في مثل هذه الإيام بالضبط، وقبل 39 عاما، ابتدأت الدراسة في الجامعات العراقية، وبسبب غوايات لا تنتهي، قبلت دعوة للذهاب الى الجامعة المستنصرية، المترفة الأجواء، حينذاك، حيث المكان البهي، والانفتاح الذي كان يميزها عن باقي غيرها من الجامعات العراقية، لاسيما انها كانت "خاصة"، حتى الى العام 1974، وهو ما يعنيه ان "ترفا" من نوع ما، كان يميزها، ينعكس على سلوك طلبتها، بل طالباتها على الأغلب، الى جانب الكثير من الفسحات الأنيقة التي يوفرها معمارها الجميل، ونظافة حدائقها وعطر ورودها.
الجامعة المستنصرية اواسط سبعينيات القرن الماضي
كنت صحبة رفقة، تجمعها إهتمامات فكرية متقاربة، يوم كان الطالب او الطالبة، شعلة معرفة، وتوق الى الإستزادة الثقافية، ويتقدم تلك الصحبة، طه عجام وزميلته (زوجته لاحقا) أمل محمد، (شقيقة الشاعر المعروف موفق محمد)، وطارق آغاجان الرقيق المهذب، ابن خانقين ثم الموظف الكبير لاحقا في امانة بغداد، وسعاد الجزائري، (الصحافية والكاتبة لاحقا)، ومؤيد الحيدري، الشاعر حينذاك ( الفنان والاعلامي حاليا)، وغيرهم .
كان اليوم الأول للدراسة، وعوضا عن الذهاب الى كليتي بصرامتها العلمية، حتى منذ اليوم الأول، اخترت تلك الرفقة، وانفتاح أجوائها وظرافتها، فضلا عن حماستها لكل ما هو جميل وأنيق وحتى الجدي في الثقافة والحياة. انه الاول من تشرين الاول، اليوم الدراسي الاول في الجامعات العراقية، ولكنه في ذلك اليوم العجيب الذي يشرق صباحا بهيا الآن في روحي وذاكرتي، إرتبط بطريقة احتفال انيقة لا تتوفر الا في اجواء الجامعة المستنصرية، ولا يمكن توقعها الاّ في تلك الفترة التي بدت وكأنها "مسروقة" من تاريخ العذاب والمشقة العراقي الطويل، فترة الإنفتاح السياسي والفكري، التي جاءت في عزّ شبابنا وألقه.
كنت صحبة المجموعة في ممر بقسم الاقتصاد، حين تعالت الانغام صادحة، ولكن برشاقة وعذوبة، انها انغام المقدمة الموسيقية، للمسرحية الغنائية الفيروزية الاحدث حينها "ميس الريم" (صدرت ربيع العام 1975)، واذا بالصوت الجميل يأتي من الحديقة التي تتوسط كليات الجامعة، عبر فرقة موسيقية عراقية شابة، ارتأت إدارة الجامعة ان تجعلها تعزف لساعة في اليوم الدراسي الأول، لكنها أدّت المقطوعة ثم الأغنية الأشهر "آخر ايام الصيفية" باتقان بالغ، زاده عذوبة وجمالا، الوقت: أول النهار، واعتدال الجو: نسيم خريفي خفيف، حتى ان معنى الاغنية الدال على آخر أيام الصيف، وفسحة المكان واناقته، جاءا بخفة النسيم ورقّته، الى جانب مفاجأة ان يجيد شبان عراقيون، عملا موسيقيا وغنائيا جديدا، فيكف بذلك العمل، وهو لفيروز، التي كانت أيقونة تلك الايام الرقيقة ونسيمها العذب.