على والدته (شريني) وقال لها بأن تخبر والده الملك بأن يتوب ويعلن ندمه وأن يمضى إلى مار متى ويعتذر منه، وهذا ما عمله الملك في صباح اليوم التالي، إذ نادى القس مار متى، كي يشفي الملك، فأشفاه، فتحول إلى المسيحية، وصارت جميع المملكة مسيحية وذلك سنة 363 ميلادية حيث أمر ببناء هذا الدير» .
«مرت عملية بناء هذا الدير بمراحل امتدت إلى ما يقرب من 20 سنة، إذ انتهي من بنائه سنة 381 ميلادية، وشارك في بنائه أكثر من 20 ألف عامل، وعين عليه أول رئيس وهوالقديس مار متى الذي توفي سنة 411 ميلادية، وعاش أكثر من 90 سنة، ويسمي الشيخ متى نسبة إلى كونه كان طاعنا في السن، وتسمية الشيخ لا علاقة لها بالدين أوالمكانة العشائرية» .