ثمة ما هو متشابه تماماً بين الكلوت وبين الكمامة، عدا أنهما يبدأان بحرف الكاف، والكلوت يغطي عضوا يبدأ بحرف الكاف أيضاً، فكل منهما قطعة قماش واحدة صغيرة، تغطي فتحة جسد، هاتان الفتحتان متناظرتان نوعا ما، فكلتاهما ذوا لسان أحمر وشفتان حمراوان، وكلتاهما تتذوقان الشهوة، الأولى العلوية تتذوق شهوة الطعام، والثانية السفلية تتذوق شهوة الجنس .
لعل العرب وجدوا- كما في بعض المأثورات- دلالة على فرج المرأة من فمها؛ "فإذا كان فم المرأة واسعا كان فرجها واسعاً، وإذا كان صغيرا كان فرجها صغيرا ضيقاً، وإن كان شفتاها غليظتين كان إسكتاها غليظتين، وإن كان شفتاها رقيقتين كان إسكتاها رقيقتين، وإن كانت السفلى رقيقة كان فرجها صغيرا، وإن كان لسانها شديد الحمرة كان فرجها جافا من الرطوبة، وإن كان لسانها مقطوع الرأس كان فرجها كثير الرطوبة". هذا ملخص ما جاء في كتب العرب عن العلاقة بين الفرج والفم، كما يذكره صاحب كتاب "تحفة الحبيب على شرح الخطيب" .
وبالمجمل فإن جمالية الفرج لها علاقة بجمالية الفم، وكانت العرب تفضل الفم الصغير والفرج الضيق، لأنه أمتع عند المعاشرة، ومع هذه الفتحة الضيقة كانوا يفضلون الفرج كبير المجسّ (الحجم)، ولخص ذلك شاعر العرب بقوله متغزلا: "فإذا طعنت طعنت في لبد وإذا نزعت يكادُ ينسدّ"، وإلى الآن فإننا نشهد اهتمام النساء بتمارين كيجل الخاصة بجعل فتحة الفرج ضيقة، وحرص النساء على ألا تتوسع فتحة فروجهنّ حتى لا تكون المتعة الجنسية ناقصة .
ربما عاشت البشرية زمنا لم تكن النساء تغطي فروجهن بالكلوتات في فترة ما قبل الحلال والحرام والعيب، وكانت تعيش بفطرية مطلقة، فكانت فتحتا الجسم ظاهرتين عاديتين، غير مريبتين، الفم والفرج سواء بسواء . ثم أتى زمن على البشرية غطت فيها النساء فروجهن بالكلوتات، وصار الفرج عيباً، وخاصاً، ولا يحق لأحد رؤيته إلّا عبر المرور بطقوس خاصة أطلق عليها "الزواج"، ولذلك عظم شأن الفرج كثيرا في الثقافات الشعبية والرسمية؛ الدينية والعلمانية، ومن ينتهك ذلك المعيار، يعرّض نفسه للقتل والتجريم. فلم يكن التعري كاملا في بعض الظروف والأحوال ممكنا دون النظر إليه على أنه منافٍ للأخلاق العامة البشرية، فلا بد من وجود الكلوت كحد أدنى لتغطية الفرج، ولو كان خيطا . كما كانت تحرص على ذلك الأفلام العربية القديمة؛ إذ لم تكن تتنازل عن أن تغطي النساء الراكضات على الشواطئ فروجهن بقطعة قماش صغيرة شفافة تدعى الكلوت، ولم يكن منظر النساء وهن عاريات إلا من الفرج والنهدين منافيا للأخلاق الفنية، ولم يك محظورا عرض تلك الأفلام التي كانت تبث على القنوات التلفازية العربية قبل انفجار البث الفضائي الذي التزم المعايير ذاتها .
الآن البشرية مقبلة على ما يبدو على مرحلة يتم فيها تسويق تعييب الفم وتجريم رؤيته دون كمامة، إذ لا بد من تغطيته، وصار الفم وظهوره هاجسا يدعو الآخرين للقلق، والخوف من كل شخص لا تلبس كمامتُه فمه، وشيئا فشيئا سيصبح الفم عورة كما هو الفرج عورة الآن، لا بد من تكميمه عملياً، اجتماعيا وسياسيا، وفلسفيا وفكريا، ونقله من وضع كان الناس يباهون فيه بجمال أفواههم إلى وضع يخجلون من الكشف عن أفواههم، فصارت موضع شك ومكان نفث العلل والأمراض والموت .
لقد تم عبر آلاف السنين تدجين الفروج وتغطيتها بالكلوتات، وحان الوقت لتمر الأفواه بالرحلة ذاتها لتدجينها لتكون محل العيب الجديد، ليس فقط لتخرس ضد الأنظمة المجرمة التي احتفظت بحق انتهاك الفروج متى شاءت، بل لتقنع البشرية أن تلك الأفواه محل نقمة على نفسها وعلى الآخرين، ولا بد من تغريم من ينتهك المعايير الجديدة، فتم تجنيد عناصر الشرطة لتحرير المخالفات ضد كل شخص لا يلتزم بتكميم فمه، وصارت المخالفة علىى إظهار الفم شبيهة بالمخالفة التي كانت ترتكبها النساء عندما كانت تسير عاريات تماماً في الشوارع، ليتمّ اتهامهنّ بانتهاك الأخلاق العامة، ومن ثَمّ يتم معاقبتهن بتحرير المخالفات أو إيداعهنّ السجون أو حجرهنّ في المصحّات العقليّة إن أردن التمرد والإنفلات من تلك القيود، إنها الحالة ذاتها التي قد تؤدي بصاحب الفم غير الخاضع للتكميم ليكون سجيناً أو طريداً أو قتيلاً .
ثمة أمر آخر تتشابه فيه الكمامة مع الكلوت، وهو التفنن في صناعتها لتتوافق في ألوانها مع بقية ألوان الألبسة، تماما كما أن هناك توافقا بين الملابس الداخلية بألوانها وأشكالها؛ ليبدو عليها الإنسجام وتشكل فيما بينها "أطقماً" تستدعي الأناقة، وقد استفاد مصممو الكمامات من الخبرة الفنية في تصميم الكلوتات لصناعة كمامات عصرية باذخة وموجهة وذات إيحاءات تتجاوز الوهم الطبي الصحي إلى إيحاءات أكثر أيروسية توجّه هذه التصميمات الجديدة، وربما صارت الكمامة متوافقة في لونها مع الكلوت وحمالة الصدر في الترويج الإعلامي القادم، حرصاً على الأناقة والتآلف ومراعاة أسس التزيّن العصرية وقواعد الإتيكيت .
لعل الأخطر من كل ما سبق هو أن الرجال والنساء واقعون تحت الإختبار ذاته، فالفرج كان خاصا للمرأة مقابل القضيب للرجل، ثمة اختلاف بيولوجي غير مسيطر عليه، عوضه ابتكار تعميم الكمامة، فالرجل والمرأة صارا واحداً تحت هذا التحول السريع . هناك فرصة ذهبية لخلق عنصر بشري جديد، يكون الإعتبار فيه للكمامة وليس للكلوت . بمعنى أكثر وضوحا انزياح التجنيس الذكوري- الأنثوي جانباً، فقد صار مستهلكاً وليس له أي قيمة، ولا بد من تأسيس منطلقات جديدة مع عصر الكمامة الذهبي .
هذا بالفعل تفكير مرعب، أو لعله مآل مرعب من هذا التحول، إذ لو تم الوصول إليه لن يكون بوسع اللقاح أن يعيد للأفواه جماليتها، بل إن القائمين على الأمر يسوقون للقاح دون إمكانية الإستغناء عن الكمامة، كما أنه لا بد من لباس الكلوت حتى لو تزوجت المرأة .
بعد كل ذلك، وربما لمائة سنة قادمة على الأكثر، سيكون الكشف عن الفم جريمة أخلاقية تشبه الكشف عن الفرج، وربما صار "التناكح بالأفواه"- في الزمن القادم- سلوكاً تعويضيا عن حالة الإخفاء القسري هذه، هو البديل الإحتجاجي الأكثر بلاغة وفعالية ضد من يفرضون على البشر تلك العمليات المجنونة من التحول الوحشيّ الغريب في أطواره وأسسه التي يقوم عليها، متجاوزين ما يحدث أحياناً في هذا العصر عن الكشف عن الصدر أو المؤخرة والكتابة عليهما تحديّا للعرف العام إمعاناً في الإحتجاج عليه وتحقيره .
كانون الأول 2020