الفرس والفروسية في حضارة وذاكرة المغاربة

2020-12-04

لا شك أننا نقف عند ذكر الفرس وقفة تأمل طويلة، وإن كان لكل منا تقدير لجمال الخيول وهيبتها ومهاراتها، فإننا نتفق عند الحديث عن أدوار الفرس، وعن تَمَثُّل سمات القوة التي تعد أول ميزة نستحضرها عند ذكر الخيل وتقدير حضورها في السلم أو الحرب، كما أن للفرس أوصافاً وتفرداً بين عناصر جنسه، فقد ذكر دوماً مع سمات النبل والخيلاء وهالة الزهو، كما عرف عنه القرب العاطفي ورِقَّة المشاعر... إذا انطلقنا من معاجم اللغة فإننا نتلمس ما حظي به الفرس عند العرب من عناية وما مثله في تاريخنا الثقافي وذاكرتنا ومجتمعاتنا بدءاً من الإسم. فقد وردت الإشارات إلى حوالي مئتي إسم نذكر من بينها، الأغر، الأدهم، المألوف والظل، وإذ كنا لا نحتاج إلى التوقف عند أوصاف الخيول وخاصة العربية منها في هذا العرض، فإننا نحتاج أكثر إلى بعض الإشارات الدَّالة على حب الفرس عند العرب وعند المغاربة بشكل خاص . ولذلك نقسم حديثنا عن الفرس والفروسية إلى ثلاث وقفات :

- الخيول في المغرب منذ الفتح الإسلامي .

- فنون الفروسية والإشعاع الحضاري .

- المدلول الثقافي والرمزي للفرس في الواقع والذاكرة .

وقبل ذلك لنا في هذه الديباجة إشارة إلى القرآن الكريم "العاديات" و"الموريات" (سورة العاديات) .

فقد أقسم بها الله تعالى للدلالة على خدمتها للإنسانية وجاءت كلمة تضبح لأنها تحدث أصواتاً قوية عند شدة الركض كما أنها ترى وهي تحدث بأقدامها الشرارة وتثير الغبار، وهي شديدة الوقع في النفس قبل المعارك . أما الرسول r فقد قال «علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل»، فهي من بين قواعد التوجيه التربوي وتحقيق الكفاءة البدنية .

أما أشعار العرب فلنا فيها رسوم وأوصاف بدءاً من اعتداد المتنبي بنفسه :

"الخيل والليل والبيداء" تعرفني       والسيف والرمح والقرطاس والقلم

وعند امرؤ القيس الذي أحَبَّ الفرس ووصفه وصفاً دقيقاً وجميلاً :

         وقد أغتدي والطير في وُكُنَاتِهَا بِمُنْجَرِدٍ قَيْدِ الأَوَابِدِ هَيْكَلٍ

                       مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعاً كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلٍ

أما عنترة فقد حَمَّل الخيل أخبار الإقدام والشجاعة :

هَلاَ سَأَلْتِ الْخَيْلَ يَابْنَةَ مَالِكٍ      إِنْ كُنْتِ جَاهِلَةً بِمَا لَمْ تَعْلَمِي

ونعود في حديثنا عن الوقفة الأولى للإشارة إلى ما أورده الأستاذ عبد الحق المريني حول وجود نقوش على الصخور تثبت حضوراً قديماً للفرس في المغرب وكيف تطور دور الفرسان منذ العهد الروماني، لكن أقدم فرس عربي ظهر في تاريخ المغرب هو فرس الفاتح عقبة بن نافع الفهري الذي أدخل قوائم فرسه على شاطئ أسفي وأشهد بقولته الشهيرة أنه حقق الهدف ولولا البحر لمضى مجاهداً..

وخلال الفتوحات الإسلامية امتزجت سلالة الفرس العربي بسلالة الفرس المغربي البربري والذي أطلق عليه "الفرس بارب" Cheval Berbe، وأصبح صالحاً للركوب وصعود الجبال وجر العربات والمشاركة في المعارك، ثم بدأت سلالة جديدة للخيول لتتوحد من حيث الأصل أي أن الخيول التي اختلفت أوصافها وأنسابها وألقابها حسب القبائل وَحَّدَتْهَا الهوية الأصيلة .

وتضيف المراجع أن الوجود القوي للخيول يرجع إلى العهد الموحدي بعد نزوح القبائل العربية الهلالية، ومنذ العصر الوسيط يسجل التاريخ حضور الخيول ضمن الهدايا الموجهة للأمراء والملوك، أيام الموحدين والمرينيين ويكفي أن نشير في تاريخنا الحديث إلى هدية المولى إسماعيل للويس الرابع عشر، وكانت عبارة عن خيول مغربية أصيلة، ونفس الشيء بالنسبة لكل من محمد بن عبد الله والمولى عبد الرحمان بن هشام . أما عن المشاركة في الحروب وإخماد الثورات فكل مصادرنا التاريخية تشير إلى تقديرات أعداد الخيول والفرسان في الجيوش وإن كنا لا نأخذ الأرقام بنوع من الجزم، بل إن قراءاتنا التاريخية تقديرية توثيقية .

وفي وقفتنا الثانية لابد أن نلاحظ التأثير الحضاري لحضور الفرس في ثقافتنا، وربما نتوقف هنا عند اهتمام المغاربة الأدباء بوصف الفرس والتأليف في الخيول وفي المكتبات المغربية ما يشهد بذلك. ومن أشهرها مثال أرجوزة عبد القادر بن العربي القادري الحسني المتوفى سنة 1179 ه/ 1765 م بعنوان: يتيمة الأجياد في الصَّافِنات النجباء الجياد التي نظمها وفصل فيها القول عبر 345 بيتاً حول الصفات والفضائل والخصال والأصناف وأسماء الأعضاء ثم الأمثال التي قيلت .

وقد صدر مؤخراً كتاب لمحمد بن عبد القادر بن عثمان الخبزاوي الإدريسي الحسني الذي أقام شرحاً لهذا الكتاب بعنوان "نزهة خواطر العباد في يتيمة الأجياد في الصَّافنات المعدة للجهاد" محققاً محمد سعيد الحنشي وإن كانت كلمة الصافنات تعطينا صورة جميلة تستجدي ريشة الفنان، فإننا نكتفي هنا بالقول بدور الفرس في الثقافة المغربية وفي المجتمع ككل .

لقد شكلت ثقافة الفروسية في المغرب نمطاً ارتبط فيه دور الجهاد والأبعاد السياسية بدور المكونات الثقافية وتأصيل الفنون التراثية ذات الأبعاد الاجتماعية، فقد غدت من أهم أسباب الفرجة، لكن الفروسية الراسخة في الذاكرة الشعبية متنوعة الأبعاد، فهي عنوان للاحتفالات في مواسم الأولياء وفي الأعراس، وهي أيضاً عنوان لعادات الوطن وعنايته بالخيول وهو ما نراه اليوم في المهرجانات الوطنية والدولية ومنها الدور المغربي الملكي للقفز على الحواجز، وأسبوع الفرس في دار السلام ومعرض الفرس بالجديدة وموسم مولاي عبد الله، أما عن التبوريدة فقد عرفت مشاركة سَرْبَة نسوية أكدت أن المرأة قادرة على اختراق هذا المجال وقد انطلقت التجربة أولاً من دكالة .

وقد حَظِيَ فَنّ التبوريدا بتقدير وطني بعد إحداث جائزة الحسن الثاني، ومن هنا يمكن أن نتفق على أن في الفروسية فن شعبي لكنه فن متجدِّد وأنه أحد الطقوس الاحتفالية التي تشهد على العراقة وعلى القواعد المتوارثة وعلى أسلوب الترفيه الذي يرقى بالفرس ويرتقي به. فالطلقة الواحدة المدوية للفرسان في فضاء يحظى بالزغاريد والمواويل ويوصف في أغاني العيطة والملحون والتراث الموسيقي عموماً، مشهد يحاكي الثوابت التي رسخها الفرس والفروسية بكل التعابير الدالة على الشجاعة والإقدام والنخوة والنبل والتعلق بمحامد الأخلاق...

أما وقفتنا الثالثة فتهم المدلول الرمزي والثقافي فضلاً عن الديباجة الواردة، انطلاقاً من الواقع؛ فالمغرب باعتبار تاريخه وبناء دولة شهد ملامح ومعارك كبرى أكدت دور الفرس والفرسان في الانتصارات. فالفرس في القديم هو سلاح استراتيجي هام، لذلك نستطيع أن نستحضر انتصارات المغاربة أيام المرابطين والموحدين في الأندلس، ويكفي أن نتذكر معركة وادي المخازن أو أن نلاحظ تنقلات قوات المولى الرشيد لتوحيد المغرب أو ما بذله المولى إسماعيل من جهد لإخضاع القبائل الجبلية الثائرة وما إلى ذلك مما ينطبق على تاريخ العالم في العصور الوسطى والحديثة قبل اختراع التقنيات والآلات التي عصفت بتقاليد القتال التقليدي .

ولا تخلو الذاكرة المغربية من استحضار لدور الفرس ومواسم الفروسية، حيث نجدها أولاً في التداول الشعبي للروايات والحكايات ثم نجدها قد ترسخت أكثر مع بداية القرن العشرين عندما أسهم التصوير في نقل صوَّر حية لهذا الموروث، وأخذت ريشة الفنانين تتنافس في تقديم اللوحات وتوقيع الجمال من وجهة نظر كل منهم ليتولد فن (السينما) التي غيَّرت كل قواعد الموروث الفني، وفي الذاكرة دائماً يمكن أن نذكر أهمية الشعر ونخص هنا من تراثنا الثقافي الشعر الملحون الذي يختزل مقومات تلك الثقافة وذلك التراث، ومن بين المواضيع التي تناولها المغاربة نجد إشادة برمزية الفرس وأمجادها التي اقترنت بذكره، ونأخذ مثالاً من بعض مميزات الخيول في قولهم :

        الْبَرْكِي خَارَجْ مِنْ تَحْتَ مُّو

        والازْرَك يَجْمَعْ فُمُّو

        والأدْهَمْ مَا تَرْفَدْ هَمُّو

                                محمد بن عليّ

أو ما جاء في قصيدة "المرسم" (للشيخ ولد أرزين)

أمولاي واين الخيول         يا مرسم واين سروجهم

الأبيض والأدهم واغرابي    لزرك والحمر واصنابي واحجر الواد لونه سابي

واسروجها امن الذهب     باش انرتكب          ساعة الحرب

إلى ركبوا أبطال بمهامز      واركبات من أوريق     ولجمات اعقيق

                        والبطال افراسن يدكاروا

                        واعطيني لخبار

ونختم بالإشارة إلى ما كتبه المغاربة من قصص ومسرحيات وروايات بالإضافة إلى دواوين الشعر العمودي أو وصف الفلكلور، ونذكر من بينهم ما كتبه المرحوم أحمد المجاطي، ومحمد الأشعري والميلودي شغموم، وعبد العزيز بنعبد الله، محمد اشماعو، والحسين زروق، وعبد الكريم برشيد، وعليّ الصقلي، وحسن الطريبق... مما يدل على الأصالة الثقافية للفرس في المجتمع المغربي وعلى انبعاث الفروسية في عصرنا كظاهرة جديرة بالتوثيق والعناية .

وعندما نخص بالذكر مسألة الفروسية فإننا نجد زخماً من الإشارات الخاصة بكل منطقة وأن لكل قبيلة اعتداد بفرسانها ورجالها، وإذا حصرت القول في مثال قريب أتحدث عن قبيلة أحمر بشرق قبائل عبدة قريباً من الشماعية حيث اشتهرت كمركز للتدريب ومدرسة للرماة منذ أواخر عهد الدولة السعدية وهي مدرسة متكاملة، فهناك  قوانين وشيوخ وطقوس، وتذكر الدراسات أن المدرسة الحمرية للرماة بدأت مع عدد ممن رافقوا الشيخ أحمد أوموسى السملالي السوسي في رحلاته، وأن أحد رجال الزاوية الناصرية الذي استقر في المنطقة كان من تلامذته ولعله من مريديه أيضاً. ولأهمية هذه المدرسة كان الملوك يعتمدون عليها في تكوين وتدريب الفرسان .

ونختم بالقول بأن الفرس من أسباب التفاخر والشجاعة وأنه من أسباب هيبة وعظمة الأمراء والسلاطين، وأنه حظي بجمال تصنيف السروج الملونة والْأَسْقاط الذهبية والجلاجل وأنه أهم قاعدة في البروتوكول السلطاني، ولا أدل على ذلك من خروج الملك سيدي محمد ومَنْ قَبْلَه لاستقبال وفود البيعة ممتطياً أجود وأجمل الأحصنة .

 

د. نفيسة الذهبي

كاتبة وباحثة مغربية

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved