تميزت الحضارة العربية الإسلامية في مرحلة نضجها، بإنجازها الموسيقي الغنائي، وخاصة في بغداد والمدن الحجازية والحواضر الأندلسية، وكان العاملون في هذا المجال، رجالاً ونساءً، موضع احترام مجتمعاتهم، وكذلك من قبل أولي الأمر وكبار الكتاب والمفكرين .
قال أبو حيان التوحيدي “الغناء معروف الشرف، عجيب الأثر، عزيز القدر، ظاهر النفع في معاينة الروح ومناغاة العقل وتنبيه النفس واجتلاب الطرب وتفريج الكرب وإثارة الهزة وإعادة العزة وإذكار العهد وإظهار النجدة واكتساب السلوة، وما لا يحصى عدّه” .
ويروى عن الشاعر أبي العتاهية قوله “كان هارون الرشيد ممن يعجبه غناء الملاحين، وكان يتأذى بفساد كلامهم، ولحنهم -لغوياً- فقال الرشيد : قولوا لمن معنا من الشعراء، يعملوا لهؤلاء شعراً، يُغنّون فيه” .
وقول أبي العتاهية هذا قادني إلى إدراك عمق معرفة الرشيد بالموسيقى والغناء، وهي معرفة تتوفر على وعي نقدي، يرى النقص ويقترح تجاوزه، فالرشيد حسب رواية أبي العتاهية، يعجب بغناء الملاحين، وهذا يعني أن إعجابه كان بالألحان وبالأداء، وحين يطلب إلى الشعراء كتابة بديل فهو يقترح تجاوز النقص، وبه يستكمل الغناء مقوماته، الكلمات والألحان والأداء، وهذا الاقتراح الرشيدي سيكون في ما بعد منهجاً في الغناء أنتج في ما أنتج فن القدود الغنائي .
غير أن بعض المحدثين ممن لم يدركوا حقيقة عمق وتفتح الحضارة العربية الإسلامية، لم يروا في هذا الإهتمام بالموسيقى والغناء غير دليل على انغمار في اللهو، وفي الوقت ذاته يحيلون مثل هذا الإهتمام لدى الآخرين إلى عمق وتفتح ثقافيين .
ولا أظن أننا بحاجة لإثبات أن اهتمام الرشيد بالموسيقى والغناء هو صفحة من صفحات شغفه الثقافي، وكان كما يقول المؤرخ الفرنسي اندريه كلو “يحرص على أن يحيط نفسه بالمثقفين، رجالاً ونساءً، وكان يختار النساء ليس على الجمال فحسب، وإنما لثقافتهن، وكان يرسل الموهوبات منهن إلى الحجاز، للتعرف على فنون الغناء والموسيقى” .
ولا بد من الإشارة إلى أن أخاه إبراهيم بن المهدي وأخته عُلَيّة، قد اشتهرا بإتقانهما الغناء والتلحين والعزف على الآلات الموسيقية، وهذا التوجه لم يُضر بإبراهيم بن المهدي، بدليل توليه الخلافة، وإن فشل ولايته كان لأسباب تتعلق بتحالفات البيت العباسي حينذاك، وليس بسبب اشتغاله بالموسيقى والغناء .
وهنا لا بد من وقفة عند العبقريين الموصليين، إبراهيم وابنه إسحاق، اللذين شكلا أعظم حلقة في تاريخ الموسيقى والغناء ببغداد، ونادم الأب من الخلفاء المهدي والهادي والرشيد، وكان فذاً في التلحين والغناء والعزف على العود، أما إسحاق فكان شاعراً وفقيهاً ولغوياً، جدّدَ في التلحين والعزف على العود، ونادم الرشيد والأمين والمتوكل والواثق، إذْ عَمَّر طويلاً .
قال أبو الفرج الأصفهاني “إن إسحاق روى الحديث ولقي أهله، مثل مالك بن أنس”، وفي ضوء ما تقدم ندرك معنى قول الخليفة الواثق “ما غنّاني إسحاق، إلاّ وظننت أنْ زيدَ لي في ملكي”، وقول المتوكل حين توفي إسحاق “ذهب صدرٌ عظيمٌ من جمال المُلْك وبهائه وزينته”، وقال عنه يحيى بن أكثم “قلَّ في الزمان نظيره” .
لعل كثيرين لا يعرفون أن نسب الموصلي الذي لحق بإبراهيم أولاً، ثم ورثه إسحاق، لا علاقة له بمدينة الموصل، ومن الطريف أنه جاءهما من أغنية، يبدو أنها كانت ذائعة الصيت قبلهما، ومما علق بذاكرتي ما قاله العلامة مصطفى جواد نقلاً عن ابن خرداذبة، إن إبراهيم كان إذا تجلّى في الطرب غنّى “أنا جيت من طريق موصل.. أحمل قلل خمريا… إلخ”، وقد علَّق مصطفى جواد على ما تقدم بالقول “هذا يدل على قدم العامية والشعر العامي” .