من أسمى مهام الموسيقى أن تعبر عن المجتمع في تعاقب الفترات التاريخية وإيصال هذا التعبير إلى مجتمعات إنسانية أخرى ومحاورتها وتبادل التأثير معها فيما يوافق أسلوبها وحضارتها الفنية .
وقد أصبح هذا ممكنا على نطاق واسع بفضل وسائل الاتصال الحديثة وتنقل الفنانين عبر بلاد العالم، وإذ قرناً جديداً فبتنا بالتأكيد نترقب أسئلة بالغة الأهمية بالنسبة لموسيقانا العربية وموقعها من حضارة هذا القرن، وقيمه وفكره، وضرورة تبوئها المكانة التي تستحقها بين الثقافات الإنسانية الموسيقية الأخرى، وبالنظر كذلك للتغيرات التي ما فتئت تمس المجتمع العربي وتهم تطور الإنسان من حيث فكره وعواطفه وأحاسيسه .
وفي حديثنا عن المستقبل مسؤولية لأن المنطق يقتضي أن نشخص الحاضر بكل ظروفه وتبايناته. ونبحث عن العلل والأسباب التي تحد من فعالية موسيقانا الأصلية داخل مجتمعاتنا العربية وخارجها. وأظن شخصيا أن هذا يرجع إلى عدة عوامل نذكر منها عوامل فنية تتعلق بدرجة تميزنا ومستوى إنجازنا عامة، ومنها كذلك أوضاعنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تجعل الإقبال على ثقافتنا العربية عموماً يقتصر، في خارج الأقطار العربية، على فئة صغيرة من المثقفين والمتخصصين. وفي اعتقادي كذلك أن الفترة الحالية تتميز عموما بأزمة في الذوق العام تقتضي العمل على مجموعة من المستويات لأن النشاط الموسيقي كلٌ لا يتجزأ، وهذه المستويات هي :
- المستوى التأليفي : وفيه تبرز كل شروط وأدوات العمل الإبداعي عند الفنان المؤلف وهو ما يعبر عنه بشعرية الموسيقى .
- المستوى الإنجازي: وفيه كل أساليب الأداء الغنائي والآلي وترجمة المستوى التأليفي فنياً وتقنياً .
- المستوى الجمالي: وهو فضاء الإدراك والذوق ومجال الجمهور والنقاد؛ وهذا المستوى ليس مجرد استهلاك للإنتاج الموسيقي والغنائي، بل هو أيضا عامل يؤثر في العملية الإبداعية ويسطر حدودها ويلهم المؤلفين دورة إبداعية جديدة .
لكننا، في ظلِ ظروفٍ تاريخيةٍ معينةٍ، لا نستطيع أن نطمئن إلى استجابة الجمهور، ولا إلى ذوقه العام، لأن دوره الرائد الذي نتطلع إليه تنقصه مجموعة شروط يكون الحديث من دونها، باسم الجمهور وعنه، أجوف أو تبرير للنتاجات الساذجة والرديئة. وأول هذه الشروط شيوع الثقافة الموسيقية بشكل يعطي الصدارة لخدمة الموسيقى العربية الأصيلة، وبعدها للإطلاع على أجمل ما أنتجته الإنسانية في مختلف الحضارات .
ما الذي يحقق هذه الملاءمة المثمرة بين المبدع وجمهوره والذي يجعل الموسيقى تتجاوز حدودها القطرية والقومية إلى مجالات أكبر؟ هذا ما نقترح تسميته بالشروط الموضوعية لنجاعة النشاط الموسيقي، وهذا الإطار بناء متكامل ومنسجم يتحقق بفضله تفاعل مثمر بين مكونات الساحة الفنية في توازن واستمرارية وتنتظم فيه مجموعة هياكل للإنتاج والبث والتوزيع والدعاية والمواكبة النقدية .
ويتكون هذا الإطار كذلك من عدة مستويات أساسية ترتبط فيما بينها وتعتمد على فكرة أن العمل الفني المتكامل هو: فنان مبدع، وترجمة فنية مبدعة، وجمهور واع ومتذوق، وهياكل فنية مساعدة، وبالتالي فإطار الشروط الموضوعية لنجاعة النشاط الموسيقي ترتكز على الإجراءات الأساسية التالية :
- تنمية البحث الموسيقي بكل مكوناته: بحث نظري أساسي ـ بحث تطبيقي ـ بحث إبداعي ـ بحث تربوي ـ تأليف علمي ـ دراسة وتحقيق المخطوطات والتراث العربي المكتوب .
- تنمية التجارب المخبرية والصناعات الموسيقية: وتهتم بالبحث عن الأصوات المقبولة لدى الأذن العربية والبحث في صناعة الآلات وتطويرها وتوسيع مؤسسات الطبع الموسيقي وصياغة برامج كمبيوتر عربية الصنع لصالح التعليم الموسيقي.
- إشاعة المعرفة الموسيقية: ويتحقق ذلك عبر مؤسسات التعليم الموسيقي بمختلف مراحلها وتخصصاتها، وإنتاج برامج إذاعية وتلفزيونية للتذوق الفني العربي، وإنتاج مجلات فنية للعموم، ومجلات متخصصة، ومراكز للتسجيلات والوثائق الموسيقية.
- الإكثار من المنابر الفنية: وهي التي ستؤطر وتقدم الفن العربي الأصيل، وكذلك التجارب الفنية الحديثة التي تحترم هذا الفن وتتعامل مع الحداثة بمفهوم لا يمت إلى التغريب بصلة، كما تخدم كلاً أو بعضاً من عناصر اللغة الموسيقية العربية .
إذاً فالموسيقى علم، وصناعة، وتكنولوجيا، وتعليم مواكب، وإعلام، ومنابر فنية. فالعلم يوفر المعرفة، والصناعة والتكنولوجيا توفر الوسائل، والتعليم المواكب يضمن الاستمرارية والتواتر، والإعلام يشيع المعرفة والخبرة، والمنابر الفنية تضمن فضاءا ملائما للفنان المبدع؛ وهذا إذن إطار موضوعي يحقق الانسجام بين أطراف النشاط الموسيقييجب تحقيقه في كل قطر عربي على حدة، على أن تؤازره علاقات ثقافية وفنية بين الأقطار العربية لاختزال الجهود المكررة ولتحقيق التوافق في الرؤى والأهداف. وهذه الشروط لا تعني أن العملية الإبداعية ستظل جامدة، لأن العامل الذاتي، أي دور الفنان أساسي، وإن لم نتطرق إليه، وهو الكفيل بتطوير الأسلوب والتجارب في التحاور من محيطه خصوصاً إذا كان هذا المحيط مهيأ للاستجابة المثمرة .
وأخيراً يمكن أن يسود الاعتقاد أن العالم يتجه نحو نوع من التوحيد الثقافي والفني نظراً لسلطة الاقتصاد والتكنولوجيا الحديثة وسلطة الوسائل الإعلامية المتمركزة في الغرب؛ لكنني من الذين يؤمنون ويعتقدون أن المستقبل ليس في التقليد، بل هو للخصوصيات وحق الشعوب في التعبير عن نفسها بما يلائم وجدانها وتاريخها. وسيتحقق ذلك لا محالة بعد انتهاء فترة انبهارنا بالتقدم التكنولوجي الغربي وانبهار الغرب بالموسيقى غير الأوروبية، وسيكون شرط القبول والاستساغة في الساحة الفنية هو درجة الإنجاز الفني وجودة الإحساس والتعبير .
نحن إذا قادمون ـ بقوة تراثنا وبكفاءاتنا العربية ــ لِتَقَلُّد المسؤوليات وتحقيق الشروط الموضوعية حتى ينطلق الفنان المبدع بما يكفل حضوره في القرن الحادي والعشرين.
نقلاً عن: منتدى سماعي الطرب العربي الأصيل