1
الثقافةُ الحقيقية في المجتمع لا تقوم على مفاهيم مُجرَّدة أو مَاهِيَّات غامضة أو تعابير هُلامية، وإنما تقوم على حقائق واقعية وأفكار واضحة وسلوكيات مُستقيمة، ومُهمة الأنساق الثقافية هي طرح الأسئلة بلا مُجاملة، وتكوين المشاعر الإنسانية القادرة على تغيير البُنى الإجتماعية بلا تلاعُب . والمجتمعُ لا ينهض إلّا بتكريس الأسئلة المصيرية وتغيير المشاعر السلبية . وإذا استطاعَ الإنسانُ تغييرَ نظامَ حياته إلى الأفضل، فإنَّ أنظمة اجتماعية مُتقدِّمة ومنظومات فكرية جديدة ستنشأ وتنتشر في تفاصيل المجتمع، وتُعيد بناءَ الوَعْي الكُلِّي والعقل الجمعي على قاعدة تحمُّل المسؤولية ومواجهة الأزمات، وليس تبرير الأخطاء والإلتفاف حولها ودفن النار تحت الرماد وترحيل الملفات إلى الأجيال القادمة .
2
الإشكاليةُ الصادمة في المجتمعات الخائفة من الحقيقة، تتمثَّل في تحوُّل الثقافة إلى قناع خادع، وأداة لتزيين الواقع، ووسيلة تخديرية للناس، وعملية ميكانيكية لرشِّ السُّكَّر على المَوت . والهدفُ من الثقافة ليس تجميلَ المَوت، وإنما تجميل الحياة، ونقل الأنساق الإجتماعية المَيتة إلى قلب الحياة . ووظيفةُ المثقف ليست تزيين الماضي بالشعارات، وإنما تزيين الحاضر بالإنجازات، واستلهام أمجاد الماضي، وصناعة أمجاد جديدة قادرة على دفع الناس إلى اقتحام المستقبل بثقة وإصرار . وشرعيةُ الثقافة تنبع مِن قُدرتها على صناعة أزمنة جديدة، وتشييد أمكنة فريدة، بعيدًا عن استعادة الأزمنة الماضية، واستعارة تجارب الآخرين، لأن كُل إنسان ابن زمانه، وكُل مجتمع له خصوصية مُتفرِّدة وماهيَّة ذاتية، وهذا يعني عدم وجود فائدة من تقليد الآخرين ونسخِ سلوكياتهم . وعلى المجتمع أخذ الحِكمة والعِبرة والمعنى الرمزي من إنجازات الأمم الأُخرى وتجاربها، ثُمَّ صناعة ظروف مُناسبة لإمكانياته وقُدراته، وإنشاء عوالم خاصَّة قادرة على احتضان نقاط قُوَّته ونقاط ضَعْفه .
3
الخَيَّاط الماهر، يهتم بنوع القُماش، لكن تركيزه على عملية تفصيل القُماش، بحيث يصير ثيابًا أنيقة تتلاءم مع تفاصيل جِسْم الإنسان، وكذلك المُثقف الحقيقي يهتم بنوع الأفكار، لكن تركيزه على عملية تفصيل الأفكار، بحيث تصير منظومةً إبداعية تتلاءم مع تفاصيل كِيان المجتمع . وكما أنه لا فائدة من الثياب النظيفة على جِسْم مُلوَّث، كذلك لا فائدة من الأفكار الرائعة في بيئة قاتلة للإبداع . وامتلاكُ البِذرة القوية لا يعني مُجتمعًا قويًّا، ينبغي أن تتوفَّر تُربة صالحة لاحتضان تِلك البِذرة . ومنظومةُ ( البِذرة / التُّربة ) تُشبه منظومةَ ( الثقافة / المجتمع ) . والثقافةُ لا تُؤَثِّر في المجتمع إلّا إذا قامت على الابتكار والتجديد، بعيدًا عن الإستعادة والإستعارة . وكُل تأثير إيجابي يُمثِّل مشروعَ خلاصٍ للعقلِ الجمعي، وعمليةَ إنقاذ للعلاقات الإجتماعية، وطَوْقَ نجاةٍ للمشاعر الإنسانية . وقُوَّةُ التأثير تابعة لمركزية النسق الثقافي في الإدراكِ الحِسِّي، والتفاعلِ الرمزي، والسُّلوكِ الاجتماعي . وإذا امتلكَ النسقُ الثقافي أُفُقَه ومَدَاه، تحرَّرَ مِن سَطوةِ اللحظة الآنِيَّة، وسَيطرةِ الأهواء الذاتية، وهَيمنةِ المصالح الشخصية، وتحوَّلَ إلى ظاهرة ثقافية قائمة بذاتها، ومالكة لقرارها، ومُعْتَرَف بها معنويًّا وماديًّا . وكُل ظاهرة ثقافية مُتجذرة في شرعية المجتمع مساراً ومصيراً، لديها القدرة الذاتية على التكاثر، وتَوليدِ الأشكال الإجتماعية، وتحميلها بالمضامين المعرفية المنطقية . واتحادُ الشكل والمضمون يَمنع التَّشَظِّي وبَعثرةَ الجهود، ويُؤَسِّس نظامًا تكامليًّا يُمكِّن المُثقفَ مِن بناء عَالَمه الإبداعي لَفْظًا ومَعْنى .