هيام قبلان.. كيفَ انسابَتْ ما بينَ أدوارِها المِحوريّةِ؛ إنسانةً، شاعرةً، ناقدةً، راويةً؟
الإنسانةُ: هيَ نفسَها هيامُ الشّاعرةُ؛ بي مِن الحنينِ والعطفِ، والغضبِ والثّورةِ، وبي مِنَ الضّياعِ والصّمتِ. كلُّ هذهِ الحالاتِ تدخلُ في نصوصي الشّعريّةِ، فلا يُمكنُ أنْ أفصلَ ذاتي عن القصيدةِ، فأوّلاً وقبلَ كلِّ شيءٍ، أنا إنسانةٌ ألِدُ القصيدةَ، والقصيدةُ تنمو في داخلي، ترنو إليَّ، تتذوّقُ مِن نبيذي وشهدي، وتختارُ أنْ تبقى أو ترحلَ، هذهِ العلاقةُ بينَنا منذُ الطّفولةِ، فلا يمكنُ الفصلَ بيني كإنسانةٍ وبينَها كشاعرةٍ، لأنَّ كلَّ ما حولي أراهُ بقلبي الّذي يخفي بينَ طيّاتِهِ وجعَ وفرحَ القصيدةِ.
النّاقدةُ: لستُ ناقدةً بقدرِ ما أنا مبْصِرةٌ لكلِّ ما يُكتَبُ وأقرؤُهُ بعمقٍ، وأحلّلُ النّصَّ الّذي أمامي مِن عدّةِ وجوهٍ. النّقدُ لهُ خصائصُهُ، ومِنَ الجميلِ أنْ يكونَ النّاقدُ قارئًا ما وراءَ الكلماتِ.
الرّاويةُ: لا تختلفُ كثيرًا عنِ الشّاعرةِ بالنّسبةِ للّغةِ في نصوصي الشّعريّةِ، وفي روايتي تلمسينَ الشّعرَ والموسيقى الدّاخليّةَ، لكن عالمَ الرّوايةِ أوسعُ، حيثُ أنّني أحيانًا أنسى نفسي داخلَ الأحداثِ، ويكونُ مِنَ الصّعبِ إعادتي إلى المكانِ والزّمانِ بسرعةٍ، لأنّني أنصهرُ معَ الشّخصيّاتِ والأحداثِ، وحينَ أعودُ إلى الواقعِ أفقدُ تفاصيلَ كثيرةً أثّرتْ عليّ... إذًا هيَ كلُّ هذا.
الشّآمُ، السّجّانُ، لبنانُ، والزّمنُ؛ إحداثيّاتٌ تُشكّلُ محصّلاتٍ عدةً في شِعرِكِ وحياتكِ.. كيفَ تتجلّى؟
الشّام: وطنُ الجدودِ لها في قلبي مكانٌ، وطنُ أبي الرّاحلِ الّذي توارى تحتَ التّرابِ، ولم يقابلْ عائلتَهُ بعدَ أن فرّقَهُمُ الزّمنُ. الشّآمُ هي العِزّةُ، والكرامةُ، أشمُّ رائحةَ أرضِها الطّيّبةِ، وأفتّشُ في السّهولِ والجبالِ عن أقحوانةٍ ليلكيّةِ العينيْنِ، تتمايلُ على كتفِ قصيدةٍ من شعرِ نزار قبّاني، فيطيرُ الفؤادُ معلِنًا الرّحيلَ والسّفرَ.
هي تاريخُ أبي ورحيلُهُ عنِ الوطنِ.. وللرّحيلِ قصّةٌ. غادرَ أبي سوريا مُتّجِهًا مع فرقةٍ مِنَ الجنودِ السّوريّينَ للدّفاعِ عنِ الأراضي المغتصبةِ على أيدي اليهودِ وعن الشّعبِ الّذي لاقى العذابَ والتّهجيرَ عنْ أرضِ فلسطين، وذلكَ قبلَ عام (1948)، واشتركَ ضدَّ الجيشِ الإسرائيليِّ، في معركةِ سُمِّيتْ (رمات يوحانان)، وقُتل فيها في وقتِهِ أخو(موشيه ديّان)، والعديدُ منَ الجنودِ مِن الطّرفينِ. أُلقيَ القبضُ على أبي، ورَفعتْ فرقتُهُ الرّايةَ البيضاءَ مِن أجلِ السّلامِ والحوارِ. بعدَ فترةٍ قصيرةٍ غادرَ أبي أرضَ فلسطين عائدًا إلى وطنِهِ ومسقطِ رأسِهِ سوريا، وفي طرقاتِهِ الوعرةِ علمَ منَ أحدِ الجنودِ السّوريّينَ أنّهُ محظورٌ عليهِ العودةَ، لأنّهُ تحاورَ مع قياديّينَ يهودٍ. أبي الّذي دافعَ عن سوريا بِجسدِهِ وروحِهِ، لَمْ يعُدْ مأواهُ غيرَ البراري والجبال. أثناءَ تشرُّدِهِ، وصلَ إلى نَهرِ الحاصباني في لبنان، بالقربِ مِن محافظةِ حاصبيّا، والتجأَ إلى أهلِها الّذينَ حمَوْهُ لمدّةٍ طويلةٍ. هناك تعرّفَ إلى أمّي؛ فتاةٌ في مقتبلِ العمرِ، جميلةٌ، بريئةٌ، خجولةٌ، مطيعةٌ، خفقَ قلبُهُ لأوّلِ مرّةٍ وهو الشّابُّ العازبُ المُغامرُ. بادلتْهُ الحبَّ وعُقدَ قرانُهُما في لبنان. لكن الوضعَ أصبحَ خطيرًا، فقرّرَ الهربَ والعودةَ إلى فلسطينَ ثانيةً ليعيشَ فيها مؤقّتًا، ومِنْ ثمَّ يلجأُ إلى بلدٍ عربيٍّ آخرَ، لكن مساعيَهُ باءتْ بالفشلِ وبقيَ هنا، بعيدًا عن عائلتِهِ لمدّةٍ خمسينَ عامًا. رحلَ أبي قبلَ فترةٍ وجيزةٍ دونَ كلمةِ وداعٍ، ودونَ أن يحتضنَ وجهَ أختِهِ الباكي عليهِ، ودونَ معانقةِ إخوتِهِ الّذينَ انتظروهُ بفارغِ الصّبرِ.. تدثّرَ والدي بثوبِهِ الأبيضَ الفضفاضِ.. أغمضَ عينيْهِ وبينَ شفتيْهِ: "سلامٌ للشّآمِ الوطنِ".
غربةُ أبي، الوحدةُ، السّفرُ، التشرُّدُ، الظّلمُ، خيبةُ الأملِ، الشّوقُ والحنينُ في عينَيْهِ.. انتظارُهُ الطّويلُ في هضبةِ الجولانِ في منطقةِ (تلِّ الصّراخِ)، منتظرًا أهلَهُ ولَم ينتظرْهُ أحدٌ حتّى بحَّ صوتُهُ، والتحفَ بالصّمتِ إلى يومِ وداعِهِ الأخيرِ ورحيلِهِ، ولأنّنا نؤمنُ أنّهُ سوفَ يولدُ مِن جديدٍ، نُصلّي بأنْ يرى في جيلِهِ القادمِ مَن بقيَ مِن عائلتِهِ، وربّما بولادةِ الطّفلِ الصّغيرِ تعودُ الضّحكةُ إلى بيتِهِم القديمِ مرتعِ طفولتِهِ وزمرّدِ شآمِهِ.
مِنَ الطّبيعيِّ أن تخلقَ الظّروفُ منهُ رجلاً عصاميًّا وحُرًّا، وقد ورثْتُ عن أبي الكثيرَ مِن خصالِهِ، مع أنّني ألومُهُ لتَرْكِهِ وطنَهُ، ما أدّى إلى عدمِ رؤيَتِنا أحبابِنا، ولَم نعرفْهُمْ أبدًا. كلُّ هذا التّاريخِ أثّرَ على كتاباتي المليئةِ بالعتبِ، والشّوقِ، والرّحيلِ، والغربةِ، والسّفرِ.
السّجّانُ بالمعنى الم جازي: هوَ الشّخصُ المتغطرسُ الظّالِمُ الّذي لا يَحملُ بقلبِهِ رحمةً، هوَ الوجهُ المعتمُ الّذي تعيشُهُ المرأةُ، وتلتزمُ الصّمتَ حينَ تَهوي الهراوةُ بقسوةٍ على جسدِها، فتكتُمُ الألَمَ خوفًا منهُ ومنَ الفضيحةِ.
السّجّانُ بالمعنى العاديِّ هوَ: القانونُ الّذي لا يعترفُ بالعطفِ والشّفقةِ، بل يُحسُّ بالقوّةِ والحرّيّةِ إزاءَ مُنافسِهِ الرّاقدِ وراءَ القضبانِ، إنّهُ يُمثّلُ الظّلمَ والحصارَ.
لبنان:
الغربةُ والرّحيلُ والسّفرُ أراهم في عينيّ أمّي الّتي هجَرتْ وطنَها الأمَّ لبنانَ، وتركتْ قطعةً مِن السّماءِ هطلتْ على الأرضِ لتعيدَ للحدائقِ ألوانَها. أمّي والغربةُ وليالي الفراقِ والسّهرِ، هي الّتي يُخيّمُ عليها السّكونُ، وتَجتاحُها نوبةٌ من البكاءِ لفراقِ الأحبّةِ. لبنانُ الأرزُ، لبنانُ الصّمودُ والنّزْفُ، والنّفوسُ الّتي ضاقتْ بِهم الأرضُ فرحلوا، وهوتْ نجمةُ الصّبحِ صريعةَ الدّمارِ والحروباتِ. لبنانُ هو البحرُ الّذي رسَمَهُ محمودُ درويش في قصائدِهِ، وهو بيروتُ العروسُ الّتي تغنّى بجمالِها الشّعراءُ.. بيروتُ المقاهي، وفناجينُ القهوةِ الّتي كانتْ تنتظرُ في عتبٍ، ورائحتُها المختلطةُ برائحةِ الجثثِ في الجنوبِ وفي الشّوفِ تَخترقُ فوّهةَ الغضبِ.
مِنَ الجنوبِ اللّبنانيِّ أتتْ أمّي؛ الفتاةُ اليافعةُ الّتي لَمْ تَدْرِ ما ينتظرُها في هذهِ البلادِ الغريبةِ، عانتِ من الويلاتِ والغربةِ والحدودِ الفاصلةِ، وَعاركتِ الحياةَ مع أبي بِحلوِها ومُرِّها، ولَمْ تَعُدْ سِرًّا حكايتُها مع أبي؛ الحبُّ العارمُ الّذي مِنْ أجلِهِ تركَتْ أهلَها ولحقَتْهُ.
لأمّي حكاياتٌ عن الخوفِ، والصّبرِ، والعشقِ، ومحاولةِ إنكارِ الذّاتِ، وكذلكَ الحرمان، والشّوقِ، والانتماءِ إلى الوطن لبنان، وفي عدوان (إسرائيل) على لبنان (1981-1982) كانتْ أمّي تَجهشُ بالبكاءِ، وهي تُشاهدُ دمارَ لبنانَ، ويُشعلُ جسدَها نارُ الخوفِ على أهلِها وعلى عائلتِها.
في سنة (1982) تسنّى لأمّي زيارةَ أهلِها وبيتِهم القديمِ.. رافقْتُها إلى لبنانَ الّذي تركَ بي أثَرًا كبيرًا، وعدتُ ورائحةُ القهوةِ المسكوبةِ على طاولاتِ المقاهي تتعثّرُ بين شفتيّ، والعماراتُ المهدّمةُ والأُخَرُ الآيلةُ للسّقوطِ، ودماءُ القتلى على الشّوارعِ والطّرقِ التّرابيّةِ، والجوُّ الكئيبُ، ومع كلِّ هذا بقيَ الأرزُ صامدًا في وجهِ العواصفِ العاتيةِ، ليُخلّدَ ذِكْرَ لبنان الأبيِّ الزّاهرِ اليومَ بعمرانِهِ، والأطفالُ الّذينَ رقدوا تحتَ الرّكامِ، والزّعاماتُ النّائمةُ في سباتٍ عميقٍ بصمتٍ عمّا جرى وما يَجري اليومَ.
الزّمان: الإنسانُ يتغيّرُ، يكبرُ، يسافرُ، يَجترحُ الرّحيلَ ويغادرُ، والزّمنُ يبقى في مكانِهِ يودّعُ الرّاحلينَ ويستقبلُ وجوهًا جديدةً، والأوراقُ يتبدّلُ لونُها، وتينتُنا العاريةُ تَخلعُ حزنَ الكلماتِ، والفقراءُ يفتّشونَ عن لقمةِ العيشِ، وأنا أفتّشُ عن ذاكرةٍ أدفنُ فيها حُلمي. الزّمنُ حاكمُ عصرِهِ يأمرُ وينهي، ويلبسُ ثيابَ العافيةِ ليستريحَ، لا يَحملُ على جبينِهِ علاماتِ الموتِ أو الفرحِ.. يُبقينا في دوّامةٍ من ضبابٍ.. نُلمْلمُ ما تبقّى مِن شظايا الزّحامِ.
مِن زاويةِ (على أجنحةِ الفَراشِ) في صحيفةِ (الصنّارةِ)، إلى مُعِدّةِ برنامجٍ ثقافيٍّ أدبيٍّ في إذاعةِ (المحبّةِ).. هل مِن رابطٍ بينَ هيام والدّوْرِ الإعلاميِّ الّذي لعبَتْهُ في مرحلةٍ ما؟ وأينَ نَجدُها إعلاميًّا؟
في زاويةِ (على أجنحةِ الفراشِ) كنتُ أنا الفراشةُ المحلّقةُ في الصّحيفةِ لمدّةِ سبعِ سنواتٍ، وبِي شوقٌ للعودةِ إلى زاويتي؛ تلكَ النّافذةَ الّتي كنتُ منها أطلُّ على العالمِ الرّحبِ، أتسكّعُ في زقاقاتِهِ، أُلوِّنُ بريشتي أسوارَهُ العاليةَ، وبأجنحتي المتكسّرةِ الّتي حافظتُ عليها مِن عواطفَ شتّى باءتْ بالفشلِ.
كنتُ أتسلّقُ غيمةً لألامسَ النّجوم، وأرنو مِن البحرِ.. أرمي الضّجرَ والألَمَ داخلَهُ، ومِن زاويتي إلى إعدادِ وتقديمِ برنامجٍ أدبيٍّ في إذاعةِ (المحبّةِ)، وهنا يَختلفُ العملُ؛ فإعدادُ برنامجٍ وتقديمُهُ ببثٍّ حيٍّ ومباشرٍ، يَحتاجُ إلى جهدٍ وسرعةِ خاطرٍ وإتقانٍ للّغةِ، فالإذاعةُ همزةُ وصْلٍ قويّةٌ بينَ الصّوتِ والمتلقّي، والمجهودُ كبيرٌ للإعدادِ والأداءِ بصوتٍ ملائمٍ، كذلكَ العلاقةَ مع المستمعينَ، إذ إنَّ المواضيعَ لنجاحِ البرنامجِ هيَ المهمّةُ، والّتي تسترعي متابعةَ المستمعينَ. الإعلامُ لهُ دورٌ في حياةِ المبدعينَ، فهو الخيطُ الرّفيعُ الّذي يصلُ بِهم إلى النّجوميّةِ، وبدونِ الإعلامِ لا يَمكنُ أن ينهضَ أيّ قلمٍ وينتشرُ. تلكَ الفترةَ غيّرتْ مِن مَجرى حياتي، ومِن حيثُ تعرّفي إلى عددٍ كبيرٍ منَ الشّعراءِ من خلالِ المقابلاتِ والحواراتِ.
مِن حيثُ الشّهرةِ كانَ نوعٌ مِن التّعتيمِ على كثيرٍ مِن الّذين يكتبونَ إبداعًا، وليسَ نصًّا عاديًّا، وذلكَ للظّروفِ الّتي مرّتْ بِها البلادُ، حيثُ نشأَ الشّعرُ الملتزمُ، والشّعراءُ الّذينَ التزموا في القضيّةِ اشتهروا عالميًّا، وغيرُهم مِن الأسماءِ بقيَتْ في الظّلِّ، والإعلامُ لَمْ ينْصِفْهُم وأنا واحدةٌ منهم، لذلكَ قرّرتُ شقَّ طريقي وَحدي، والقارئُ يقرّرُ، ولابدّ في نِهايةِ الأمرِ مِن عمليّةِ غربلةٍ، وأقولُ إنّ الشّاعرَ المبدعَ هو القادرُ على مُعالجةِ جميعَ الهمومِ، وليسَ الهمَّ الذّاتيَّ فقط. والآنَ، أنا راضيةٌ عن نفسي وعمّا أكتبُ، لكن ما زلتُ أطمحُ لعملٍ مغايرٍ ومُختلفٍ، وأنا لا أهرولُ وراءَ الإعلامِ، ومَن يريدُ الكتابةَ عنّي يأتي إليّ، وكتاباتي هي الجوابُ.. وصلتْ إلى العالمِ العربيِّ ولاقتْ صدًى، وتُرجمتْ بعضُ أعمالي إلى الإنجليزيّةِ، وأُجريَتْ على نصوصي دراساتٌ من طلابِ في المعاهدِ العليا والجامعاتِ، وأنا أتواصلُ إعلاميًّا مع كتّاب وشعراءَ من العالم العربيِّ؛ نتبادلُ الأفكارَ والشّعرَ ونستفيدُ مِن بعضِنا.
أيُّ الوسيلتيْنِ أقربُ للمثقّفِ الذّوّاقِ؛ أهيَ المقروءةُ أم المسموعةُ وكيفَ؟
أعتقدُ أنَّ في الوسيلتيْنِ الفائدةَ؛ القارئُ الذّوّاقُ يُحبّ أنْ يقرأَ الكلمةَ ويَحتضنَها، ويُحاورَها، ويُدهشَ بِها، وينتمي إليها، لذا لابدَّ لهُ مِن القراءةِ كي يُحقّقَ متعتَهُ، أمّا الوسيلةُ المسموعةُ فهيَ عمليّةُ إيصالِ الصّوتِ والنّبرةِ، وهنا يتركُ لخيال المستمعِ أنْ يُبلورَ الصّورةَ.. أظنُّ أنَّ كلَّ واحدةٍ من الاثنتيْنِ لها متعتُها ودهشتُها الخاصّة.
كيفَ تُقيّمُ هيامُ الحالةَ الثّقافيّةَ المحليّة والعامّة خلالَ تَجربتِها الأدبيّةِ؟
خلالَ تَجربتي الّتي واكبتُها منذُ سنواتِ السّبعينياتِ حتّى الآنَ، طبعًا طرأَ تغييرٌ وتحوُّلٌ في طُرقِ كتابةِ الشّعرِ، وكذلكَ في التّوجّهِ في شكلِ القصيدةِ ومضمونِها، بعدَ أنْ كانتِ القصيدةُ تقيَّمُ بشكلِها العموديِّ، ظهرَ تيّارُ الحداثةِ ليُغيّرَ شكلَ القصيدةِ ومواضيعِها، بعدَ أنْ كانتِ التّيّاراتُ السّياسيّةُ والوطنيّةُ تُحبّذُ شعرَ ما يُسمّى شعر المقاومةُ، وبعدَ أن تَحرّرتِ القصيدةُ مِن الشّكلِ العموديِّ والوزنِ، عمّتِ الفوضى في كتابةِ ما يُسمّى بقصيدةِ النّثرِ، أو بالشّعرِ المنثورِ، ودخلَ إلى بستانٍ لا حارسَ لهُ كلُّ مَن هبَّ ودبَّ، وأطلقَ على نفسِهِ شاعرًا.
قصيدةُ النّثرِ لها جماليّاتُها وخصائصُها، ولا يُمكنُ التّخلّي عنِ العمليّةِ الإبداعيّةِ في الكتابةِ مِنْ صُورٍ وإيحاءاتٍ ورموزٍ ولغةٍ تُدهشُ القارئَ، وإلاّ تَحوّلتْ قصيدةُ النّثرِ إلى خاطرةٍ أو نصٍّ نثريٍّ، فالسّاحةُ الأدبيّةُ مليئةٌ وللأسفِ بأسماءَ تسلّقتْ على أكتافِ غيرِها لتصلَ، ولكن القارئَ الذّوّاقَ يستطيعُ التّمييزَ بينَ الشّعرِ الجميلِ الهادفِ والإبداعيِّ، وبينَ الكلماتِ الهزيلةِ الّتي بدونِ معنًى.
شاركتْ هيام في العديدِ مِن مؤَتمراتِ الدّاخلِ والخارجِ.. برأيِكِ ما هيَ التّأشيرةُ الّتي ينبغي للكاتبِ أو الشّاعرِ الحصولُ عليْها، ليتمكّنَ مِن إيصالِ رسالتِهِ إلى المنابرِ الثّقافيّةِ محلّيًّا وعالميًّا؟
هي ليستْ تأشيرةً واحدةً فقط، بلْ عدّةُ تأشيراتٍ تُساعدُ الشّاعرَ وتُخرجُهُ مِن المكانِ الضّيّقِ إلى المكانِ الرّحبِ، الشّاعرُ لوحدِهِ لا يستطيعُ الوصولَ إلى منابرَ ثقافيّةٍ عالميّةٍ دونَ مساعدةٍ من دار نشرٍ تتبنّى الكاتبَ وتنشرُ إنتاجَهُ، ومؤسّسات رسميّة لها علاقةٌ بالفنِّ والأدبِ، ومواقع في الإنترنيت، ورابطة للكتّابِ لنشرِ الكتبِ وترجمتِها، وجمعيّات هادفة تكونُ منبرًا لقولِ الكلمةِ دونَ خوفٍ. لكن للأسفِ الشّديدِ في بلادِنا، فإنّ على المبدعِ أن يحفرَ في الصّخرِ، حتّى يوصِلَ ما يكتبُهُ، ليسَ فقط محلّيًّا، وإنّما إقليميًّا وعالميًّا، مِن خلالِ المواقعِ التي منَ الممكنِ أن يصلَ اسم الكاتبِ وما ينشرُهُ. هذه ليستْ تأشيرةً كافيةً لوصولِ الكاتبِ إلى المنابرِ، فنحنُ فلسطينيّو الجزء المحتل سنة (1948)، حُكِم علينا أن نبقى هنا، لكن اليومَ نرى في الأفقِ كتّابًا وشعراءَ اخترقوا الحدودَ، ليسَ على حسابِ دائرةٍ معيّنةٍ أو حزبٍ معيّنٍ، لأنَّ كلَّ هذا كلامٌ فارغٌ، وحالةٌ مؤقّتةٌ للشّاعرِ، والّذي يبقى هيَ تأشيرةُ الكلمةِ الصّادقةِ الهادفةِ الحقّةِ.
هل الإبداعُ مِن موسيقى ورسمٍ وفنونٍ إضافةً إلى الشّعرِ، منَ الممكنِ أنْ يكونَ تأشيرةً أساسيّةً، وسطَ هذا الازدحامِ الانتهازيِّ في ساحتِنا الثّقافيّةِ؟
مِنَ المعروفِ أنَّ من أهدافِ (إسرائيل) التّعتيمَ على الوجهِ المضيءِ في مجتمعِنا الفلسطينيِّ، خصوصًا في مجالِ الشّعرِ والموسيقى والرّسمِ، لأنَّ الفنونَ تُعتبرُ وسيلةً للتّعبيرِ عنِ الذّاتِ والحرّيّةِ، وهذا يُنافي سياستَها، فهدفُهُم ليسَ التّوعيةَ بل الانتهازَ، والعملُ الفنّيُّ الّذي يأتي بطريقةٍ انتهازيّةٍ لن يصمدَ.
ما هي النّجاحاتُ الّتي حقّقتْها هيام؟ وأينَ وقفَ عجْزُها عن الأملِ الّذي تَمنّتْ تَحقيقَهُ ولَم تَنجحْ؟
حقّقتُ نَجاحاتٍ، والحمدُ لله،ِ بقدرتي في إصدارِ سبع مجموعاتٍ شعريّةً ورواية، وما أردتُ أن أقولَهُ: إنَّ النّجاحَ في الحياةِ مِن الممكنِ أن يكونَ باهرًا وممتعًا في محطّةٍ مِن محطّاتِ حياتِنا، وليسَ مِن الضّروريِّ أنْ يشعرَ الإنسانُ بإحباطٍ، إذا لَمْ يُحقّقْ بعضَها أو الكثيرَ منها. ربّما أحلامي أكبرُ من الواقعِ، لذلك أجتهدُ لأكملَ مسيرتي الأدبيّةَ على أكملِ وجهٍ. أشعرُ بكتابتي للرّوايةِ بإشباعٍ، وأنتظرُ النّتيجةَ النّقديّةَ لها وهذا سيكونُ من أروعِ نَجاحاتي، وقد حصلتُ على جوائزَ وشهاداتِ تقديرٍ مِن معاهدَ عليا ومؤسّساتٍ ومؤتَمراتٍ، لكن كلَّ الجوائزِ لا تصنعُ مبدعًا، بل المبدعُ هو الّذي يصنعُ الجوائزَ.
مِنْ يقرأ قصائدَ هيام يلامسُ أمنياتٍ تتكرّرُ.. بأيّةِ صورٍ تتمنّى هيام أن تولدَ مِن جديدٍ وكيفَ؟
الولادةُ مِن جديدٍ هي نوعٌ من الخلودِ، وأنا أدري أنّهُ ليسَ هناكَ مَنْ يُخلَّدُ على وجهِ البسيطةِ، لكن مِن إيمانٍ دينيٍّ وفلسفيٍّ أدعو نفسيَ للولادةِ بعدَ رحيلي، مِن مُنطلقٍ أنَّ الجسدَ يَفنى لكن الرّوحَ تبقى، ومِنَ الممكنِ أنْ تتقمّصَ جسدًا آخرَ وهُوَ مُقدَّرٌ لها، وهنا إيماني بِما يُسمّى (التقمّصِ) تناسخِ الأرواحِ، وفي قصيدةٍ أوجِّهُها لأمّي، أخرجُ سافرةَ الوجهِ مِن شرنقةٍ وأحتلُّ جسدًا آخرَ، وقي كتابي (بينَ أصابعِ البحرِ) معظمُ النّصوصِ فلسفيّةٌ، وتتحدّثُ عن الولادةِ والموتِ والبحثِ عن الذّاتِ الأخرى.
أينَ يكمنُ الواقعُ الحاضرُ في قصيدتِكِ؟ ومِن أين تستحضرينَ وتستنبطينَ أفكارَكِ؟
الشّاعرُ هو مرآةٌ لنفسِهِ قبلَ كلِّ شيءٍ، وهوَ المرآةُ الحقيقيّةُ لوطنِهِ، وعندما أتحدّثُ عنِ الوطنِ أستحضرُ كلَّ الأماكنَ الّتي غابتْ مِن سَماءِ بلادي ومِن بلادٍ أخرى؛ استحضرُ تاريخَ بغدادَ وجُرحَ فلسطينَ، وغربةَ أمّي ورحيلَ أبي وولادةَ سعادتي الأولى.. أستحضرُ الشّوارعَ الباكيةَ في جنوبِ لبنانَ، ومأساةَ الشّعوبِ الفقيرةِ الباحثةِ عن رغيفِ الخبزِ.. أستحضرُ (لوركا) ومحمود درويش و"سنابلٌ تغفو على شاطئِ بُحيرةِ طبريا".. أستحضرُ القدسَ ويافا وعكّا مِن دمعةِ طفلٍ أكتبُ، ومن جُرحِ ومآسي الوطنِ أستأصلُ نفاذَ الصّبرِ.. إنّهُ الواقعُ المعجونُ بالوهمِ والحلمِ بأنْ يستقرَّ الوضعُ في شرقِنا الحبيبِ. طبعًا هناكَ جانبٌ مشرقٌ لابدَّ منهُ في حياتي، أستنبطُهُ مِن الصّبرِ والتّسامحِ والعفوِ عندَ المقدرةِ، والجانبُ الأهمُّ أني أحببتُ أحدًا أحبَّ روحيَ المتفانيةَ.
يزفّونَ لي خطيئتي، ما هو تفسيرُكِ للخطيئةِ، وفي أيِّ ركنٍ نجدُها في القصيدةِ شعرًا ونثرًا؟
مَن منّا بدونِ خطيئةٍ؟ الخطيئةُ أن أولدَ أنثًى وأصرخَ في وجهِ الظّلمِ والمجتمعِ الذّكريِّ.. الخطيئةُ أنْ أحلمَ بأنَّ يديَّ في يومٍ سوفَ تطالُ النّجومَ.. الخطيئةُ أنْ أقولَ "لا".. الخطيئةِ أنْ أتعرّى أمامَ نفسي.. الخطيئةُ أنْ تَحتالَ عليَّ اللّحظاتُ كلَّ هذهِ السّنينَ.. الخطيئةُ أنْ أسافرَ إلى اللاّمكانِ وأعودَ لأنّني لَم أجدْ نفسي.. الخطيئةُ.. الخطيئةُ.
في مجموعتي الشّعريّةِ (اِنزعْ قيدَكَ واتْبعْني) أقولُ:
"يصيرُ همسي جسدَ امرأةٍ/ يغرقُ في الذّنوبِ/ خطايانا يا سيّدي .. "رائحةُ خبزٍ محروقٍ"/ كوجهٍ يرتدي لونَ البحرِ/ يَسكبُ نبيذَهُ بينَ يديَّ في قصيدةٍ".
هذا أنموذجٌ مقتضبٌ مِن قصيدةِ "عامان" في كتابِ النّصوصِ النّثريّةِ (بينَ أصابعِ البحرِ)، وبالذّات في بابِ "بحثٌ في ثورةِ الرّيحِ"، نصوصٌ عدّةٌ منها: "أتعرّى أمامَكِ فهل تغفرين؟"/ "لستُ مثلما تُريدونَ"/ وغيرُها.
عجزتِ في بعضِ قصائدِكِ عن البوحِ بروحيّةٍ معيّنةٍ، هل لهيام مِن حدودٍ؟ أينَ الخطّ الأحمر؟
أجدُ نفسي حرّةً وجريئةً، لكن مع بعضِ التّحفّظِ، ليسَ خوفًا، وإنّما لأمارسَ مع نفسي لغةَ الأدبِ بسُمُوِّها، فأنا أعيشُ في مجتمعٍ شرقيٍّ محافظٍ، وهنا يدخلُ موضوعُ الخطايا الّتي تحدّثتُ عنه مِن قبلُ، توجدُ خطوطٌ حمراءُ لم أتخطّاها في شِعري، فأنا أخافُ عليهِ مِن التّلوُّثِ.
الموضوعُ الإيروسيُّ أكتبُهُ، لكن بتردّدٍ، رغم أنه جزءٌ من حياتنا، أمّا في روايتي ففيها فقراتٌ تفصيليّةٌ، ولحظاتٌ ربّما تخطّيتُ فيها الخطوطَ الحمراءَ في علاقةِ الرّجلِ بالمرأةِ.
كذلكَ موضوعُ السّياسةِ أتناولُهُ بحذرٍ، ليسَ في كلِّ المواقفِ.. أنوّهُ أنّني في كتابِ (بينَ أصابعِ البحرِ) خرجتُ من ذاتي ومن الزّمكانيّةِ، وأعتبرَ النّقّادُ هذا جرأةً وخروجًا عنِ المألوف.
قصّةُ طفولةٍ ما زالتْ تتربّعُ على مساحةِ ذاكرتِكِ؟
قصّةُ الكرْمِ في آخرِ البلدةِ، واكتشافي لنفسي بكتابةِ الشّعرِ وهي قصّةٌ حقيقيّةٌ؛ كنتُ في المدرسةِ الابتدائيّةِ، ووجدتُ نفسي كلَّ يوم أُخفي تحتَ ثوبي مِحفظةً صغيرةً فيها أقلامٌ ودفترُ مذكّراتٍ صغيرٍ.. أهرولُ إلى كرْمِنا القريبِ، وأغمضُ عينيَّ تحتَ شجرةِ اللّوزِ منتظرةً الشّمسَ، وهي تتماوجُ بينَ أغصانِ الأشجارِ، تُلوّحُ بيدِها وتُغادرُ، كانتْ تلمُّ ضفائرَها، تَمسحُ حزني، وأبقى مع (الأجنحةِ المتكسّرةِ) لجبرانَ، أهيمُ بالكونِ، وأخالُ نفسي سلمى بطلةَ القصّةَ، ومِن جبران وُلدَتْ عاطفتي ووجداني، واتّخذتِ المنحَى الرّوحانيَّ في حديثي وفي كتاباتي وفي علاقاتي معَ الآخرِ. إضافةً لجبران، قصّةُ والديَّ وعذابُهُما، عندما حضرا وحدَهُما مِن سوريا ولبنان، والغربةُ والرّحيلُ والسّفرُ، وبكاءُ أمّي لفقدانِ شبابِها في مكانٍ لا تنتمي إليهِ، وشوقُ أبي لدمشق.. كلُّ هذا تربّعَ وما زالَ يتربّعُ على مَساحةِ الذّاكرةِ.
في العام المنصرم 2010 أصدرت رواية "رائحة الزمن العاري"، هلا حدثتِنا عنها..
الرّواية نُشرت في دار التلاقي للكتاب في مصر، والتي تُعنى بنشرِ الثقافة الرّفيعة والإبداع المتميّز بمديرِها العام د. أسرار الجراح من الكويت، ومدير النّشر الشّاعر والكاتب المسرحيّ السّماح عبد الله من مصر.
الرّواية تحتوي على 150 صفحة تقريبًا مِن الحجم المتوسط بإخراجٍ فنّيّ جميل، زيّنت صفحة الغلاف لوحةٌ فنّيّةٌ مِن روائعِ الفنّان الفلسطينيّ تيسير بركات من مدينة رام الله الفلسطينيّة، وهي الرّواية الأولى لي بعدَ سبع مجموعاتٍ شعريّة : آمال على الدروب، همسات صارخة، وجوه وسفر، بين أصابع البحر، طفل خارج من معطفه، انزع قيدك واتبعني، لا أرى غير ظلّي، وهو الديوان الأخير قبل الرّواية والذي صدر عن بيت الشعر الفلسطينيّ في رام الله. وقد بدأت الرّواية بمقولة ميشيل دي مونتين: "لا شيء يرسّخ الأشياء في الذاكرة ويثبّتها كالرّغبة في نسيانها". أمّا الإهداء إلى: طائر الفينيق الخارج مِن الرّماد بأننا: "نملك أن نعيش مرتين".
الرّواية تدورُ حولَ محوريْن: معاناة المرأة الأرملة في مجتمع ذكوريّ، والمحور الثاني الصّراع الفلسطينيّ الإسرائيليّ؛ قضيّة الهُويّةِ والانتماءِ لعرب ال48 داخل الخط الأخضر. اعتبرَها النّقّادُ جريئةً بمشاهدِها، بحُرّيّةِ التعابير والمفردات التي وُظّفت فيها، وهي التي تُعرّي الزّمن من هيبتِهِ ووقارِهِ، مِن رائحتِهِ ولونِهِ ومذاقِه، تُعرّي الأقنعة التي كان لها الدّوْرُ الفعّالُ في الفسادِ الاجتماعيّ والأخلاقيّ ضدّ المواطن، والتعاون مع السّلطة بألفِ وجهٍ ووجهٍ، على حساب الإنسان المُهرول وراءَ رغيف الخبز، والقابض على جمْر الحياة مِن أجل الحفاظِ على الأرض والعرض والهُويّة، وعلى الكيان في بقعةٍ مِن بقاع الأرض التي اختارَها الله أن تكون أرضَ القداسة والمحبّةِ والعطاء، فأفرغت أحاسيسَ الشّخصيّات في الرّواية بأسلوب سرديّ لا يخلو مِن السّرد الشّعري، بأحداثٍ مثيرةٍ رومانسيّةٍ، ما بين الواقعيّةِ والاجتماعيّةِ الخارجة أحيانًا مِن حدودِ القاموس اللّغويّ، الذي تهشّمَ وجهُهُ مِن حجارةِ الغزاة على اللّغة العربيّة، فتتميّز الرّواية بالحقيقةِ الصّادقة والجرأة، بالكلمة الحرّة اللاّهثة وراءَ نزفِ الفلسطينيّ والعربيّ في كلّ مكان، وتكشف عن وجوهٍ ساعدت التاريخ على التزوير وإتاحةِ الفرص لتورّطِ أمّةٍ في سحْق الرّحى لأصوات، كانَ مِن المفروضِ أن تُخلّدَ على صفحاتِ التاريخ. الرّواية تنشدُ العدالةَ المفقودة للأنثى، ومنْحَ الرّجلِ اعتباراتٍ خارجَ مفهوم العدالةِ والإنسانيّة، ليتضحَ أنّ الرّجل هو العبدُ لمجتمع ذكوريّ، يحملُ عقليّة قبليّة تتوارثُها الأجيالُ فيترهّلُ الزمن، لتؤدّي الشّخصيّاتُ في الرّواية وظيفتها بينَ ولادةٍ وموتٍ، وبين تضحيةٍ ورعشاتٍ مِن أمل، بينَ ملامسةِ الفِكر لموضوع "الجسد" وعلاقتِهِ بالرّوح، وبين أن يكونَ الجسدُ مسرحًا يُهطلُ عليه الرّجال شهواتُهم باستغلالٍ وحرمانٍ وكبت.
الرّواية هادفة بقدْرِ ما تحتاجُ لمراوغةِ قارىءٍ ذكيّ لالتقاطِ حبّات عقدٍ هنا وهناك، كان مِن الممكن أن تتناثرَ لولا الرّويّة والصّبرِ والنّفَسِ الطّويل. تتعدّدُ المشاهدُ التي مِن خلالها تخرجُ اللّغة عن المباشرة، لتمزجَ رائحة الجسدِ برائحة الزّمن والدّم النازف باستشهادِ البطل المناضل "نبيل"، إنّها حكاية الوقت الذي لا وقتَ له، والمكان الذي يفقدُ أرصفتَهُ وبناياتِهِ وأرضَهُ وأحلامَهُ، وإنّها العلاقة التي سنتركُها نافذة ونهاية مفتوحة للقارىءِ والناقد العربيّ، نتركُها على رفوفِ المكتباتِ آملين أن لا يعتلي ملامحَها الغبار.