التجانس الإجتماعي والتكامل الإنساني

2021-07-16

1

يُمثِّل التجانسُ في العلاقات الإجتماعية نظامًا ثقافيًّا مركزيًّا،وقيمةً أخلاقية مُرتبطة بطبيعة السلوك الإنساني. والتجانسُ لا يعني التطابق التام، أو التقليد الأعمى، أو اعتماد سياسة القطيع . وإنما يعني التوافق في المبادئ الأساسية، والإتفاق على الأفكار العامَّة، والوصول إلى نقطة مشتركة في مُنتصف الطريق، واعتماد الحُلول الوسط، التي تضمن تحقيق مصالح الجميع بلا إقصاء ولا تمييز . لذلك كان التجانسُ بناءً عقلانيًّا قبل أن يكون بناءً اجتماعيًّا، ومنظومةً فكرية تُساهم في صناعة العقل الجمعي من أجل تحقيق التكامل لا التماثل  .

2

الإشكاليةُ في فلسفة البناء الإجتماعي هي أن البعض يعتقد ضرورة تحويل الناس إلى نُسَخ مُتشابهة لتحقيق التوافق، ويؤمن بحتمية صَهر جميع الهُوِيَّات والثقافات في بَوتقة واحدة لتحقيق التجانس، ويَتمسَّك بأهمية إزالة الإختلافات في الآراء ووُجهات النظر لتحقيق الوَحدة . وهذه الأفكارُ تُمثِّل خطراً حقيقيّاً على طبيعة النسيج الإجتماعي، لأن كُل إنسان يمتلك بصمته الحياتية الخاصَّة، ويُمثِّل نظامًا وجوديّاً قائمًا بذاته، ويُشكِّل منظومةً فكرية مُستقلة، ويُجسِّد هُوِيَّةً عقلية مُختلفة . وكُل إنسانٍ نُسخةٌ أصلية، ولا يُمكن تحويله إلى نُسخة مُقلَّدة، والأصل لا يَكون فَرْعاً . وهُنا تكمن قُوَّة الإنسان باعتباره الجِنس المُفكِّر الأرقى والنَّوع الحياتي الأسْمَى . ومِن هذه القُوَّة يَستمد الإنسانُ شرعيةَ وُجوده في عَالَم التحولات الإجتماعية، وفضاءِ التغيرات الثقافية . والقُوَّةُ المُنضبطة بالأحكام العقلانية هي مصدرُ الشَّرعية الأخلاقية، والشَّرعية الأخلاقية هي مَاهِيَّة الوجود الإنساني الحقيقي . وكُلُّ إنسان يَمتلك هُويته الشخصية وثقافته الخاصَّة، ويُكوِّن آراءه وأفكاره وَفق قناعاته ومصالحه . ولا أحد يترك مصلحته لتحقيق مصالح الآخرين، ولا أحد يتخلَّى عن وجهه لارتداء أقنعة الآخرين . والتاريخُ يتَّسع لجميع الناس بكُل اختلافاتهم، ولكن المُهم أن لا يتحوَّل الاختلاف إلى خِلاف . وهذا يستلزم إيجاد منظومة إنسانية يَحدُث فيها التفاعلُ الإجتماعي، الذي يُحوِّل الإختلافات بين الناس إلى مصدر قُوَّة روحية ونهضة عقلية وثراء فكري، لأن الاختلافات هي تعدُّد للقِيَم والثقافات والعادات والتقاليد وزوايا الرؤية، مِمَّا يؤدِّي إلى الوصول إلى حقيقة المعاني وجوهر الأشياء . ولا يُمكن الوصول إلى مَغزى الحياة إلا مِن خلال رؤيتها من كُل الزوايا والإتجاهات . وكُل رؤية أُحادية نُقْطة ضعف، وكُل ثقافة قائمة على الإقصاء والتهميش هي كُتلة من الشظايا الوهمية، وكُل وُجهة نظر تُمثِّل رأياً شخصيًّا نِسبيّاً، ولا يُمكن اعتباره حقيقة مُطْلَقَة . والأشخاصُ الذين يَزعُمون امتلاكَ سُلطة الحقيقة المُطْلَقَة مُصابون بخَوف عميق، ويُعانون من انهيار داخلي، ولا يَثِقُون بذواتهم وثقافاتهم، لذلك يُحاولون الهُروب إلى الأمام لحماية أنفسهم وتحريرها من الخَوف والإنهيار، ولا يُدركون أنَّ حماية النَّفْس إنما تكون بفحص الآراء وتدقيق الأفكار، ولَيس بإضفاء العِصمة والقداسة عليها . ولا يَعرفون أن التحرر من الخوف إنما يكون باقتحامه، وإزالة آثار الإنهيار إنما تكون بإعادة البناء على أساس صُلب . والهروبُ مِن النَّفْس البشرية يعني موت الإنسان ونهاية التاريخ .

3

التكاملُ الإنساني ( المعنوي والمادي ) الذي يقوم على مبدأ التجانس في العلاقات الإجتماعية، يستطيع كشفَ الصراعات الشخصية التي يُعاني منها الأفرادُ حِين يُحاولون الإنتماءَ إلى أفكار مُتنافرة وبيئات مُضطربة، كما يستطيع التمييزَ بين سُقوط المُجتمعات في التاريخ، وسُقوطِ المُجتمعات من التاريخ . وإذا أدركَ الإنسانُ طبيعةَ دَوْر التاريخ في بناء الوقائع النَّفْسِيَّة، وتشكيلِ السلوك الإجتماعي، وتكوينِ الظواهر الثقافية، فإنَّه يستطيع توظيف التاريخ لتحليل التراكيب الداخلية في المجتمعات، وإزالةِ الصراعات الشخصية، وتخفيفِ ضغط العناصر الفكرية على المسار الإجتماعي فرديّاً وجماعيّاً، الأمر الذي يَقُود إلى تحرير الفرد والمجتمع مِن العُزلة الوجدانية، والإنكماش الأخلاقي، والإنكسار الحضاري . وهذا يعني حماية التاريخ من الإنقسامات الإجتماعية، وحماية المجتمع من ظواهر التغيُّر التاريخي الذي لا يمكن إيقافه .

إبراهيم أبو عواد

كاتب من الأردن

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved