المنفى والاغتراب في قصيدة" أضاعوني" للشاعر الفلسطيني  بروفيسور عزّ الدين المناصرة

2020-11-20

سأتعرض في هذه العجالة  لقراءة  في قصيدة "أضاعوني" للشاعر عز الدين المناصرة، بهدف الوقوف على الإغتراب المكاني فيها، إضافة إلى الوقوف على مظاهر المنفى والإغتراب التي بدت جليّةً في اللغة والأسلوب، وقد ارتأيت بداية أن أعرّف مصطلحيّ المنفى والاغتراب . 

تعريف المنفى 

استخدم العرب والمسلمون الأوّلون لفظة "هجرة" بمعنى المغادرة أو ترك المكان الأصليّ إلى مكان آخر، إمّا عقوبةً أو لأسباب أخرى، مثل : الجهاد في سبيل الله، والبحث عن مكان أفضل للعيش . ولمّا أرادوا استخدام "الهجرة" بمعنى المنفى قرنوها بعبارات، مثل : الخروج عنوةً أو ظلمًا، وبهذه المعاني وردت لفظة "هجرة" في القرآن الكريم اثنين وثلاثين مرّة . 

يرى سعيد) 2000) أنّ المنفى حالة دائمة من الغربة والإبتعاد والإقامة في الهامش، هو هجرة مستمرّة لا يمكن عكسها، ومن ثمّ هو صيغة من صيغ الوجود، تولّد شعورًا متواصلًا بالإنشقاق عن السياق والحنين الدائم إلى ماضٍ وأرض وثقافة لم تعد كلّها موجودة في المنفى فهو الصدع الذي يصعب شفاؤه ويفصل بصورة قسريّة بين المرء ومسقط رأسه؛ بين الذات وبيتها الحقيقيّ: إنّ الحزن الجوهريّ الذي يولّده لا يمكن التغلّب عليه . 

  تعريف الإغتراب 

إنّ الأصل اللاتينيّ للفظة "اغتراب" هو "Alienation"، وهذا الإسم يستمدّ معناه من الفعل اللاتينيّ "Alienare"، بمعنى نقل شيء ما إلى آخر، أو الإنتزاع والإزالة، وهذا الفعل مستمَدّ، بدوره، من لفظة أخرى هي "Alienus"؛ أي ينتمي إلى شخص آخر أو يتعلّق به، وهذا الفعل الأخير مستمدّ، في النهاية، من اللفظة "Alius" التي تدلّ على الآخر، سواء اسمًا كان أم صفة . وهو، بهذا المعنى، يشير إلى انتقال ملكيّة شيء ما من شخص إلى آخر، وخلال عمليّة الإنتقال تلك يصبح الشيء مغتربًاً عن مالكه الأوّل، ويدخل في حيازة المالك الجديد . لقد ظهر استخدام هذا المصطلح، ألإغتراب، لدى ماركس الذي جعل من العمل وتقسيمه وشروطه وملكيّته ووسائل إنتاجه أبرز العوامل المسؤولة عن خلق ظاهرة الإغتراب . 

ويرى البروفيسور قيس النوري، عالم في الانثروبولوجيا، استخدامًاً آخر لمصطلح "الإغتراب" يأتي في سياق العزلة (Isolation)، وهو أكثر ما يُستخدم في وصف وتحليل دور المثقّف أو المفكّر الذي يغلب عليه الشعور بالإنفصال (Detachment) وعدم الإندماج النفسانيّ والفكريّ مع المقاييس الشعبيّة في المجتمع . 

مفهوم الإغتراب في العصر الحديث 

معنى الإغتراب في العصر الحديث لا يختلف عن معناه في العصور القديمة؛ إذ يشير الشقيرات إلى أنّ مفهوم الإغتراب حديثًا يحتوي على عدّة مضامين منها : 

- الإغتراب بمعنى الانفصال: يبرز هذا المضمون في كتابات هيجل تبعًا لمفهومه للكَوْن بأنّه مكوَّن من أجزاء منفصلة ومتناقضة ومتفاعلة، وهي متكاملة في الوقت نفسه؛ 

- الاغتراب بمعنى الإنتقال: ورد هذا المضمون في البحوث التاريخيّة الإنجليزيّة، حيث كان يُقصد به نَبْذ حقوق الملكيّة المتعلّقة بأحد الأفراد، أو مصادرتها، أو نقلها من ذلك الفرد إلى شخص آخر .

- الإغتراب بمعنى الموضوعيّة : يُقصد به نظرة الفرد إلى الآخرين بوصفهم شيئًا مستقلًّا عن نفسه، بصرف النظر عن طبيعة العلاقات التي تربطه معهم. الشقيرات يعُدُّ هذه النظرة واحدًا من أهمّ مؤثّرات الإغتراب . وتشير البحوث المُجراة على هذا النمط من الإغتراب إلى أنّ هذه الوضعيّة غالبًا ما تكون مصحوبة بالشعور بالوحدة والعزلة، بدلًا من التوتّر والإحباط . 

- انعدام القدرة والسلطة : برز هذا المضمون في نظرة ماركس لمفهوم "الإغتراب"، وقد لوحظ أنّ معنى "العجز" (Powerlessness) وعدم القدرة أو الإستطاعة هو أكثر المعاني تكرارًا في البحوث المعنيّة بموضوع الاغتراب .

- انعدام المغزى : يعني ضياع المغزى عند الفرد؛ إذ يتطلّع الفرد إلى تحقيق غاية ملموسة .

- تلاشي المعايير: يُقصد بهذا التلاشي أنّ المجتمع الذي بلغ هذه المرحلة يفتقر إلى المعايير الإجتماعيّة المطلوبة لضبط سلوك الأفراد، أو أنّ معاييره التي كانت تتمتّع باحترام أعضائه لم تعُد تستأثر بذلك الإهتمام والإحترام، الأمر الذي يفقدها السيطرة على السلوك .

- العزلة : أكثر ما يُستخدم هذا المصطلح ضمن مفهوم "الإغتراب" في وصف وتحليل دور المفكّر أو المثقّف الذي يغلب عليه الشعور بالتجرّد وعدم الإندماج النفسانيّ والفكريّ مع المقاييس الشعبيّة في المجتمع . 

- الإغتراب عن الذات : هذا يعني أنّ الفرد يشعر بانفصاله عن ذاته . ويوجّه هذا المعنى الأفراد في ظروف المدينة؛ لأنّهم يصبحون أدوات، بعضُهم لبعضِهم، وتتّسع الدائرة حتّى يصبح الفرد الحضريّ منفصلًا عن نفسه . هناك معنى آخر للإغتراب عن الذات، هو افتقاد الفرد عمله الذي يقوم به وما يصاحب ذلك العمل من الشعور بالرضا والزهوّ، ممّا يخلق لدى الفرد اغترابًا وانفصالًا عن ذاته . 

  

المنفى والإغتراب في القصيدة 

  كان لظاهرة الإغتراب في الأدب العربيّ حضوره الواضح، فقد عانى الأدباء والشعراء، في أقطار الوطن العربيّ كافّةً، من عدّة أنواع من الإغتراب، بينها : السياسيّ، الفكريّ، الثقافيّ، الإجتماعيّ، النفسانيّ،  المكانيّ، الإقتصاديّ وغير ذلك . وقد كان للتغييرات السياسيّة، الإجتماعيّة، الأخلاقيّة والفكريّة في الوطن العربيّ تأثير واضح في الأدباء، إذ عكست تجربتهم ألوانًا من الصراعات النفسانيّة والفكريّة، وعمّقت بُعدهم عن واقعهم وعمّا تجيش به صدورهم من مشاعر وأفكار تعكس مدى غربتهم ومعاناتهم . 

  

1: الاغتراب المكاني : 

يتعلّق الاغتراب المكانيّ بمغادرة الإنسان وطنه طوعًا أو كرهًا، ويكون، في الغالب، نتيجة أسباب سياسيّة أو اقتصاديّة أو ثقافيّة، فيعاني المغترب من لوعة الحنين إلى وطنه. 

تبرز الغربة المكانية في قصيدة" أضاعوني "حين يشير الشاعر إلى المدن السفيهة التي يسكنها فيقول : 

  

" يا هذه المدن السفيهة، إنني الولد السفيه 

  لو كنت أعرف أن نارك دون زيت 

لو كنت أعرف أنّ مجدكِ من زجاج، 

ما أتيت 

أنت التي خلّيتني قمرًا طريدًا دون بيت" 

وفي موقع آخر في القصيدة تتضح لنا غربة الشاعر وشعوره بالخوف : 

" عرّجتُ صوبَ مدائن النوم الكسيحة أستغيث 

الكلُّ أقسم أن ينام 

قدمٌ على قدم ومثلك لا ينام" . 

ويستمر الشاعر في وصف مشاعره وما يعتريها من اغتراب وألم فيقول : 

" يا هذه المدن السفيهة يا مقابر يا فجاج 

أسقيتني ملحا أجاج والزهو قد موّهته وولغتِ فيه" 

  

كما يشير الشاعر الى غربة جده المكانية وضياعه في بلاد الروم الواسعة التي لم تمنحه الأمان فيقول : 

" مضت سنتان... أرض الروم واسعةٌ 

وجدّي دائمًا عاثرْ" 

ترتبط الأم ارتباطا وثيقا بالمكان فهي ترمز إلى الأمن والأمان والوطن، فالشاعر في غربته يستذكر أمه فيقول : 

" وأمّي، مهرةٌ شهباءُ تصهل قبل خيط الفجر 

تفكُّ هنا ضفائرَها 

وتلبس ثوبَها الأسود 

وأمّي تقرأ الأشعارَ في الأسواق 

وفي الغابات عند تجمّع الأنهر 

وأمي أنجبت طفلّا، له وشمان، يشبهني..." 

  فالأم وفق باشلار،  العشّ الأليف، بيت الطفولة، مركز الأحلام الأوّليّ، جدران الحماية والدخول الأوّل إلى العالم .. 

فلا غرو إذن أن يتذكرها الشاعر، ويعبّر من خلالها عن مدى غربته، وشوقه وحنينه لبيته ووطنه وأمه . 

 اعتمد الشاعر، إلى حدّ كبير، في هذه القصيدة، على تقنية الإسترجاع الذي يحيل إلى أحداث تخرج عن حاضر القصيدة لترتبط بالزمن الماضي، وخاصة استرجاع الأماكن، ويبرز البعد النفسانيّ للمكان داخل القصيدة، فالمكان ليس أبعادًا هندسيّة وحسب، إنّما هو المكان المصوّر من خلال خلجات النفس، وتجلّياتها، وما يحيط بها من أحداث ووقائع .  إلى جانب الأبعاد الإجتماعيّة والتاريخيّة التي تكون وثيقة الصلة بالمكان، كما نجد في الأبيات الآتية :" 

وسوقُ عكاظ فيها الشاعر الصعلوك 

وفيها الشاعر المملوك 

وفيها الشاعر-الشاعر 

وأعمامي، 

يلقون القصائدَ من عيون الشعر. 

اللغة : 

يستعين الكاتب بالتناص المأخوذ من التراث والتاريخ، ليؤكّد فكرة ما، كما فعل حين ذكر سوق عكاظ وأشار إلى قصة مقتل والد الشاعر امرؤ القيس بأيدي بني أسد:" 

وأنا أريد بني أسد 

قتلوا أبي واستأسدوا" 

كما ورد التناص في اقتباس الشاعر للآية القرآنية:" إذهب وربك قاتلا"، وقد أراد بها الشاعر الإشارة إلى تخلّي قومه عنه، أو عن قضية شعبه الفلسطينيّ الذي وجد نفسه وحيدًا يصارع الاحتلال:" والآخرون تنكّروا: “اذهب وربك قاتلا" 

وكأنهم ما مرّغوا 

تلك الذقون 

على فتات موائدي 

"والله لا يذهب ملكي باطلا" 

والله لا يذهب ملكي باطلا. 

ظهر في الأبيات أعلاه، الانتقال من ضمير الغائب( والآخرون تنكّروا) إلى المخاطب(اذهب وربك قاتلا) ثمّ المتكلّم(والله لا يذهب ملكي باطلا). وعادةً لا يكون الانتقال من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلّم بشكل فجائيّ، بل يمرّ في مرحلة الخطاب. وغالبًا ما يكون الترتيب: غائب، مخاطب ومتكلّم. إنّ وظيفة تغيّر الضمائر لها علاقة بالاقتراب من باطن الشخصيّة، فضمير الغائب هو أبعد الضمائر عن الشخصيّة، وعند الخطاب يقف الراوي-القارئ في مواجهة الشخصيّة أو المخاطب، في حين أنّ تكنيك ضمير المتكلّم هو حديث الشخصيّة عن نفسها، من غير وساطة . 

 

فالشاعر إذن يعبّر من خلال ضمير المتكلّم عما يجيش في نفسه المضطربة المستاءة من المقربين منها، فيشعر باغترابه وابتعاده عنهم . 

كما نجد في لغة المناصرة كلمات تدلّ على المنفى والضياع مثل:" قال الشاعر المنفيّ حين بكى"" 

وكما في المثال التالي : 

"قدمٌ على قدم ومثلك لا ينام 

حجرٌ هو المنفى وصوّانٌ وشوكٌ من رخام" . 

" أضاعوني، وأيّ فتىً أضاعوا" . 

إجمال: 

يبرز الاغتراب المكاني في قصيدة" أضاعوني"، وذلك من خلال تقنية استرجاع الأماكن، التي تُبرز البعد النفسانيّ والاجتماعي والتاريخي، وذلك باستخدام الشاعر عدّة تقنيات في اللغة والأسلوب منها، الاسترجاع، التّناص، تغيير الضمائر، وإبراز ضمير المتكلّم الذي يطلع القارئ على باطن الشخصية ومعاناتها. وقد يكون الشاعر قد تأثّر بتيار الوعي، الذي يعبّر عن غربة الإنسان في عصر يكتنفه الغموض السياسيّ، وتتخبّط فيه المعايير والمفاهيم والقيم، فيتمّ توظيف الألفاظ من أجل التعبير عن الذات وكشف مكنوناتها. ولإثبات هذه الفرضية فإنّ الأمر يحتاج إلى المزيد من الدراسة العميقة في قصائد الشاعر عزّ الدين المناصرة . 

د. روز اليوسف شعبان

ولدت سنة 1964 في قرية طرعان

تعمل في سلك التعليم مدرّسة للغة العربية ومديرة المدرسة الابتدائية  في طرعان .

حاصلة على اللقب الأول في اللغة العربية وتاريخ الشرق الأوسط،من جامعة حيفا سنة 1986 .

حاصلة على اللقب الثاني في التربية في تطوير النظم التعليمية من جامعة حيفا 2005 .

حاصلة على لقب الدكتوراه في اللغة العربية من جامعة تل أبيب .

تكتب الخاطرة والشعر والقصص القصيرة، تنشرها في صفحتها في الفيس بوك وفي صحف ومواقع الكترونية في البلاد وفي الخارج .

أصدرت ديوانها الأول ” أحلام السنابل، في دار الوسط 2020 .

 ناشطة في جمعيات للسلام في داخل البلاد وخارجها .

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved