السمفونية الرقم 3 (رينان) لروبرت شومان على مقام مي بيمول الكبير

2021-03-04
شومان
 

المؤلف
روبرت شومان Robert Schumann من مواليد 1810 بمدينة "تسفيكاو - ألمانيا" Zwickau في عائلة كان ربها على قدر كبير من الثقافة، وصاحب مكتبة لبيع الكتب، حَوَّلها فيما بعد إلى دار للنشر قبل أن يصاب بمرض عصبي عجل بوفاته سنة 1826 . أما والدته فكانت على قدر كبير من الذكاء وسعة الثقافة، غير أنها كانت بين الحين والآخر عرضة للأوهام والخيالات مما جعلها تصاب بالهيستيريا .
قضى شومان فترة من طفولته في مكتبة والده فظهر اهتمامه بالأدب . ولم تكن الموسيقى هي العنصر الأساسي في بداية حياته، ومع ذلك كان يجيد العزف على البيانو والكمان والتشيلو قبل أن يبلغ سن العاشرة من عمره، وبدأ في سن السابعة في كتابة المقطوعات الصغيرة .
ولما أدرك سن الشباب كان عليه أن يغادر مسقط رأسه إلى لايبزغ حيث وجه على كره منه إلى دراسة القانون، ثم كان عليه أن يختار بين الأدب وبين الموسيقى، فقرر بعد طول تفكير التوجه إلى مجال الموسيقى .
وفي هذه الأثناء تعرف على فريديريش فييك Friedrich Wieck أستاذ البيانو ذي الشهرة الواسعة، فتتلمذ عليه، وما فتئ أن بلغ في العزف مقاما مرموقا . ولما كانت سنة 1832 أصاب الشلل أحد أصابعه، فوضع ذلك حدا لطموحاته في مجال العزف . حينئذ تفرغ للتأليف الموسيقي وأسس مع أستاذه فريدريش فييك "مجلة "الموسيقى الحديثة" التي أصبحت ولمدة 10 سنوات أشهر مجلة موسيقية في "لايبزج .
في عام 1840 تزوج بعازفة البيانو كلارا ابنة أستاذه بعد أربعة أعوام قضاها في مقارعة العراقيل التي كان الأب يضعها في طريق مصاهرته، فعاش وإياها في سعادة لا يعكر صفوها شيء، غير أن ذلك أنهك قواه، فأصبح عرضة لاضطرابات عصبية متتالية بلغت حدتها ذات يوم من سنة 1854 عندما ألقى بنفسه في نهر الراين بدافع من الرغبة في وضع حد لحياته المضطربة، إلا انه أُنقذ ليقضي العامين الأخيرين من حياته في مصحة بمدينة بون.


السمفونية رقم 3
ظل شومان حتى عام 1839 يكتب حصريا لآلة البيانو؛ وفي سنة 1840 تحول إلى كتابة "اللييد"، ولم يشرع في كتابة الأعمال السمفونية إلا في 1841؛ هكذا إذن انحصرت أعماله الأولى في كتابة مقطوعات للبيانو وأخرى للغناء - وهذا مجال تبوأ فيه المقام الأول بين معاصريه من الفنانين، بفضل ما أوتي من عبقرية في الإبداع، وحماس متدفق، وإحساس إنساني عصي .
من بين السمفونيات الأربع التي كتبها شومان ما بين 1840 و1850، تعتبر السمفونية التي تحمل رقم 3 الأكثر شهرة، وإن تكن على صعيد الترتيب الزمني هي الأخيرة . ويرجع هذا الالتباس إلى أن السمفونية الرابعة التي شرع في كتابتها أواخر 1841 كانت موضع مراجعة وتعديل بعد هذا التاريخ بعشر سنوات، وبذلك جاءت لتدرج بين السمفونيتين الأولى (1841) والثانية (1846) . وتعود تسمية السمفونية الثالثة "رينان" Rhénane إلى ظروف طارئة ترتبط بترفيع أسقف كولونيا إلى منصب كاردينال .


تحليل العمل
ليس من المهم أن تكون الحفلات المقامة على شرف كاردينال كولونيا هي الباعث على تأليف السمفونية رقم 3، ولا حتى منظر الشمس الرائع وهي تغرب على نهر الراين .
ومهما يكن، فإن الطابع الوصفي للعمل يبقى غير قابل للجدل، فبالإضافة إلى الغنى اللحني المذهل، برهن شومان على قدرة خارقة بما أبدعه من ألحان تعكس جزئيات الطبيعة بمختلف ألوانها، ومشاهد الحياة القروية، وتستحضر الأساطير والشعور الديني العميق، كل ذلك في تسلسل متوازن على مدى حركات السمفونية الخمس .
ويأتي الإعلان عن الحركة الأولى في قمة البهجة ومنتهى الحماس، إنه "الألِّيكَرو" يروي أزلية نهر الراين وقد عشقته النفوس الرومانسية، ويعكس ببريقه حيوية جمهور المحتفلين في مهرجانهم الشعبي، وهم يرقصون في فرح جيئة وذهابا على ضفاف النهر .
تذكرنا الحركة الثانية (سكيرتزو) بشكل لا يقاوم ببعض رقصات "الروندو" الريفية، مثلما أنها تذكرنا في شيء من الغرابة ب "السمفونية الريفية" لبتهوفن مع بطء نسبي في حركة الروندو. وإذا تذكرنا أن شومان كان يدون بعض الأغاني الشعبية خلال نزهاته، فلن يكون من الغرابة في شيء أن يدرجها في هذه الحركة إلى جانب ألحان أساطير الراين العتيقة .
وتأتي الحركة الثالثة العذبة الحالمة لتطالعنا بمقطع لحني مستمد من نوفَوليت (رواية) Novelette كتبت قبل بضع سنوات، عرف قائد الأوركسترا كارل شوريخت Carl Schuricht كيف يحفظ لها عذوبتها وقوة شعرها.
أما الحركة الرابعة (الآندانتي) ذات الطابع الاحتفالي الفخم والصادم معا، فإنها تزج بنا فجأة تحت أقبية كاتدرائية قوطية لعلها كاتدرائية كولونيا. وفي هذا الجو الروحاني حيث تمتزج تآلفات الأرغن مع رائحة البخور، تتغنى آلات التشيلو والباسون معا في وقار يوحي بوقار أناشيد العهد القديم، فإذا الهواء الذي نتنفسه، والنور الذي يجليه نور زجاج النوافذ، كل ذلك يبدو وقد كسته مسحة من الحزن الهادئ.
وأخيرا تنتهي السمفونية بحركتها الخامسة "الآلِّيكَرو فَيفَاتشي". وبعد لحظات التأمل في ظل الأقبية الساحقة، تأتي العودة إلى الحياة الأرضية، فتستقبل الشمس بشعاعها المُعْشي المصلي وهو يغادر القداس، بينما يرجع الفضاء صدى نهاية الموسيقى الدينية.
لقد كان شومان موفقا في تأليف اللييد، مثلما كان بارعا في كتابة معزوفات البيانو. وهذا أمر لا جدال فيه. فهل كان دون ذلك في تأليف الأعمال السمفونية؟ دعونا من هذا، إذ لا يمكن للمرء أن يطمئن إلى هذا الرأي بعد الاستماع إلى التسجيل الرائع الذي أنجزه كارل شوريخت لسمفونية "رينان" بمنتهى الدقة والإحساس .

عبد العزيز ابن عبد الجليل

 باحث مغربي، ولد بمدينة فاس عام 1931، عمل مدرساً للغة العربية ثم مديراً لإحدى المدارس الثانوية ومسؤولاً عن المعهد الوطني للموسيقى، نشر عدداً من الدراسات والبحوت في مجال الفنون الموسيقية .

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved