لا يحمل وصف ديوان ما بأنه "كلاسيكي" أي دلالة إيجابية أو سلبية، إنّما يشير وبحياد مطلق إلى ذلك المذهب الفني الذي استند عليه الشاعر ليكتب ما أراد كتابته، ولكل شاعر الحق في اختياره المذهب الذي يريده .
إن هذه المقدمة لا تمثل "احترازا" نقديا استباقيا تجاه ديوان "سدرة المشتهى"[1] للشاعر والروائي إياد شماسنة، وإنما محاولة تأسيس أفق خاصّ لتلقي قصائد الديوان، فتتم محاكمته بناء على مذهبه، ومن التعسف معاملة الديوان بأفق بعيد عن تلك الكلاسيكية التي تجسدت في قصائده، بدءا من العنوان وانتهاء بالصنعة الكلية للكتاب بوصفه ديوان شعر، مرورا بكل قصيدة على حدة .
تتضح الكلاسيكية منذ البداية في عنوان الديوان "سدرة المشتهى"[2]، ودون الدخول في تفاصيل العناوين وأهميتها في النقد البنيوي، يلاحظ القارئ استناد العنونة على محاكاة النص الديني، إذ يحيل إلى التعبير القرآني "سدرة المنتهى"[3]، ولكن هذا العنوان لا يحيل القارئ إلى أي شيء داخل الديوان، ولا تنمو حوله أية فكرة أو قصيدة، بل ربما لاحظ القارئ فصلا بين الديوان وعنوانه، كأن هذه الرأس "العنوان" لجسد آخر غير جسدها . لعل ما حدا شماسنة وهو يستقر على العنوان هو بحثه عن الإدهاش في إيجاد عنوان مغرٍ، وهذا حق للكاتب، بل مسعى حميد له، ولكن دون أن ينسى أنه لا بد من علاقة بين العنوان والديوان، وإلا كانت مجرد دهشة أولى تتلاشى تدريجيا كلما أبحر القارئ في نصوص الديوان .
تقودني هذه الفكرة إلى الإشارة إلى العنونة الكلاسيكية في النص الديني نفسه، وعنونة الكتب التراثية، فإذا ما كانت هناك علاقة ما بين النص وعنوانه في تلك الكتب، تجد أن عنوان "سدرة المشتهى" يبحث له عن متكأ فلا يجد أفضل من غلاف الديوان فحسب، ليظل وحيدا، لم ينحلّ بصورة أو بأخرى داخل الديوان، فلا رؤيا تحكمه، ولا فلسفة واضحة تؤطّره .
وما يزيد من غربة العنوان القصائد ذاتها، إذ إنها- بعيدا عن جودتها أو رداءتها بحد ذاتها- لا تشكّل وحدة رؤيا لدى الشاعر في الديوان، بل هي قصائد مجمّعة، قيلت في أزمان متباعدة، وظروف متباينة، ليصبح الديوان عبارة عن "مَجْمَع قصائد"، وليس ديوانا بالمعنى الذي يجب أن يكون عليه ديوان الشعر .
لقد سبق وناقشت هذه المسألة مرتين، مرة عندما طرحت سؤالَ "هل تفكر بإصدار ديوان شعر"[4]، والمرّة الثانية عندما تعرّضت بالدراسة والكتابة عن ديوان الشاعرة نائلة أبو طاحون "على ضفاف الأيّام"[5]، ثمة ما هو متشابه هنا أيضا، وملخص القول ما قاله الشاعر الفرنسي (جان- بيير روك): "ديوان الشّعر لا يجب أن يكون مثلا محشرا لنصوص متنافرة في الشّكل والمضمون ومتفاوتة في زمن النّظم، ديوان الشّعر هو شهادة حيّة على تجربة بعينها في حياة الشّاعر، وكذا ثمرة ما بلغه وعيه الفكريّ والجماليّ من تطوّر وليس أبدا تجميعا عشوائيّا لقصائد عثر عليها الشّاعر بالصّدفة في ملفّاته القديمة أو سبق أن نشرها متفرّقة في المجلّات أو استعادها من صديقات وأصدقاء كان قد أهداها لهم في مناسبات أعياد ميلادهم"[6] .
لقد جعل الشاعر إياد شماسنة من الشكل الكلاسيكي الجامعَ الوحيد لتلك النصوص بين دفتي الكتاب الذي سيصبح ديوان شعر تحت عنوان "سدرة المشتهى"، لقد أطّر تلك القصائد النمط الكلاسيكي للقصيدة الشعرية العربية، وهي قصيدة الشطرين، تلك القصائد التي تسير وفق النظام العروضي للخليل بن أحمد الفراهيدي، لكن الشاعر آثر أن ينثر الأبيات على جسد الصفحات لتبدو للناظر وكأنها "شعر حرّ"، وهي في حقيقتها أبيات منتظمة في قصائد موزونة، ذات شطرين بقافية واحدة لكل قصيدة .
هل يحقّ لأحد أن يسأل الشاعر لم فعلت ذلك ؟ هل فكر الشاعر في مراوغة القارئ عبر هذه الخدعة في تشتيت نظام البيت الشعري ؟ هل فكّر الشاعر مثلا بالإعتداء على الشكل الفني للبيت وتقطيعه بهذا الشكل، كأنه نوع انتقام من كلاسيكية البيت القديمة وتجاوزها ؟ وهل رأى الشاعر أيضا أنه بهذه الطريقة قد كسر الطوق الكلاسيكي وتحرّر منه ؟ هل ظن الشاعر، وهنا ربما من سوء الظن وبعض الظن إثم بالتأكيد، أن الشاعر قد استغبا القارئ فيما فعل ؟ ولكن لماذا لا أفكر بالمسألة بطريقة مغايرة من قبيل : ربما مشكلة تقنية دفعت الشاعر إلى التعامل مع الأبيات بهذه الطريقة؛ إذ إن ترتيب الأبيات بشكلها الكلاسيكي (عمودية ذات شطرين) فيه بعض الصعوبة، فمن رقن تلك القصائد على الحاسوب اختار الأسهل، إذ لو كتبت بشكلها الكلاسيكي المعهود دون التنسيق المطلوب لبدت قصائد غير جميلة في الشكل، ربما كان ذلك دافعا مهما لاختيار هذا المخرج مراعاة للناحية الجمالية .
ولكن ألا يمكن أن تحمل هذه الطريقة رسالة فنية ؟ وهذا من باب حسن الظن الذي ربما كان بعضه إثماً أيضا، فالشعر هو شعر، سواء أكان مكتوبا بطريقة كلاسيكية أم بطريقة مراوغة، فالمعوّل عليه هو عناصر الشعر الفنية ومحتواه، وذلك الإكسير الغامض الذي يجعل الشعر شعرا .
لقد قلت إن هذا من حسن الظن، وحسن الظن كسوء الظن أيضا بعضه إثم إن لم يكن كله إثما . فكيف ذلك ؟
إن قراءة فاحصة للقصائد تبين أن هذه القصائد ظلت كلاسيكية في مرجعياتها الفكرية، وفي تناصاتها الدينية والتاريخية والأدبية، ولم ألحظ تطويرا للفكرة التي تناصّ معها الشاعر، وظلت كلاسيكية كذلك في لغتها التي تمتح من معجم اللغة الشعرية القديمة، فظهرت ألفاظ : السيف والمرسوم والخيول والصعاليك وجمر الغضا والجحفل والمرجفون، وغيرها .
إن هذه الكلاسيكية لتبدو واضحة إذ تستدعي تلك النصوص الشعرية أصوات الشعراء السابقين، ومحاكاة باردة لأشعارهم وقصائدهم، وكأنها تعيد إنتاج النص السابق، فلم تدخل في حالة من الإشتباك المعرفي مع ذلك التاريخ الممجد في القصائد، فظل الشاعر أسير تلك القناعات الرابضة في بطون الكتب الدينية والتاريخية والأدبية، ولم يغادرها ليناقش على نورها أو نارها مشاكل اللحظة الراهنة، وإن حاول أن يوجد علاقة مع الواقع المعيش أحياناً إلا أن تلك العلاقة غدت خجولة، رجعيّة، لترتبط كل المسائل بتلك الرؤى القديمة، فتكشف تلك القصائد عن أفكار الشاعر ومعتقداته الدينية والسياسية، فلم يتحرر من ذلك التاريخ الذي أرجع القارئ إليه .
كما أعادت تلك القصائد القارئ إلى كلاسيكيات الإيقاع للقصيدة القديمة، تلك الإيقاعات الناشئة عن الألفاظ التراثية والقافية المعجمية القوية، وبناء الجملة الشعرية، فثمة قصائد عربية قديمة تسكن في "سدرة المشتهى" منذ العصر الجاهلي وحتى العصر المملوكي والبيئة الأندلسية، وربما أيضا حضرت بعض أصوات شعراء العصر الحديث من الكلاسيكيين الجدد، عدا ما يعتري تلك القصائد من عيوب الشعر الكلاسيكي كغياب الوحدة العضوية في بعض القصائد، واعتمدت بدلا من ذلك على "وحدة البيت"، فلا رابط بين أبيات بعض تلك القصائد سوى الوزن والقافية، وتلك اللغة التي أشرت إلى بعض ملامحها .
ثمة مشكلة حقيقية أخرى في هذا الديوان، حيث استند الشاعر في بنائه بعضا من قصائده وقوافيه على مقولة "الضرورات الشعرية" القديمة، هذه المقولة التي تحرر منها الشاعر المعاصر، إلا إن شعراء الكلاسيكية الجديدة لا بد من يركنوا إليها إذا ما أصاب القصيدة خلل ما . لقد وقع الشاعر في العديد من الأخطاء، ولست أقصد بطبيعة الحال أخطاء الضبط التي تقع سهوا، وإنما تلك الأخطاء النحوية التي يرتكبها الشاعر قصدا من أجل استقامة الوزن، وكانت مبثوثة في ثنايا قصائد متعددة .
لقد عزز الشاعر كلاسيكيته في اجتراح الحكمة، وهي إحدى مميزات النص الشعري القديم، وخاصة عند الشعراء الفحول، وتعيد هذه الحكمة إلى الأذهان صورة الشاعر التقليدية، إذ كان حكيما رائيا، يقينيا، عكس القصائد الحديثة للشعراء المعاصرين، فلا تبحث عن الحكمة ولا عن اليقين، بينما قصائد "سدرة المشتهى" تستند إلى يقينية المعنى والمعرفة، فكانت تنتهي بالحكمة بدل أن تنتهي يقلق السؤال أو دهشة الذهول في البحث عن مجهول، تطارده القصائد المعاصرة غالبا .
لقد ساهم هذا العامل مع عوامل أخرى أشرت إليها سابقا في خفوت الصورة الشعرية في الديوان، فغابت الصورة الشعرية اللافتة للنظر، فانغماس تلك القصائد في كلاسيكيتها حرم الشاعر من بناء صوره الشعرية المغايرة لغيره، وبالتالي خلّق شعرية خاصّة به، ويضاف إلى تلك العوامل التي أثّرت في الصورة الشعرية، اعتماد بعض القصائد على السردية، فكانت أشبه بالقصص أو بالسرد التاريخي لوقائع غابرة، فوقعت تلك القصائد في غواية نظم المعنى المترابط في الذهن حتى لتشعر أن تلك القصائد قد قيلت بصنعة سردية واضحة، لكنها ليست "الصنعة البلاغية" بالمعنى الإيجابي لمفهوم الصنعة . لقد أفادت تلك السردية تلك القصائد القصصية في تحقق الوحدة العضوية والموضوعية التي غابت عن قصائد أخرى، ولكن هذه السردية جفّفت ماء الشعر وحدّت من رواء القصيدة ومن بهاء اللغة .
لقد سيطر على إياد شماسنة في هذا الديوان النّفس السرد الذي كان له حضور في كثير من العناصر، فتراجع الشعر فيه كثيرا لصالح الرؤى السردية، مما جعله أقرب إلى حكايات منظومة مسرودة بطريقة الوزن والقافية، وهذه المسألة ليس لها علاقة بتداخل الأجناس، كما قد يتوهم بعض النقاد أو الدارسين، وإنما هي ملمح، إن لم أقل مشكلة، ظهرت لدى الشعراء خلطوا الشعر بالرواية في مشروعهم الأدبي، فأفسدوا أحدهما إن لم يفسدوا الاثنين معا، فتراجع الخيال الشعري الخلّاق لصالح السرد البسيط. بل إن الشاعر مات أو كاد في نفوس هؤلاء الشعراء الروائيين ولم يعد له وجود، وأخشى أن يكون صاحب "سدرة المشتهى" من هؤلاء الشعراء الذين أماتتهم الرواية في دهاليزها وردهاتها الواسعة .
______________________
الهوامش:
[1] صدر الديوان عن دار موزييك للنشر والدراسات، تركيا، 2020.
[2] يشار إلى أنّ عنوان الديوان مسبوق إليه بديوان شعر آخر يحمل الاسم ذاته للشاعرة المصرية دعاء رخا، صدر عن دار لوغاريتم عام 2019.
[3] ورد هذا التركيب في الآية الرابعة عشرة من سورة النجم.
[4] يُنظر: بلاغة الصنعة الشعرية، دار روافد، القاهرة، 2020، (ص339-343).
[5] يُنظر المقال في موقع ألترا صوت من خلال الرابط الآتي: https://cutt.us/tizoe
[6] الشعر في زمن اللا شعر، ترجمة رشيد بنحدو، دار الصّدى، 2016، ص120-121.