الماء النقي يتدفق من الإبريق النحاسي، يسكب على يدي بهدوء دون تكثير . إحساس جميل ينتابني وأنا أفرك أصابعي، الماء ينصب دافئا نقيا ... شعور استحضره مراراً هذه الأيام كلما ركضت نحو "لافابو" لأطهر يدي بالطريقة التي تمليها علينا الأطر الصحية بتلاحق عبر وسائل الإعلام ... يقعقع صوت المذيع في أذني كأنه آت من بعيد : "يعد الغسل المتكرر للأيدي واحداً من أفضل الطرق لتجنب المرض ونشره . تعرف على وقت غسل يديك والكيفية الصحيحة لذلك. ... يستمر المذيع موضحا : عندما تلمس الناس بالتحية أو تضع يدك على الأسطح، فإنك تجمع الجراثيم على يديك . يمكنك إصابة نفسك بهذه الجراثيم عن طريق لمس عينيك أو أنفك أو فمك . على الرغم من أنه من المستحيل إبقاء يديك خالية من الجراثيم، فإن غسل اليدين بشكل متكرر يمكن أن يساعد في الحد من انتقال الفيروس والميكروبات الأخرى . غسل اليدين وفركهما بطريقة سليمة أفضل وأبسط طريقة لوقاية أنفسنا ومن حولنا من الإصابة بالفيروس، يستطيع الفيروس أن يدخل إلى الجسم بسهولة عبر الفم أو الأنف، وعندما تكون اليدان غير نظيفتين يمكن لأي فيروس موجود عليهما الدخول إلى الجسم عند لمس الوجه..."
أنتبه إلى الشاشة ... ترتسم صورة رجل يفرك ظهر اليد اليسرى براحة اليد اليمنى يتوقف مرة ثم يستمر مع تشبيك الأصابع، والعكس لظهر اليد اليمنى . يتابع العملية بتخليل الأصابع، وشبكها مع فرك الراحتين . يفرك اليد اليمنى بحركة دائرية إلى الخلف، ثم إلى الأمام؛ بحيث تشتبك الأصابع براحة اليد اليسرى والعكس...." عملية نعيدها مرات في اليوم منذ ظهر كوفيد 19 هذا الوباء اللعين ... صوت المذيع يختفي تدريجيا ...
تعود بي ذاكرتي إلى الوراء ... أجد نفسي أحمل الطاس بيد وإبريقه بيد أخرى وأنا استقبل الضيوف في بيتنا القديم ... يعود صوت المذيع "البكتيريا والفيروسات تنقل أكثر عبر اليدين لذا يجب الحرص على غسلهما باستمرار". غسل اليدين من العادات الأساس في تقاليدنا كنا نعيد الغسل مراراً : عند الدخول إلى المنزل، لإعداد الطعام، قبل وبعد الأكل... عملية روتينية في ثقافتنا اقترنت بإناء «الطاس" .
ارتبط غسل اليدين بما يعرف بالمغربية ب «الطاس بيدو"، إناء مؤلف من قسمين أساسين (الطست والإبريق). والطست آنية أصلها فارسي وانتشرت في أرجاء العالم الإسلامي . تصنع من النحاس أو من الفضة . وتوجد منها اليوم نماذج رائعة بأهم المتاحف العالمية بلندن ونيويورك والقاهرة وإسطنبول...
وتفيدنا دراسات الفن الإسلامي، أن الطاس او الطست استخدم منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إذ ورد في حديث لعائشة رضي الله عنها أن الرسول قد دعا بطست عندما كان مريضا . وكان علي- رضي الله عنه - يعلم الناس كيفية وضوء النبي صلعم "فأتى بركوة فيها ماء وطست . وهناك رواية أخرى ذكر فيها الطست تقول " فنزل جبريل ففرج صدري، ثم غسله بماء زمزم ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا، فافرغه في صدري ". ومن الواضح أن الطست كان يستخدم لغسل اليدين والثياب على السواء، وقد يستعمله المرضى في بعض الحالات وعاء في شؤون الطهارة .
الطست من النحاس مطعم بخطوط فضية يعود للقرن 14 م ، متحف الفن الإسلامي بالقاهرة
تطور الطست في العصور الإسلامية الأولى وبالخصوص في عهدي الامبراطوريتين العظيمتين الأموية والعباسية . فصيغت قطع رائعة، استخدمت لغسل اليدين، من النحاس المطعم بخيوط الفضة والصدف، والمزخرفة بعناصر نباتية وخطية وهندسية .
ولا ندري بالضبط متى بدأ استعمال الطست النحاسي أو الفضي بالمغرب، ولكن يمكننا أن نستحضر وجوده بالبيوت المغربية بقوة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، فلا تخلو دار من الأواني النحاسية التي تشكل طاقما واحدا . ويتعلق الأمر بأواني الشاي من صينية وكؤوس البلار وبقراج و"صينية الربايع" التي تحفظ الشاي والسكر، والبابور لغلي الماء. وأهم ما يتقدم من هذه المجموعة من الأواني الطست والإبريق الذي يطلق عليه بالمغربية "الطاس بيدو " الطست ويده .
آنية كانت بالأمس رمزا من رموز استقبال الضيوف. واليوم تم استبدالها بصهريج الماء lavabo حتى صار الناس يعتذرون عن عدم الإستمرار في تقديم الطاس بعبارة (الي جا عند حبابو انوض لفابو) تعني من أتى عند أحبابه فلينهض للحمام ويغسل في حوض لافابو) . إلّا أنه من حسن الحظ، هناك عائلات لا زالت تحتفظ بهذا الإرث الحضاري العريق . ولازال الصانع أو "المعلم" المغربي يبدع ويتفنن في إحياء هذا الموروث .
تقاليد متجذرة في التاريخ
يستقبل الضيف في البيت المغربي بالطست . فلا يدخل الضيف البيت إلّا وقد عقم يديه بالماء الدافئ والصابون . ويقدم الطست للضيف من لدن الفتاة البكر . فما زلت أتذكر انني كنت أقدم الطاس للضيوف الوافدين على منزلنا . وقد يقدم الطاس مرة ثانية بعد تعيين "مو لأتاي" أي الشخص الذي سيشرف عل إعداد الشاي... فكانت نظافة اليدين حاضرة بقوة ... ولم تكن قواعد النظافة والوقاية وليدة اليوم، بل كانت حاضرة في أجواء تمتزج بلمسات فنية .
صحيح أن الطاس أصبح اليوم قابعا في ركن منسي من منازلنا، ومجرد موروث يشهد على هذا الماضي الجميل . للذكرى ولإعادة الإعتبار ارتأينا في غرفة صديقات أجمل العمر أن نحتفي بهذا الموروث ونستحضره في هذه الحلقة التي نقفل بها برنامج سنة 2020 . اختيار يحمل أكثر من دلالة . فهو احتفال بموروث ثقافي حقاً، ولكنه أيضاً يحمل خطاباً قوياً، فالطاس يقترن بالنظافة والتطهير والتعقيم... فنحن نريد غسل حياتنا من الفيروس اللعين، ونرجو من الله عز وجل أن تكون السنة القادمة 2021 سنة جديدة نظيفة .
لقد جاء الوباء ليختبرنا، ونختبر معه عدة أشياء تخصنا وتخص نمط حياتنا ونعيد النظر في سلوكياتنا التي اغتالت كثيرا من ماضينا . لقد صرنا في زمن كورونا نتمنى أن تعود الينا الحياة رغم بساطتها . ونحن باستحضار هذه الآنية / التحفة رمز التطهير والنظافة أردنا أن نتصالح مع ماضٍ زاهرٍ وترميم ما ضاع منا . فلنترك الماء يتدفق من إبريق طاس كل واحدة منا ... ماء صافي ونقي دافئ يحمل معه كل الخير والفرح .
الرباط 23-12-2020
الطست والإبريق التركي