مركزيةُ الأخلاق في النظام الاجتماعي تُمثِّل منظومةً معرفية مُتكاملة، تشتمل على المعاني القادرة على تكوين التَّخَيُّلات، وتحويلها إلى سُلوكيات يَوْمية مُعاشة . والمعاني لا تتجذَّر في المجتمع إلّا بامتلاك مبدأ التَّوليد، والمحافظة على استمراريته ، أي : تَوليد الأفكار وتَوليد السلوكيات . وهذه الحركة المُستمرة تمنع المجتمعَ من السقوطِ في الفراغ، والغرقِ في تأويل الظواهر الثقافية الخاضعة للشُّعور الجَمْعي . وإذا تَمَّ توظيفُ الطاقة الفكرية الناتجة عن الحركة الإجتماعية المُستمرة، في تكوين رؤية جديدة للعَالَم قائمة على تبادُل المنافع والخبرات، بعيدًا عن الإستغلال والإضطهاد والصراع، فإنَّ قواعد تفسيرية جديدة ستنشأ في العلاقات الإنسانية، وتكتشف التفاعلاتِ الإجتماعية الرمزية التي تعتمد على اللغة باعتبارها حاضنةً للأخلاق والمبادئ والقِيَم المُطْلَقَة والنِّسبية .
وبما أن فلسفة الحياة اليومية مُستمدة من التواصل اللغوي والوَعْي بالمشاعر، فإنَّ سلوكيات متعدِّدة ومعايير مُتنوِّعة وأفكاراً إبداعية، سَتُساهم في بناء ظواهر إنسانية إيجابية عابرة للحسابات الضَّيقة والمصالح الشخصية والمنافع الفئوية والسياسات المُؤَدْلَجَة، التي تَدفع باتجاه الصِّدام معَ الذات، والصراع معَ الآخَر، لتمزيقِ الروابط الإجتماعية، وتحطيمِ مُستوياتِ الشعور الإنساني، وبناءِ كِيانات السَّيطرة ومشاريع الهَيمنة على أنقاض الأُمَم والشعوب .
وكُلُّ حضارة مَبنية على الحُطام هِيَ مُجرَّد وَهْم، وكُل أيديولوجية تنال شرعيتها من شقاء الناس واضطهادهم وابتزازهم، هِيَ مُجرَّد وسيلة تجارية لتحقيق أرباح مادية، بلا فكر سليم ولا عِلْم صحيح ولا عَقْل واعٍ مُدرك لطبيعة الإنتقالات الإجتماعية بين الأزمنة والأمكنة . وبناءُ الحضارة الذاتية لا يكون بزرع العقبات في طريق الآخرين، أو دفعهم إلى الوقوع في الحُفَر، وإنما يكون بتذليل العقبات في الطريق، وتَعبيده من أجل المشي عليه والوصول إلى الهَدف . وكسرُ مجاديف الآخرين لا يزيد مِن سُرعة قاربك . وكُل إنسان يأخذ مكانَه تحت الشمس باجتهاده الشخصي، ولا أحد يأخذ مكانَ أحد .
والأنساقُ العميقة في التفاعلات الإجتماعية الرمزية تُجسِّد حقيقةَ الحياة الإجتماعية،على كافة المستويات : الفردية والجماعية، المعنوية والمادية . ولا يُمكن إدراك هذه الأنساق والتحكُّم بها وتوظيفها لصالح معركة الوَعْي ضِد الوهم، إلّا بإدراك المعاني الكامنة في الشعور الداخلي للإنسان، والتي تنعكس على سلوكه وطبيعة حياته، وتُمثِّل مَاهِيَّةَ وُجوده وشرعيةَ صُموده في ظِل نظام اجتماعي مُسيَّس يَضغط على الظواهر الثقافية، ويُحاول امتطاءها لتغييب العقول، وحَقْنها بالمُسلَّمات الجاهزة، وحَصْرها في القوالب المُعَدَّة مُسْبَقًا، وإبعادها عن الأسئلة المصيرية التي لا تُجَامِل منظومةَ الفِعل الإجتماعي ( الجُزئي والكُلي )، ولا تُهَادِن سُلطةَ المعنى الرمزي ( اللغوي والشُّعوري ) .
وكُلُّ نظام فكري يخاف من طرح الأسئلة، يشتمل على بِذرة انهياره في داخله، وسَوْفَ يُدمِّر نَفْسَه بِنَفْسِه، ويَسقط معَ مرور الزمن، بسبب عدم امتلاكه لعناصر المناعة الذاتية . وكما أن المبنى ينهار إذا تَمَّ تفريغه من الهواء، كذلك العقل ينهار إذا تَمَّ تفريغه من الأفكار . والحَلُّ الوحيد لحماية العقل هو تكوين منظومة نقدية ذاتية، تعمل على اكتشاف العيوب والثغرات في الإنسان، من أجل التخلص مِنها . وهكذا، يَدخل الإنسانُ في حركة تصحيحية ذاتية، يَفْرِضها على كِيانه بمحض إرادته، لتحقيق المنافع، والتصالح مَعَ نَفْسِه، وتقليل نقاط ضعفه، ولا ينتظر أحدًا كي يَفْرِضها عليه . ونُقْطَة القُوَّة الرئيسية في حياة الإنسان هي معرفة أخطائه، والإعتراف بها، والعمل لتصحيحها بلا تبرير ولا هُروب مِن تحمُّل المسؤولية . وإذا هَرَبَ الإنسانُ مِن الدَّواء المُر بسبب طَعْمه، فقد حَكَمَ على نَفْسِه بالهلاك، وحَفَرَ قَبره بيدَيْه .