إلى المهندسة جيهان تميم بولاية أريزونا/ARIZONA
انتهت مدة التدرب التي أمضتها في بلجيكا.. قررت أن تجرب السفر في الحافلة للعودة إلى الوطن .. خطرت لها الفكرة بعد جولة في منطقة حول محطة "ميدي" ببروكسيل . في شارع جانبي لاحظت أن وكالات السفر المختصة في هذا المجال نبتت مثل الأعشاب الطفيلية.. واجهاتها تمتزج فيها الكتابة العربية والفرنسية .. تجذبك ألفة ما نحوها.. لعل كثرة القادمين إلى هنا من بلادها، ساهمت في ذلك .. السعر القياسي لخطوط الطائرة في ذلك الإتجاه، بالنسبة لمواطنيها فقط، قد ساهم في تنمية قطاع السفر بالحافلة .. استفاد منه الأجانب والعرب .. ربما هناك قوانين اقتصادية لم يعرفها لا " سميث" ولا "ريكاردو".. يجب أن تحطم قطاعاً لكي ينمو قطاع آخر ..هذه هي التنمية.. ربما هو ليس تحطيماً بل تطويراً وتقدما .. فكرت .. هي ليست عبقرية اقتصادية لتقدم الحجج والبراهين ...
توجهت إلى إحدى الوكالات، لتحجز تذكرة السفر.. أغراها اسم الوكالة : وكالة نجمة.. هي تعشق النجوم.. كثيرا ما تجلس إلى نافذتها بالليل تحدق في السماء .. تتابع تلألأ النجوم.. أحيانا تحاول عد بعض المجموعات .
الوكالة هي ملك عرب وأجانب.. استقبلها الموظف وقام بالإجراءآت اللازمة وسلمها التذكرة .
موعد إقلاع الحافلة هو الساعة الرابعة زوالاً . شكرته وانصرفت . لن تعود إلى مسكنها ستواصل التجوال بالمدينة الجميلة لتودعها ..
أمضت ليلة السفر مع بعض الأصدقاء والصديقات لتوديعها.. تطوع أحدهم فوعدها لمصاحبتها إلى المحطة، ومساعدتها في حمل الأمتعة التي تراكمت لديها . وفى الصديق بوعده يوم السفر . كانت الساعة تشير إلى الثالثة والنصف زوالا . وضعت أمتعتها أمام العنوان الذي أعطوه لها في الوكالة .. سحبت صندوق الكتب والحقيبة إلى جوار الجدار ريثما تتعرف بالضبط على المحطة.. تفصد العرق من جسمها بسبب الإجهاد في السحب.. الريح الباردة تلمع وجهها ويديها .. سماء بروكسيل في حداد دائم ..
جالت بعينيها لاكتشاف المكان .. منطقة لا توحي بأي جمال أو سحر مما تحتضنه منعطفات بروكسيل .. ربما لم يأت دورها في التهيئة والتجميل.. ضجة "الترام مواي" تقصف الآذان التي اعتادت الهدوء..
التفتت تبحث عن باب المحطة.. لم تجد في العنوان المحدد سوى فراغ، لا شيء فيها ينم عن أنها محطة لحافلات "عابرة القارات" . دخلت إلى القاعة .. انتبهت إلى وجود حفرة بالسقف تؤدي إلى سقف بناية خلفية مجاورة .. منظرها ينذر بسقوط السقف.. الجدران قذرة، يتوسط أحدها باب صغير مغلق بقفل.. الأرضية لا لون لها من شدة القذارة .. الغبار والبقع .. ليس هناك أي مقعد لا خشبي ولا حجري ..
أخذ يساورها القلق.. راجعت العنوان.. ليس هناك أي خطأ .. تعرف أن الوكالة توجد على مقربة من ذلك المكان.. تستطيع الذهاب إليها للاستفسار .. لكن ليس هناك أي مسؤول ولا مسافر ولا حتى الحافلة . كيف ستسحب كل الأمتعة لتذهب إلى الوكالة ؟
تخلت عن الفكرة .. لم تصل الساعة بعد إلى الرابعة .. لتنتظر .. ظل يلح عليها السؤال : هل هذه هي محطة الحافلة التي ستعبر نصف بلجيكا، ثم فرنسا، ثم إسبانيا ؟
تذكرت عادتها السيئة.. تبحث دائما عن نقط الإستناد ونقط التعرف .. تهتم بالتفاصيل والجزئيات..
أخذت تحادث نفسها :
أنسى أنك تنتظرين "عابرة القارات" .. أنت الآن في بروكسيل عاصمة الجمهورية الإقتصادية الأوربية .. ألم تزوري بنايتها ؟ ألم تبهرك هندستها وتطاولها إلى عنان السماء، شكل آية في الجمال والتناسق والنظافة.. اشمئزازك من القاعة - المحطة -لا معنى له . كان عليك أن تحجزي تذكرتك في الطائرة، حتى تتمتعين بصالات مطار بروكسيل، ومرفقاته الأنيقة ونظافته ونظامه ودفئه..
تناولت من جديد البطاقة التي تسلمتها من الوكالة . تأملتها .. تأكدت أنها وكالة مشتركة عربية بلجيكية، فيها مساهمون وموظفون من الجانبين ..نوع من التعارف الإقتصادي الجديد .
عقارب الساعة تزحف ببطء . وصلت الساعة الرابعة والنصف . ربما تأخرت الحافلة لعطب ما .. لكن لم تأخر المسافرون ؟ هل أخبروا بالتأخير ونسوها هي .. هي لا تقيم في بروكسيل. الموظف الذي سلمها التذكرة سجل عنوانها حين الحجز.. تأكدت من التاريخ والساعة المسجل فيها . هي لم تخطئ في شيء . أقنعت نفسها بأن تتحلى بالصبر .. الصبر حكمة.. هكذا علموها .. إن الله مع الصابرين ..
أخذت الحكم تتوارد على ذهنها .. تتالى كصفحات اليومية العربية التي كانت تتابع فيها تواريخ الأيام . لم تتذكر ما كانت تقرؤه فيها من حكم .. تذكرت فحسب ما كان يردد على سمعها، في ذاكرتها الماضية والحاضرة : "لا تكوني أخف من رزفك" .. " العجلة من الشيطان"، " المسافر بيد الله"، "الغائب حجته معه"، "كل تأخير فيه خير" ..
شيئان كانا يحيرانها في تلك الحكم : الأول أن كل موقف له حكمته الخاصة المفصلة على مقاسه، والقاني هو تلك المسافة بين أول الحكمة وآخرها، بين الصفر والنهاية .. بالتأكيد أنه ينقصها الفهم والتمييز..
أيقظتها من هذيانها الداخلي جلبة قدوم المسافرين إلى القاعة- المحطة . كانت الساعة تشير إلى الخامسة والنصف .. كيف لم تحسن الإنصات ؟ كيف لم تميز كلمة الرابعة والخامسة ؟ ألا تحسن العربية والفرنسية ؟ الكلمة ليست من القاموس.. هي لغة اليومي .. لعلها لغة أصبحت لها معاني أخرى تجهلها هي .
لا داعي الآن للقلق . لتنسى زمن الإنتظار وحسرته .
اتجهت إلى أمتعتها وجلست على الصندوق .. اتخذت وضع المنتظر العادي.. السفر الآن مؤكد.. تخلصت من القلق . استمرت تتابع حركات ولغط المسافرين القادمين إلى المحطة .
إنها الآن في الغرب.. كيف نسيت في قلقها أن الغرب هو النظام، التوقيت، البرمجة، التخطيط، الفعالية.. لقد حشوا دماغنا بتلك المقولات، الخصائص، بتلك المفاهيم وسموها " الحضارة الغربية" . وحضارتك أنت ؟ أليست حضارتك هي التي تتميز بالتوقيت المضبوط لطلوع الشمس وغروبها ؟ للصلوات الخمس، للشهور، شهر رمضان، موسم الحج ، ليلة القدر.. أليس العرب هم الذين طوروا نظام آلة قياس الزمن ؟
لم تفكرين في الحضارات الآن ؟ أنت تنتمين لحضارة تخلفت، تحجرت، لحقها العفن من جراء التخزين والإبعاد، إبعادك أنت .. وإبعاد الحضارة..
انتفضت كأن حشرة لدغتها .. عليها أن تنتظر في صبر وأناة، وتطرد عنها هذه الوساوس.. حضارتها هي التي أوصلتها هنا لمتابعة التدريب والدراسة، حضارتها هي التي بدأت من "اقرأ باسم ربك الذي خلق" .. في المغرب يقال للمتعلم "قاري" . "علم الإنسان ما لم يعلم " . القراءة تشتمل الدين والعلم، لكن لماذا تسجل الأمية أعلى نسبة بالذات، في البلاد التي تؤمن بمعجزة القرآن ؟ ربما هناك سر ما.. لماذا تحلقين في موضوعات ليست من شأنك ؟ ما شأنك أنت ب لما ذا ها ته؟
انتبهت ثانية إلى القاعة - المحطة-..حلق عليها السؤال ثانية .. كيف أصبحت هذه المحطة بقعة، تستطيع أن تضعها في أية منطقة من وطنها الكبير؟ بعيدا عن العواصم بل في محيطاتها ؟ أنت الآن في عاصمة المجموعة الأوربية، فكيف تفاعلت الحضارتان هنا ؟ كيف تفاعل أصحاب هذه الوكالة ؟ كيف أثر التخلف على التقدم ؟ وأين التخلف وأين التقدم ؟
ما شأنك أنت بكيف ولماذا ؟ أنت تحرمين نفسك من المتعة والإنتشاء بسويعات أخيرة، في عاصمة من عواصم الحداثة والمعاصرة..
كثر الهرج والمرج . فتح الباب الصغير المقفل الموجود داخل القاعة -المحطة- . رفع الستار الحديدي من فوهة في الجدار المطل على الشارع . علا صوت مناد يستحث المسافرين للتقدم لتسجيل وزن الأمتعة . قامت هي أيضا من جلستها فوق الصندوق.. ظلت مشدوهة من تلك الجلبة والصخب . الكلمات المتقاطعة .. الإشارات.. الغمزات تتناثر في كل اتجاه، توحي بأن الأمر ليس سفراً بل بشيء مهم خطير..أصابع تنقبض وتنبسط.. يصاحبها انقباض وانبساط الأسارير، يتلوه التجهم.. حركات سريعة لا تلاحق عقارب الساعة سرعتها .
نهرها المنادي كي تقدم أمتعتها إلى الميزان.. الأمتعة توزن لركوب هذه الحافلة كما في الطائرات . الوزن محدد، ما يفوقه يدفع حسب تسعيرة معينة . دفعت مبلغ الوزن الزائد لديها بدون مناقشة . غبطت نفسها لأنها احتفظت ببعض الفرنكات البلجيكية .
فجأة اشتدت حدة الجلبة.. أخذ المسافرون يتدافعون، يزيح بعضهم بعضا، يدوسون على الحقائب والصناديق.. يتقافزون كقردة في قفص حديقة الحيوان . الحافلة المنتظرة وصلت أخيرا.
كان شاب واقفا يتفرج على المشهد بهدوء، اقتربت منه سائلة :
- أليست المقاعد بالأرقام ؟
بدل الإجابة سألها :
-هل أنت وحدك ؟
-نعم.
- لقد حجزت مقعدين في الأمام، بإمكانك، أن تجلسي بجانبي .
- لك الشكر الجزيل .
فهمت أن الأرقام على التذكرة مثل أرقام الميزل : تنمحي حين تصعد إلى الحافلة، والأخرى حين تنزل الأمتعة .. لم تجرؤ على سؤال الشاب، كيف استطاع حجز مقعدين في قلب هذه الفوضى والجلبة .
اقتربت من الحافلة . لاحظت أن القسم الخلفي منها، تشغله لفافات الزرابي البلجيكية.. ألغي بها دور المرحاض والثلاجة الموجودين .. هي حافلة حديثة، إذن تشحن البضائع وتشحن الأفراد في نفس الآن .
الزربية البلجيكية لها قيمة كبرى، لا تنعم بها سوى في الحافلة، وفي بلدها لأنها مستوردة . أما الزربية المغربية، فجمالها وروعتها، لا ترضي غرور الناس ..لا تدل على أنهم كانوا با "لخارج "، وأنهم ذووا ذوق معاصر .
دار في خلدها : ما شأنك أنت باختيار الناس للزرابي والحافلة ؟ الأولى وسيلة لتغطية المصاريف، والثانية لتأدية خدمة للمغتربين .. لماذا تدسين أنفك في كل كبيرة وصغيرة .. الأذواق تختلف والإنسان يتكيف مع واقعه.. ما يهمك أنت من هذا التكيف، إن كان تكيف قردة أو تكيف أناس .. أنت في غفلة عن أمور عديدة .. تستيقظين فجأة، وتحاولين فهم كل شيء ؟
ليس لديها قوة على التزاحم.. من حظها السعيد أن الشاب حجز لها مقعداً بجانبه.. تمهلت إلى أن هدأ التزاحم .. صعدت إلى الحافلة وأخذت مكانها بجانب الشاب مجددة له شكرها .
حاولت أن تخرج من دوامتها الداخلية .. من ما تراه أمامها .. مالت إلى الشاب تسأله :
-هل أنت طالب ؟
-لا
- هل أنت مقيم هنا في بلجيكا ؟
-نعم
-وهل تعمل ؟
-لا
سكتت حتى لا تزعج الشاب، لكن واصل الحديث بعد برهة :
- لقد جئت هنا لزيارة الأقارب، في هذه الأثناء، تعرفت بسيدة بلجيكية أكبر مني.. أرملة مسنة .. تمتلك بيتا تسكن فيه وحيدة.. تزوجتها لأكسر وحدتها، ولتكسر عطالتي.. ..أنا الآن ذاهب إلى الوطن بغرض السياحة .. سأمضي شهرين في الإستمتاع بالبحر والشمس والبنات .
ظل يتحدث عن علاقاته في الوطن، وهي تنصت إليه ذاهلة . حاولت أن تستشف الصدق من الكذب، في القصة التي سردها لها .. اكتشفت أن هناك اختزال جديد للوطن .. وأنها لا تعرف بعض المصطلحات : "الخوادرية" تعني الأخت .. "الشرموطة" تعني المرأة في حالة الغياب، أما في حالة الحضور ينادى عليها ب"الخوادرية".
أين غابت حتى غاب عنها أن اللغة تغيرت.. أليست اللغة تعبيرا عن الواقع ؟ متى نشأ هذا الوقع ؟ ثم إن الواقع ليس فقط لغة منطوقة، بل لغة حركات، وإيماءآت، وغمزات، لها معاني جديدة .. حتى اللكمات أصبحت تدل على الود.. تنبهك أحيانا إلى أن الكلام موجه لك أنت بالذات ..
لعلها غابت في الإنشغال بمشاكل وهمية، الهوية ..التراث .. الخصوصية ..أترين أنه لم يناقشك فيها أحد إلى الآن ..هي موجودة في عقلك أنت .. اكتسحته من قراءتك لنجوم " الفكر العربي" . أين ذلك من هذا الذي ترين ؟ متى كان تراثك شبيها بالمزبلة ؟ متى كانت هويتك شبيهة باللصوصية ؟ متى كانت خصوصيتك هي الفوضى وعدم الاحترام ؟
تضيفين ثانية السؤال متى ؟ زرته إلى كيف ولماذا ؟ لم تثيرين التعقيدات ؟ لو جمد عقلك برهة لرأى الأشياء بشكل آخر .
"""
لم يستقل الحافلة أي أجنبي، ما عدا مساعد السائق وباكستاني متزوج بمغربية.. يتفاهمان بلغة فرنسية مكسرة.. احتل كل مقعده .
خفتت الضجة .. بدأت الحافلة تسير يقودها السائق البلجيكي . الساعة تشير إلى الثامنة مساء..
بعد نصف ساعة من السير، وقف السائق المغربي في مقدمة الحافلة .. اتخذ هيئة الجلال والمهابة . شرع يتفرس في وجوه الراكبين، ليطمئن إلى أية شريحة ينتمي كل واحد . انتهز أحدهم الصمت الذي خيم على الحافلة، وقف يسأل السائق:
-متى سنصل إلى المغرب ؟
التفت إليه السائق متشنجا :
- هذا السؤال ليس في محله ولا في وقته .
انزعج السائل ..احتد بينهما الشجار .. تدخل بعض الركاب لتهدئة النزاع. لكن السائق استمر في تشنجه، وأنهى موقفه هكذا :
-أستطيع أن أسحق بقدمي هؤلاء " المتفهمين"، من طينة السائل .
التفتت لترى هذا السائل . وجدته يتميز بلباس أوربي أنيق، وبمجلة بيده .
استعاد السائق هدوءه، وعاد يسلط كشاف عينيه على الركاب، كأنهم مجرمون حتى نثبت براءتهم.. ألقى بعض التعليمات والملاحظات بلهجة الآمر المتجبر، لم يكن القصد منها سوى إفهام الجميع، أن "كل راع مسئول غن رعيته"، وهو المسؤول وهو صاحب القرار، إلى أن يصل كل واحد إلى مدينته .
ظلت تتأمل حركاته وكلماته ..تخيلت لو أنه أسندت له مهمة قيادة شيء آخر غير الحافلة : حزب .. جمعية ثقافية .. تسامى في إدارة .. لماذا تستكثر عليه هذه المهمات ؟ بالتأكيد أنه سيتحكم في المواقف كما تقتضي الضرورة ذلك .. ربما سيقودها بتبصر وديمقراطية.. ديمقراطية عربية.. ما شأنك أنت بالديمقراطية ؟ لم تخلطين دائما الأوراق.. ؟ لم تنسي الحكمة الشهيرة المتداولة : "لكل مقام مقال " .. أليس هذا جزء من تراثك العريق ؟ يجب أن تفهمي المقال المناسب للمقام..
انتبهت إلى شرودها .. مشكلتها أنها تظل قابعة في مكانها ودماغها يطحن.. تطحن الكلام كالمنجرة.. نصحت نفسها :
- تسلي برؤية الأضواء على طول الطريق.. لا فتات الدعاية، استريحي ..
ألقت برأسها إلى الخلف وأغمضت عينيها .. ظلت القافات والميمات تتراقص أمامها : مقال.. مقام .
الحقيقة أن المقامات عديدة ومتنوعة، لذلك تتعدد المقالات . ما الجرم في ذلك ليس للمرء عادة حرية صياغة المقامات، ما يستطيع فعله هو صياغة المقال حسب المقام.. هناك مقام يقتضي الصدق وآخر الكذب.. مقام آخر يقتضي الصدق مثلا المقال عن الديمقراطية، آخر يقتضي ممارستها على الآخرين لا معهم ..المهم انزعي من مخك أن الحقيقة صالحة لكل مقام .. من أين لك هذا الاقتناع ؟
شعرت في النهاية أن الراحة تدب في جسمها، والنوم يتسلل إلى جفنيها ..استدلت هذا الشعور، لكن سرعان ما قطعه صوت السائق المغربي بعد استكانته برهة طويلة ، كان ودود اللهجة هذه المرة :
-الإخوان، من فضلكم، لا بد أن يقدم كل واحد مبلغ 50 درهما .
ارتفعت الهمهمة والتساؤل .. واصل مضيفا :
- سنسلمها لرجال الجمرك في سبتة، حتى لا يطول بنا التفتيش ..
لم يصدر أي تذمر أو استياء .. الكل يعرف اللعبة وصادق عليها . من حدد المبلغ ؟ كم سيعطى منه، وكم سيحتفظ به، ولمن .. تلك أسئلة تافهة..
شرعت الأيدي تتحرك إلى الجيوب.. وتسلم الورقة إلى مدير الحافلة . وصل إلى مقعدها :
- الأخت
- ليس لدي أي مشكل من حيث التفتيش ولا يهمني الإنتظار .
نزل هذا الجواب كالصاعقة على رأسه .. جحظت عيناه.. لكنه تدارك نفسه .. حرص على أن يظل هادئا.. حتى يتسلم النقود من الجميع .
- لا اله إلا الله ، لا يخرج من الجماعة إلا الشيطان .
سارعت بالرد عليه دون حرج :
- اعتبرني شيطان هذه الحافلة .
ابتعد عنها، وهو يرميها بنظرات يتطاير فيها الشرر . لم يزعجها ذلك،، اتجهت إليها الأنظار متسائلة لم، لم تفعل هذه ما فعله "الإخوان"؟ من الحكم التي تعلمتها، في هذه المواقف، الإجابة القصيرة والسكوت الطويل..
ظل السائق يجمع النقود، وهو يجادل وينبه إلى الحكمة والحق.. لم يسمح لأي أحد بالدفع المؤجل .
انطوت على نفسها محاولة الاستسلام للنوم .. طرده عنها مشكل المقام والمقال .. ذكرها به السائق .. المدير .. المتسلط الودود ..المقال تعبير عن الذات، وإذا تعددت .. المقامات لابد أن تتعدد الذوات ..كيف يحصل الربط بينها ؟ آه، تخافين أن تفقدي ذا تك ؟ أن لا تتعرفي على دواتك جراء التعدد والكثرة ؟ هذا لا يستدعي الخوف بتاتاً .. أنت قادرة على خلق ذات جديدة، ومقال جديد، تجاه كل مقام وحسبه .. المقام هو الذي يجب أن تأخذيه في الإعتبار .. افهمي .. وسعي فكرك .. والمقال هو المفتاح، يفتح كل ما انغلق عليك أو انغلقت فيه .. تخافين فقدان خيط الإتصال بين المقالات لا يهم، لن يسألك أحد عن تلك الخيوط، لسبب بسيط وهو أنه لم يعد ينتبه إليها أحد، ربما هي مقطوعة لدى الأغلبية .. حتى لو ذهبت إلى الطبيب النفساني لاستشارته، فسيجد أنك شخصية قوية، قوتها تنبع من تعدد ذواتها، لا من صلابة خيوطها .. ربما عرض عليك التفضل بزيارة المستشفى، لاختزال بعض الذوات منك . لن يضيرك في هذا شيء، لأن انبجاس ذوات جديدة أمر سهل.. ليس له تسعيرة .. وقد يساعدك هو نفسه في ذلك، لأنه هو أيضا خيوطه واهية، إن لم تكن مقطوعة..
ضحكت في سرها من نفسها .. خيالها يجمح بها، ولا يوصلها أبدا إلى رؤية تسعد بها .. لتفكر في جسدها .. ستقضي ليلتين على المقعد .. ستوخزها الآلام في عنقها، من كثرة الميلان حين يغشاها النوم، وتفقد سيطرتها على أعضائها .. ستنزل من الحافلة كالكسيحة، كلما توقفت في محطات الإستراحة الموجودة على الطريق السيار ..عليها أن تجد وضعا يخفف عنها ما ستعانيه .
استسلمت للنوم .. أيقظها توقف الحافلة والجلبة .. وصلت إلى إحدى محطات الإستراحة وكان الوقت صباحا ..
نزل الركاب كل واحد يعانق حقيبة صغيرة تحتوي على ما " خف وزنه وغلا ثمنه" . الثقة غير موجودة.. توصيات الأمس تفيد بأن يحرس كل واحد متاعه .. اتجه الجميع إلى المقهى لتناول أكلة ساخنة .. تفرقوا واحتلوا الطاولات الموجودة في قاعة المقهى الفسيحة . انضمت إلى جماعة منهم .. وضعت حقيبتها الصغيرة في ركن من الطاولة، وأوصت احد الشبان بالإنتباه إليها إلى أن تعود من دورة المياه .
اندهشت لما عادت .. كل شيء تغير . مكانها احتله شخص آخر.. حقيبتها غابت . أخذت تسأل مستعطفة عنها .. لم يلتفت إليها أحد . ظلت تبحث . وجدتها ملقاة على الأرض بعيداً عن المكان الذي تركتها فيه .. لمحت الشخص الذي أوصته فتقدمت منه تسأله، عن ما الذي حمل حقيبتها إلى هناك.. لم يعرها أي اهتمام ..الحقيبة هي حقيبة ما دمت ماسكة بها.. بغير ذلك تصبح كرة قدم، أو تختفي ..الإزاحة هي من قواعد السلوك الجديدة .. إن لم تأخذ دور المزيح فتصبح أنت المزاح.. أنت وحقائبك ، من طرف " الإخوان ".
أخذت الحقيبة وابتعدت إلى مكان آخر.. طلبت بعض الطعام وانهمكت في تناوله ..
لا مجال هنا لتطبيق السلوك الأخلاقي "أحب لأخيك ما تحب لنفسك" . الأخّوة هنا أصبح لها مفهوم آخر . الأخ هو الآخر والآخر هو العدم ..هذا عصر آخر . كان المسلمون إخوة . أصبحوا اليوم آخرين..
تحشرين نفسك ثانية في قضية الأخ والآخر؟ أنت في حل من ذلك .. كثر الإخوة الصغار بفعل التوالد الإنفجاري، وانشغل عنهم الإخوة الكبار في متاهات الرفقة الماركسية اللينينية والنضالية الثورية .. ومسلسل الديمقراطية .. ولم اليأس والتشاؤم ؟ قد يعثرون من جديد على أخوّة جديدة، في حقوق الإنسان ؟ وقد تنمو تلك الأخوّة، في أحضان تناسل وتعدد أخوّة جمعيات ومنظمات حقوق الإنسان..
توقفت عن المضغ .. انتبهت إلى أنها تمادت من جديد، في تكهنات فارعة فارغة .. إلزمي حدودك، وتناولي طعامك مثل الإخوة أو الآخرين .. سميهم كما شئت..
شرع فوج المسافرين يغادرون المقهى، استجابة لصوت السائق البلجيكي، يحثهم على الإستعجال لمواصلة السفر.. ظلت تتلكأ كعادتها، حتى لا تصطدم بالأجساد المتدافعة على باب الحافلة .. كادت القاعة أن تفرغ من الركاب . توقف الجميع على إثر ضجة وصراخ بين السائق -المدير وصاحب المقهى.. تشكلت حلقة حولهما اقتربن أيضا لاستجلاء الأمر . سيل من الشتائم يلفها السائق- المدير، تتخللها بعض الكلمات الفرنسية .. يرفض دفع الحساب، مقابل الوجبة الشهية الساخنة التي تناولها.. استغاث بأحد ليترجم له، ما يود أن يفهمه من شتائم لصاحب المقهى .. تقدم شاب من الحلقة محاولا تهدئة السائق . تمادى هذا في الصراخ :
- لا، لن أدفع أي فرنك، ألا تستحيي أنا الذي أتيت بكل هؤلاء الركاب، ليأكلوا في مطعمك وتطالبني بالأداء ؟
- أنا لم أطلب منك أي شيء .. هذه استراحة عامة مفتوحة لكل المارين، لكل المسافرين .. عليك أن تدفع واجب الوجبة التي أكلت .
تعب الشاب في إقناع السائق، بعدم اللياقة في رفض الدفع .. استمات السائق في الدفاع عن موقفه .. سأل الشاب أن يترجم الشتائم لصاحب المطعم .. تحرج الشاب من القيام بهذه المهمة السخيفة ..
- اهدأ، سأدفع المبلغ من جيبي أنا، نيابة عنك ودعنا نواصل السفر.
ارتاح السائق لهذا الحل، ولم يرتح لتوقيف الشتائم .. واصل إلقاءها بالعربية مصرا على أنه مغبون في القضية .
تفرقت الحلقة . اتجه الجميع إلى الحافلة ..استقرت في مقعدها، محتضنة حقيبتها الصغيرة .. أغمضت عينيها مستسلمة للسفر..
1989
.