المرأة ظلم متعدد الأوجه، على ضوء  رواية "عام الفيل" للكاتبة المغربية ليلى أبو زيد

2021-04-14

الكاتبة ليلى أبو زيد معروفة بعصاميتها . على مهل فرضت ذاتها ووجدت لها موقع قدم تحت شمس الإبداع الأدبي بين كوكبة الكتاب الكبار . تقول إنها حققت ذلك دون أن يكون وراءها لا إعلام يسوق لها، ولا حزب يدفع بها نحو الأضواء، ولا أية مؤسسة . قليل من كان يسمع بها داخل بلدها المغرب . علما فشهرتها بلغت مداها بالأوساط الأنكلوسكسونية أمريكا وبريطانيا،على غير دأب الكتاب المغاربيين الذين عادة ما يقف بهم مركبهم على شواطئ الفرنكفونية .

كانت أول امرأة مغربية تتحدى الحواجز الإجتماعية والدينية وتقتحم جنس كتابة سيرتها الذاتية "رجوع إلى الطفولة" بالإنجليزية، إذ كانت وقتها حصراً على الذكور يعبرون عن ذواتهم وأنفسهم، دون الإناث لما فيه من حرج بالنسبة للكاتبة نفسها و لأسرتها وعائلتها .

تقول بأن النسخة العربية ظلت لمدة عامين وهي في الدرج تتردد في إخراجها للوجود . فروايتها "عام الفيل" ترجمت إلى الأنجليزية في وقت مبكر. من يومها وهي تدرس في عدد من الجامعات الأمريكية و الثانويات .

ليلى

ليلى بوزيد

الرواية من خلال حكاية بطلتها "زهرة" التي رغم شبه أميتها فقد انخرطت في مقاومة الإستعمار الفرنسي بجانب زوجها كتفا بكتف. وهي التي قبل ولوجها ساحة النضال كانت مولعة بالمجوهرات والألبسة والأقراط الذهبية، فكان مشهد خروج جنود اللفيف الأجنبي من الثكنة و شروعهم في إطلاق النار على المواطنين عشوائيا، سببا لتنقلب حياتها كلياً . كانت

مذبحة شنيعة شملت الرجال والنساء وحتى الأطفال فكانت "الجثث على الأرصفة كصناديق  القمامة" ص36

تقول زهرة "من يومها فقدت التعلق بالحياة وبريقها" في سبيل مقاومة المستعمر الغاشم ف"بعت شجرات الزيتون والمجوهرات وكل شيء عن طيب خاطر" ص34

فما تؤكد عليه الرواية بمرارة، وبمهارة استطاعت الكاتبة أن ترصده، هو الظلم الذي نالته على يد الرجل مباشرة بعد الإستقلال، وكأنها بإسهامها في الجري وراء تحقيقه والتضحية من أجل نيله، كانت تحفر قبرها بظلفها . المسكينة لم تكن تعلم أن خيوط كفن علاقتها بزوجها في الغيب تنسج .

وللإشارة فزهرة نموذج فقط للآلاف من النساء أمثالها، على امتداد البلاد التي ابتليت

بالإستعمار الظالم..

     وظلم ذوي القربى أشد مضاضة          على المرء من وقع الحسام المهند

فكان الظلم عليهن أشد وأقسى من عدة أوجه :

أوله ظلم التاريخ :

يقال التاريخ يكتب صفحاته المتغلبون . للأسف التوثيق لتاريخ المقاومة لم يسلم من هذه

الآفة. إلى اليوم لا يزال إسهام المرأة في النضال ضد المستعمر، تشوبه الكثير من العتمات بما أنه في العادة الذكور من يتولون كتابته . فقد حجموا دورها وقزموه عنوة ليقتصر على بعض الأعمال البسيطة كالسقاية و تهيئة الطعام للمقاومين، وفي أحسن الحالات نقل بعض الأسلحة الخفيفة كالمسدسات، فيما البطولات والخوارق والمعارك الحاسمة التي غيرت مجرى تاريخ الأوطان، كلها توثق في سجله باسم الذكور لغاية في نفس يعقوب .

الرواية باقتدار تبرز أنه لا فرق بين النساء والرجال في ساحة المقاومة . ففضلا عما سبق مما اعترف به الرجل على مضض، فإنها سطرت ملاحم بطولية لا تقل خطورة عما كان يقوم به صنوها الذكر . فقد كانت تتولى تنظيم التجمعات النسوية بالأحياء في سرية، و تتولى توزيع المناشير، وما أدراك ما توزيع المناشير يومذاك، إبان سعار المستعمر المستعر على وقع اشتداد ضربات المقاومة عليه، كما تولت تهريب الرجال في زي النساء إلى المناطق الحدودية المعروفة مرورا بنقط تفتيش خطيرة . كما كانت تتولى جمع التبرعات للمقاومين، والتحريض على الإضرابات، و حتى حرق متاجر الموالين للمستعمرين. في ص 61 وصف لإحدى العمليات وكأنك تتفرج على أحد أفلام "الأكشن"، لما نزعت فلينة قنينة البنزين حتى تدفقت، وأشعلت عود الثقاب لتشتعل النيران في الصناديق وأطلقت ساقيها للريح هي وصديقتها رقية، أعقبتهما القوات المسلحة بكلبهم بحثا عنهما . ولولا اختلاط روائح التوابل وأدخنة بائع الحلزون والحريرة على الكلب الذي ظل يدور على نفسه دون أن يهتدي إلينا، لكنا في خبر كان نحن وأهل البيت الذي لذنا به عند هروبنا .

"ستصلك ورقتك وما يخوله القانون"

تكررت هذه العبارة مرات عديدة على امتداد صفحات الرواية، وعادة ما تعقب عليها

بالوقاحة أو النذالة . إنها تلخص التيمة الرئيسية في الرواية . فقد كان وقعها على نفسية زهرة بطلة الرواية شديدا، ومن خلالها الآلاف بالبلاد المتخلفة خاصة في فترة الخمسينات التي تتحدث عنها الرواية، قبل ما عرفه ملف الطلاق من تعديلات تقيد نسبيا طريقة إتمامه، وتخفف من آثاره المدمرة، لما كانت تتوصل المرأة بورقة الطلاق حتى بدون سابق إعلام، وبدون أبسط الحقوق . فبين صبح وعشية تجد نفسها عارية من كل شيء . ذلك ما وقع لبطلة الرواية، فبعد أربعين سنة من الزواج بحلوها ومرها، وبعد تضحيتها بكل ما كانت تملكه، ضخّته في صندوق المقاومة، كان جزاؤها مباشرة بعد الإستقلال وتقلد زوجها المناضل لمنصب سام في الحكم، التنكر لها واستبدالها بأخريات كما لو أنها جورب، إذ صعقها بهذه العبارة الزلزال "ستصلك ورقتك وما يخوله القانون"، ظل صداها يتردد في أذنيها ويمزق أحشاءها بقية حياتها، لا لشيء سوى لأنها أصرت على الوفاء لأصالتها . لم تستسغ أن تغير جلدها كما فعل هو من النقيض إلى النقيض . تقول له في ص91 :

"لا يعجبك أن آكل بيدي ؟ وبماذا كنا نأكل في بوشنتوف ؟ هل هذا هو الإستقلال ؟

ولا يعجبك أن أجلس مع الخدم ؟ باسمهم حاربنا الإستعمار، وأنتم الآن تتصرفون مثله" ليصل حنقها وغضبها إلى ذروته، فتعلنها مدوية في وجهه صارخة : "أنتم أشد خطراً من الاستعمار". قالتها له بعد أن صفعها بسبب انتقادها له .

إنه يريدها أن تأكل بالشوكة، وتقدم السجائر لضيوفه، وتمهد له الطريق بكل الوسائل،

وتلبس اللباس الأوربي، وتخاطب الخدم بتعال من فوق . ولما رفضت ذات حدث خرج

غاضبا وهو يردد : خير لك أن تعودي إلى الكوخ . ص103، علما فهو نتاج خالص لحياة الأكواخ وشظف العيش . فهل تحقيق مواكبة تطورات العصر لا بد أن تمر عبر جسر التخلي عن قيم المجتمعات الأصيلة ؟  فموقفه من زوجته زهرة يطرح أكثر من سؤال حول ما إذا كان التخلص منها هورغبة دفينة للتخلص من ماضيه وإقباره وقطع أية صلة تربطه به ؟ أم هل هي عقدة العقد في علم النفس المعروفة بقتل الأب . فقد نسي أو تناسى كل ما عانته من أجله، علاوة عما تكبدته في سبيل الوطن . فقد تبعته إلى السجون السجون "اغبيلة" و"العادر" راكبة كل المخاطر، لتزوده بما يحتاج إليه من مؤونة. والأخطر مده بآخر الأخبار، كقولها في ص 75 بأن ابن يوسف في الطريق إلى فرنسا وبوقوف اليسار الفرنسي بجانب المقاومة، لينبهها الحارس بصرامة قائلا : "الكلام في السياسة ممنوع"

لم تشفع لهل كل تضحياتها الجسام . بضع كلمات عصفت بحياتها وقلبتها رأسا على عقب، لما وجدت نفسها في العراء ضائعة مجردة من كل شيء . تهيم في الطرقات ناسية حتى أيام الأسبوع، وهي تتساءل بمرارة بعدما وجدت نفسها مضطرة لتشتغل عاملة نظافة بمركز فرنسي، "قمت بمهمات من أجل الوطن. ما الذي يقوم به الوطن الآن من أجلي؟"  ص41 تردف حانقة "بلد لا يضمن لي لقمة العيش ليس بلدي" ص 88 في تعقيب لها لما عزمت ترك بلدتها .  فالمؤسف حقا لو قلبت المعادلة لنرى كم من النسوة ممن يتقلدن المناصب السامية، فيعمدن إلى تغيير أزواجهن للقطع مع ماضيهن، مقارنة بالذكور؟ !

الانقلاب ضد المبادئ :

الرواية بمرارة ترصد كيف تحول الكثير من المناضلين ذكورا وإناثا مباشرة بعد الإستقلال إلى طلاب مناصب ومهرولين نحو المكاسب . ففضلا عن زوجها الذي دار دورات مكوكية على كل مبادئه، وتنكر لها بعد أربعين سنة من الزواج، هناك شخصية الفقيه لما عين قائداً، ففضل أزيلال على القنيطرة . والعذر أعظم من الزلة يقول مخاطبا زوجته : "في أزيلال على الأقل ينتفع الإنسان.. ستشبعين دجاجا وبيضا" . فعلقت زهرة بطلة الرواية ساخرة :

"غدا تجدينه يدخن الغليون أو سيجار هافانا.. فقد لعب الإستقلال برؤوسهم" ص106

نموذج آخر هذه المرة نسائي رفيقة دربها في النضال صفية تقول عنها : "ما أشد غموض الناس وأشد تلونهم ! صفية مدت يدها إلى الودائع، زوجي اقتلع من نفسي الثقة وأرسى مكانها الشك إلى الأبد" ص 85   

إنها علامات استفهام حول الهدف من النضال . أي نضال كان . ومن أي تيار كان. سؤال لابد من استحضاره، حول نسبة الصدق في الشعارات المعلنة مهما بدت طهرانيتها، أم دائماً وراء الأكمة ما وراءها . وطبعا لكل قاعدة استثناء . ولعل هذا ما دفع الكاتبة لتعلن حربها على الإنتهازيين، فخصت بالإهداء "الذين عرضوا حياتهم للخطر من أجل المغرب، نساءاً ورجالاً، ولم يبغوا من وراء ذلك جزاءاً ولا شكورا"

ظلم المناصب والمكاسب :

"لو كنتُ رجلا لكنت قائدا أو على الأقل شيخا . إننا نرد إلى الظل عنوة بعد كل ما كان"  ص106. صرخة مدوية من بطلة الرواية زهرة في سياق تذمرها من البحث عن شغل تسد به رمقها . تحكي أحد المواقف المذلة مع أحد حراس مصنع للزيوت رفقة رقية رفيقة دربها في النضال، إذ منعهما بعجرفة من مقابلة مدير المصنع، لما قال لهما بدون أن يرف له جفن:  "لا يوجد عندنا عمل"

فردت عليه مغاضبة :  "لن تجد أشد بغضا للبؤساء من البؤساء أمثالهم"

ومنه إلى مصنع آخر لكن بدون جدوى . فهل هناك حقارة ودونية أكثر من أن ترى رفاق الدرب في المقاومة من الذكور يتولون المناصب السامية، يرفلون في النعيم، بأجور خيالية وسيارات فارهة ومساكن فخمة وسلطات واسعة، أما هي ومثيلاتها دار بهن الزمان، فلم يجدن ما يواجهن به حتى ضرورات الحياة . فزهرة لما رفدها زوجها الذي لم تسمه الكاتبة في الرواية نكاية فيه، لم تجد غير فقيه البلدة لجأت إليه في البداية ليطعم جوعتها "بكأس من طين فيه ماء وبخبز شعير وقرطاس فيه زيتون أسود" وفراش بسيط و حصير . ص21 فهل من مقارنة بين الذكور والإناث في ظل الإستقلال، وقد كانوا كما يقال "كفرسي رهان" يتساوون في الكفاءة والمقدرة والتضحية ضد المستعمر؟ ترى هل لهذا السبب عمد كتاب التاريخ من الذكور،  ليهمشوا دورها ويقزموه ليستأثروا دونها بالمكاسب والمناصب، تاركينها لذل السؤال والإهانة من أجل لقمة عيش ؟

رواية "عام الفيل" على قصرها (128 صفحة)، ففضلا عن موضوعتها الرئيسة ظلم الرجل متعدد الأوجه، فهي حافلة بالمواقف نشير إلى بعض منها على سبيل التمثيل :

  • الموقف من الإستعمار، إذ تتساءل زهرة بطلة الرواية في ص61

"ربي هل نسي ما تصنعه بنا فرنسا ؟ ...أثخنتنا جراحا حتى تصورت أن بيننا بحاراً من دم .. لم أتصور أن تربطنا بها العلاقات والمعاهدات وأفواج المهاجرين . لم أتصور . ولكن هناك من قال : نحن آذيناهم وأن الأمم العظيمة لا تقبع في الماضي" تورد هذا وكأنها تلمز إلى الذين بجرة قلم، يدوسون على ماضي الإستعمار الدموي، ليساووا بين الضحية والجلاد، فيعمدون إلى تبييض صفحاته الكالحة .

  • رأي في السياسة لما تذكر في ص 53 "تلك اللئيمة (السياسة) ندخل بين الناس وتفعل ما لا يفعله إبليس" في سياق ما حدث بين رفاق الكفاح من انحلال وخصومة .
  • رأي في الواقع البئيس تقول في "في الأزقة شبان أكتافهم العريضة مسندة إلى الحيطان المتداعية . ينتظرون ماذا ؟ وفي الضريح ما زال الشيخ يخطط للنساء والرجال .

بلدة تموت وتقاوم بالأمل والخوارق"

واللافت للإنتباه أن مشاهد من هذا الواقع لا تزال بين ظهرانينا، رغم الفارق الزمني بين

الحاضر والخمسينيات من القرن الفائت زمن الرواية . فالرواية وثيقة تاريخية هامة وشهادة حية توثق لأنواع أخرى من الحيف يلحق المرأة، قلما تتناولها الأقلام بالدراسة والتحليل .

بوسلهام عميمر

كاتب و باحث مغربي

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved