قصيدة للشاعر العراقي حسين مردان (1927- 1972)
هذه القصيدة، مغروسة في ذاكرتي، منذ قراءتي لها وأنا في الثالث المتوسط في ديوان (طراز خاص) للشاعر حسين مردان، وعلى ذمة ذاكرتي المثقبّة الآن كان الديوان الأنيق الحجم والغلاف من منشورات دار صادر في بيروت، وتسبق القصائد مقدمة نسيتُ للأسف اسم كاتبها . لكن ثمة نصف سطر يتوهج للآن في ذاكرتي وبحق هو مفخرة لنا وللشاعر الكبير حسين مردان – طيّب الله ثراه – القائل هو الفيلسوف الفرنسي الوجودي جان بول سارتر: ( أن الشاعر حسين مردان هو بودلير العراق).. لكن السؤال لماذا مازالت هذه القصيدة تتوهج في ذاكرتي وارددها كلما تشوّقتها ؟ هناك قصيدتان في الديوان نفسه تتناول فاجعة كربلاء من منظور آخر: (نبوءة عن الشمر) مكتوبة في 1962(هوسة للعباس) في 1966 لا جواب َ لديّ على سؤالي لحد هذه اللحظة .
(*)
منذ ألف عام،
أو يزيد
كان هنا يزيد
يجلد وجه سيدي (الحسين) بالسياط
ويقطع النياط
في كل قلب أبيض.. لينزل الستار
على القذى في مقلة النهار
لكنه العياط
جرثومة تنقلها النساء للصغار
فلم نزل ندعوا الى الجهاد
ولم نزل نريد
اضاءة البيوت للجميع
ولم يزل يزيد
يولد كل عام
يحمل فوق كفه الجذام
ليفتح القماط
عن كل جرح أسود الصديد
ولم يزل سيدنا شهيد
يقتل كالأمس ... لكي نحيد
عن دربه..
ليلمع الثأر على السنان
لا.. لم نعد نحتمل المزيد
والأعور الدجال في البلاط
يوزع النقود
ويشتري سواعد الجنود
لتحرق الخيام
وتغرس المسمار في العظام
فلينهض النيام
ولتبصق الأفعى على الطعام
فالأرض منذ عاد
لم تنبت الافراح للعبيد
وليصمد الطغام
فأنني ابصر من بعيد
في أفق (سامراء) طيف صاحب الزمان
يخرج من سردابه القديم
(*)
حسب قناعتي مازالت القصيدة متوهجة. وماتزال تخاطبنا جميعا القارىء العادي والقارىء القياسي.. وإذا سمعهاا الإنسان الأمي فسيكون مشدودا للقصيدة أيضا ويطالبنا بتكرار قراءتها وهذا الامر حدث معي كثيراً ..
(*)
للقصيدة نسيج حكائي تاريخي عراقي تتمحور على تلك الثورة المغدورة التي دشنت على يد الحسين بن علي – عليها السلام – الجسارة الثورية الأولى في تاريخ الإسلام ..
(منذ ألف عام
أو يزيد
كان هنا يزيد )
الشاعرحسين مردان في تناوله للتراجيديا الحسينية، يختلف عن المؤرخ وعن مجالس العزاء وما يجري هو اختلاف وليس خلافا . فالشاعر له أدواته الشعرية، يتناول فيها (الفتنة الثانية)* ..ولا يكتف ِ بذلك فالتاريخ يعيد انتاج مفاسده في حيواتنا .
(ولم يزل يزيد
يولد كل عام)
وكل طاغية لا يكتمل من غير ضحاياه وهذا الإكتمال هو أكتمال المنقصة الأخلاقية
(ولم يزل سيدنا شهيد
يقتل كالأمس .. لكي نحيد
عن دربه
ليلمع الثأر على السنان)
هنا نلاحظ أن سيرة التاريخ الإسلامي سيرورة هيغيلية . نسبة للفيلسوف هيغل الذي يقول
أن التاريخ يعيد نفسه دائما...
(*)
القصيدة قصيرة بتكثيف وليس بإيجاز، فالثاني يتسبب الأغماض وليس الغموض الشعري الشفيف
(*)
على قصرها : القصيدة مزدانه بعلاماتيات ثرة توصل شحنتها للكافة قبل الخاصة من الناس :
*الأعور الدجال
*الأفعى
*حرق الخيام
*سامراء
* صاحب الزمان
*سردابه القديم
هذه العلاماتيات : غدت من الثقافة الشفاهية العراقية والضوء الذي في آخر النفق هو
حين يتحول صوت الشاعر حسين مردان إلى صوت الكورس المسرحي مرة ً يصف مفسدة وأخرى يبشرنا بالإنقضاض على المفسدة ..
*توصيف المفسدة
(والأعور الدجال في البلاط
يوزع النقود
ويشتري سواعد الجنود
لتحرق الخيام
وتغرس المسمار في العظام )
*توصيف التحريض
(فلينهض النيام
ولتبصق الأفعى على الطعام
فالأرض منذ عاد
لم تنبت الأفراح للعبيد
وليصمد الطغام )
هنا الخطاب من الفرد إلى المتعدد : أفراح / عبيد/ طغام..
ومن هذا الخطاب تتصنع المنصة / البشارة حين يتحول حسين مردان من شاعرٍ إلى الشاعر الرائي
(فأنني أبصر من بعيد
في أفق (سامراء) طيف صاحب الزمان
يخرج من سردابه القديم)..
وهكذا اكتملت سيرورة القصيدة ولم يكتمل الحدث . كان التاريخ مهزوما وثمة لحظة انتصار تقترب ..
*د, عادل كتاب نصيف العزواي : (حسين مردان : الأعمال الشعرية) دار الشؤون الثقافية العامة/ بغداد / 2009
*بثينة بن حسين / الفتنة الثانية في عهد الخليفة يزيد بن معاوية / منشورات الجمل/ بغداد – بيروت/ 2012