أنا أعتبرُ جورج أورويل ( 1903- 1950 ) صديقاً، أعودُ إليه بين وقت وآخر، قارئاً أو مترجِماً، أو متلذذاً بسيرةٍ ليست كباقي السِيَر .
لقد مرّتْ سنواتٌ عشرٌ على ترجمتي كتابه
Down and Out in Paris and London
تحت عنوان :
متشرداً في باريس ولندن
وأنا الآن أخططُ لنقل كتابه :
Homage to Catalonia
إلى لغتي العربية
*
من المؤسف القولُ إن أورويل، قبلي، دخلَ إلى اللغة العربية، باعتباره من كُتّاب الحرب الباردة، عبرَ كتابَيه، "مزرعة الحيوان "، و" 1984 "، لكن الرجل لم يكن هكذا . لقد استُخدِمَ، ببراعةٍ، وقد أسهمَ مَن نقلَه إلى العربية في هذا الإستخدام مدفوعِ الأجر .
اخترتُ " كاتالونيا، يا لَلذكرى " لأسبابٍ، أوّلُها أن كاتالونيا اليومَ حاضرةٌ في الواجهة السياسية شأنَها على مَرّ التاريخ الحديث لشِبْه القارة الإيبرية، وثانيها لأن العمل يقدّمُ أورويل مناضلاً بالسلاح من أجل اليسار، حتى لقد جُرِحَ جرحاً بليغاً، كاد يُفقِدُه حياته، على الجبهة، ضد انقلابيي فرانكو والفاشية الأوربية الصاعدة في ألمانيا وإيطاليا . وثمّتَ سببٌ ثالثٌ، فلقد ألِفْتُ السفرَ إلى برشلونة ، حاضرة كاتالونيا، " خُلِقتُ ألوفاً " هكذا قال سيّدي المتنبي، كتالونيا حيث بيكاسو وخوان ميرو، و"ساحة جورج أورويل "، وراياتُ كولمبوس التي أتتنا بالعالَم الجديد، كما أن رحلة عودتي إلى بغداد أوائلَ السبعينيات، بدأت في سفينةٍ أبحرتْ من برشلونة .
*
هذه صفحةٌ من الفصل الأوّل :
في ثُكنات لينين، ببرشلونة، قبل أن ألتحق بالميليشيا، رأيتُ إيطاليّاً من الميليشيا، يقفُ أمام طاولة الضابط .
كان يبدو شابّاً شديداً، في الخامسة والعشرين أو السادسة والعشرين، كان ذا شَعرٍ أحمرَ مُصفَرّاً، وكتِفَين قويّتين.
كانت قلنسوتُه الجِلدُ تحجبُ، تماماً، إحدى عينيه . كان يقفُ وقفةً جانبيّةً إزائي، حِنْكُهُ على صدره، وهو ينظرُ مندهشاً إلى خريطةٍ وضعَها أحد الضبّاط على الطاولة . شيءٌ ما في وجهه أثارَني عميقاً . إنه وجهُ امريءٍ مستعدٍ للقتل أو تقديمِ حياته لصديقٍ - وجهٌ تتوقّعُه من فوضويّ ، لكنّ الشابّ كان شيوعيّاً . في وجهه جلالٌ وشِدّةٌ، وكذلك ورَعٌ عاطفيٌّ ممّا يحمله الأمّيّون إزاء مَن هم أعلى منهم منزلةً . واضحٌ أنه لا يعرف كيف يقرأ الخريطة . واضحٌ أيضاً أنه كان يعتبرُ قراءةَ الخريطة عملاً متثاقفاً غبيّاً . لا أدري لأيّ سببٍ، شعرتُ بودٍّ إزاء الشابّ، كما لم يحدُثْ لي من قبلُ، مع أحدٍ . وبينما كانوا يتحدّثون حول الطاولة، أعادتْني ملحوظةٌ إلى أنني كنتُ أجنبيّاً .
رفع الإيطاليُّ رأسه، وسألني مسرعاً :
إيطاليٌّ ؟
أجبتُه بإسبانيّتي الرديئة :
No , Ingles .Y tu ?
لا . إنجليزيّ، وأنتَ ؟
Italiano
إيطالي.