بعد أن اهتم العراقي قصي الشيخ عسكر بروايته القصيرة “نوتنغهام في علبة ليشمانيا” 2020 بالمشكلة الأزلية، وهي صراع الحضارات أو لقاء الشرق المذكر مع الغرب المؤنث، يعود في رواية قصيرة إضافية وهي “علاء الدين” 2022* لنفس الموضوع، وهو الهروب بسبب الضغط السياسي ثم اللجوء للغرب، والدخول في متاهة مزدوجة، طرفاها الأخلاق والسلوك. ومن الطبيعي أن يكون للسلوك مضمون اجتماعي، وللأخلاق محتوى نفسي . ولذلك يمكن القول إن “علاء الدين” ركزت على طباع الشخصيات وطريقة إدراكها لموقعها في المجتمع . ومثل هذا الهم الذي يأخذ اتجاه المعرفة التجريبية يضمن للرواية تصوير شخصيات دون وعي تاريخي وبلا ذاكرة ولا هوية وطنية . ولولا القليل من الإشارات عن معاناة وضاح وأحمد في موطنهما - العراق - لما تسرب إلينا ولو النذر اليسير عن محنة العالم الثالث.

تتابع الرواية تفاصيل حياة 5 شخصيات في الغربة .

أحمد المناضل السياسي. ووضّاح التاجر المغترب . ومارتا أم دانا . ودانا . وابنها علاء الدين . ولكن من الأفضل حذف شخصية مارتا لأنها من الشخصيات المساعدة، فهي مجرد أداة لتطوير الأحداث، وكانت غائبة كل الوقت في مكان مجهول في وارسو . وقد اقتصدت الرواية في تصويرها لدرجة التقتير . ويمكن اختصار دورها بنقطتين : ارتكاب خطيئة مع وضاح، ثم إنجاب دانا، وهي التي ستنجب علاء الدين. وبهذه الطريقة نكون أمام مربع سيمائي يسيطر عليه ثلاثة رجال وامرأة . وهو ما يرشح الرواية لتكون عملاً من أعمال الفحولة . فالمرأة هي مركز الأحداث، وكأنها كأس ذهبي في ماراتون ذكوري . ولذلك تخللت شبكة العلاقات مجموعة من الأمراض الاجتماعية كالشك وارتكاب الخطيئة ودراما المغالبة أو الصراع . وبوحي من هذا المنطق يكون للرواية دراما (تمثلها ثنائيات متعاكسة داخل المربع: ذكورة # أنوثة، خطيئة # شرف، قديم # جديد). وحبكة (تمثلها رؤوس المربع)، مع نقطة تنوير (هي لحظة تقاطع الثنائيات). وأغتنم هذه الفرصة للتأكيد أن المعاني احتلت في المربع مساحة أوسع من الأنماط. وكان تصور الشخصيات (نشاطها النفسي) أهم من صورها (وجودها في الواقع) .

*** 

ورغم أن رواية “نوتنغهام” نوفيلا مهجرية مثل “علاء الدين” هذا لا يمنع وجود فروقات واسعة بينهما . 

فالهم كان معرفيا في العمل الأول، وبطله مثقف يغادر موطنه للدراسة، ثم يهبط في أوحال الحياة، ويكتشف جروحها - أو أعصبتها بلغة علم النفس. وهما اثنان: السياسة والليبيدو. ودائما يكون الليبيدو مسيسا في مثل هذه الروايات، فهو مدخل لدورة هدم.. ابن المشرق المذكر يهدم جدار التقاليد والعادات. وابنة الغرب المؤنثة تتنازل قليلا عن تكبرها وتعاليها. وفي المخدع يجري إعادة ترتيب للأدوار. الرجل يتعلم من المرأة ويتحرر من ذاته، والمرأة تكتشف الخدعة التي تتعايش معها. وفي النهاية تقدم الرواية نقطة مصالحة، وترمز لها بابنة الأنبوب التي ولدت نتيجة نكاح فعلي وإخصاب خارجي .

لكن الشخصيات، في رواية “علاء الدين”، ترتطم ببعضها البعض بمحض الصدفة، وتكتشف طريقها تحت ضغط الضرورة وقانون اللحظة. وتدور الأحداث، جملة وتفصيلا، إما في غرفة النوم أو في المطابخ - حتى أن وضاح المناضل السياسي يتحول لوضاح الطباخ. ويتم اختصار مضمون شخصيات “علاء الدين” إما في أعضائهم الجنسية أو في بطونهم مثل كل أدب الأقليات الذي لا يولي عنايته لمشاكل التحرر والاستقلال (ما يعرف بالخطاب بعد الكولونيالي). وأذكر بهذا السياق “قلبي في ضيق” 2007 للفرانكوفونية السوداء ماري ندياي**. فالشخصيات دائما متورطة بالبيئة الحاضنة وليس بالوطن الأم. وتهتم أساسا بمسائل اجتماعية كالغيرة والخطيئة والخيانة الزوجية . 

مثلا الشك بفحولة أحمد وازدراء تراخيه وتهاونه في “علاء الدين”، يتحول في “قلبي في ضيق” إلى جرح مفتوح يحرم أنج زوج ناديا من حياته الطبيعية. ومثلما كان الشك لأسباب غير مفهومة، لم نعرف شيئا عن جرح أنج. وكان أحمد ينظر لحياته مثل صورة ضوئية متراقصة على واجهة مدينة ألعاب (ص62)، كأنك تعيش في سيرك. ويتطور ذلك عند ناديا لقلق وجودي مبهم، يدفعها للتنقل بين الأحياء والمدن بحثا عن نقطة توازن أو استقرار. وتفسر الصيدلانية هذه العواطف السلبية المبهمة على أنها نتاج لما تسميه “المزايا الثابتة” (ص34). وعلى الأغلب هي تشير لكل ما يضع الشخصيات في خانة آخر أو غريب (التخزين السحابي للبشر - وتحويلهم لبنك بشري - وإعدام الجانب الذاتي للموجود). ولكن يتهرب قصي الشيخ عسكر من هذه التهم، ويسميها بفلتة لسان باسم “خطيئة” (الاعتداء على شرطة التقاليد). وأعتقد أنه بذل جهده ليختبئ وراء أصابعه. فهو لا يستقر بمحطة. وإذا توقف في مكان يحرص أن يصوره بشكل مدينة - الدولة أو ميتروبوليس .

لقد كانت بنية الرواية من نوع علبة - في صندوق .

أولا اختصرت أي دولة بصورة مدينة فيها .

وثانيا اختصرت المدينة بما فيها من صالات طعام ومطابخ مشهورة. بعكس كل أدبيات ما بعد الحرب العالمية الثانية والتي كانت تهتم بالمقاهي. بمعنى أنه استبدل الحوار والجدل بسياسة المضغ والهضم. وأستطيع أن اقول إنه دفن رسه في بطنه. مثلما فعلت ماري ندياي. ولكن ندياي ربطت المطبخ مع المرض. في حين أن قصي الشيخ عسكر ربط المطعم بإرادة البقاء. فقد كانت السياسة الهضمية عند ندياي إشارة على الضعف إن لم يكن على الخداع. وتحتمل أيضا دلالتين متعاكستين: الالتزام والواجب - أو الغش والابتزاز. في حين أنها عند قصي الشيخ عسكر كانت تشبه أعمالا حربية. ولها غاية واحدة وهي ترويض الحياة .        

ولكن إذا كان الشيخ عسكر لا يتفاءل بالمستقبل (يرمز له بعلاء الدين)، ويخاف من الماضي ويمقته (يرمز له بوضاح)، كانت ندياي أفصح منه، وأطلقت على ماضيها اسم العدوى، ومنحت الجيل التالي فرصة لعدم تكرار دورة حياتها السابقة. وبهذا السياق يقول آنج لزوجته: تخشى ابنتاي أن تشبهاني (ص97) .

فتوافق وتقول: أتفهمهما (ص97) .

ومن المؤكد أن ندياي حسمت موقفها، حتى أنها لم تقدم علامة واحدة تدل على هويتها العرقية. باستثناء إشارة سريعة لمالي (ص239). وبها عبرت عن النأي بالنفس ومن جانبين: الجغرافيا والتاريخ أوالجيبوليتيكا. غير أنها بذلت جهدها للقيام بعملية إحلال كاملة أو تقمص مثل أي عابرة “للعرق”. كأنها تريد تبديل جنسيتها - الصناعية - بالكامل. ولذك اختارت أن تعيش في الميتروبوليس على طريقة “الجذمور” - بلغة دولوز وغوتاري. وكان لديها في باريس على الأقل ثلاثة أنفاق فوق سطح الأرض. وهي تمثل ذاكرتها الاجتماعية - ثقافتها - وأخيرا ثقافة النسيان .

بينما يحتار قصي الشيخ عسكر بحياته، ولا يعرف أي نهاية هي الأفضل له. ولهذا السبب تأخذ لديه كلمة مفتاحية مثل العودة مفهوما معاكسا، وتدل على المتابعة والتعايش، وليس على القطيعة أو المواجهة (كما يفهمها الناقد العراقي حمزة عليوي في دراساته عن سيرة العائد***). وحين يغادر أحمد السجن، في نهاية الرواية، يعود أدراجه لابنه ولبيت زوجته الأجنبية (وليس لموطنه ولا لليوتوبيا الإيديولوجية التي حاول وضاح أن يعيش فيها ثم كرهها- دولة بريجينيف). ويقف أمام باب الشقة، وهو يبكي ويهم بالدخول، دون أن يدخل (ص94). وهذه أسوأ إدانة يمكن أن يحكم بها إنسان شرقي على رجل (البكاء والتردد). وبذلك تمتنع كلمة العودة على أن تكون دليلا على فعل عدالة إلهية أو تصحيحا لخطأ تاريخي (كما هو مفروض بالنسبة لمهاجر أو شخص في المنفى السياسي). ويصح ذلك أيضا على معنى كلمة دخول. فهي تتجرد من الدلالة على الولوج، بكل ما يعنيه من إسعاد وخصوبة .

عموما كانت العلاقات في “علاء الدين” محدودة، لكنها تغطي رقعة واسعة من العالم. وهي إيران ولبنان وروسيا وبولندا والدانمارك وألمانيا. وداخل هذا المعترك الذي يشبه متاهة لمعت ومضات أو تشكلت صدوع كشفت لنا أزمة الشخصيات. ويقول أحمد عن ذلك: إنها “لحظة حركت الماضي والشرق في داخلي” (ص75). وأفهم منه أن الشرق لديه هو الجزء المدفون تحت طبقة عميقة من الوعي الباطن، وعلى الأرجح هذا هو سبب النهاية الدامعة للأحداث. فقد كان أحمد يعلم مسبقا أنه بحالة بيات أو سكون، وأنه يعاد تكوينه من خلال ابنه علاء الدين. وهو ما يكفل للمربع السيميائي أن ينحاز لصالح الابن الأوديبي، الذي يتمكن من التهام الأب واحتلال مكانه. وقد سبقته ناتالي” في رواية “قلبي في ضيق” لهذه النهاية، حينما ضحت بالأب والابنة في حريق المنزل (الجانب الذكوري للثقافة)، وحافظت على حياة الأم والابن (ثقافة الإلهة الأم - ص242). ولا شك عندي أن العملين يبشران بعودة الاستعمار الناعم. لكن بدل أن تكون المواجهة عسكرية وفي الشرق، تصبح مثل درب آلام أو نصف مربع سيميائي . 

*صدرت الرواية عن دار أمل الجديدة. دمشق. 94 ص. 2022 .

**صدرت الرواية عن دائرة الثقافة والسياحة بترجمة ماري طوق. أبو ظبي. 337 ص. 2018 .

***رواية المنفى وسرديات المنفي العائد.  بحث مشارك في كتاب الرواية العربية في المنفى. ص79-145.  منشورات كتاب كتارا. قطر. 2020 .