لا الحَجْرُ يُنْسِيكم ولا الإغلاقُ
سُكنى الأحبّةِ في النّوى الأعماقُ !
وإذا تباعدتِ المسافةُ بيننا
فَرَشَتْ إليكم حُبَّنا الآفاقُ..
وإذا سألتم كلَّ ريحٍ صَوْبَكم
ردّتْ عليكم… أنّها الأشواقُ !
وإذا تلظّى القلبُ في أعماقِنا
هَتَفَ الحنينُ بأنّنا عُشّاقُ…
قد أغلقوا كلَّ الدّروبِ وإنّما
للقلبِ من خَفْقِ الهوى إطلاقُ !
وطني هنا.. أنتم هنا وطني ولي
في كلِّ شبرٍ قُبلةٌ وعناقُ…
أشتاقُ للقدسِ الحبيبةِ حينما
تختالُ مثلَ صباحِها الأسواقُ !
أشتاقُ يافا حين يُرسِلُ بحرُها
شِعْرًا على رملِ الزّمانِ يُراقُ..
أشتاقُ حيفا أن أَضُمَّ ترابَها
فهناك أحبابٌ لنا ورفاقُ..
سنُعودُ للُّقْيا ونُمْعِنَ في المدى
فَرَحًا… فآخِرُ ليلِنا الإشراقُ !
وطني هنا… شغفي هنا.. قلبي هنا
واللهُ يَعلمُ… كم أنا مشتاقُ !
هذه القصيدة الرائعة الماتعة، الأنيقة بحروفها وكلماتها، المتناسقة في صياغتها وألحانها العذبة، وقوافيها البلاغية، جاد بها يراع وخيال الشاعر الجليلي الوارف، الرقيق الشفيف، د. أياس يوسف ناصر .
هي ليست قصيدة هفهافة أتحفنا بها أياس فحسب، بل تحفة شعرية ولوحة فنية جمالية متكاملة من جميع النواحي، خلابة الصور، نستشف فيها المشاعر الفياضة ورهافة الإحساس الثاقب، والشعور الوطني والإنتماء، والحنين الوجداني، والخيال الرومانسي، والإشتياق للأحبة ولمدن الوطن الغالي المقدس، لعكا ويافا والقدس زهرة المدائن .
أياس ناصر شاعر ملهم، خصب الخيال، راقِ بفكره وموضوعاته وأفكاره، يسهم في حضور القصيدة المرهفة الرقيقة، التي تعبر وتجسد التصاقه بالوطن وتعكس واقع الإنسان الفلسطيني، وتتميز كتابته بالسلاسة والإنسيابية الشفافة والعفوية الجميلة الواضحة والصور المبتكرة المستحدثة، له أسلوبه المميز الخاص، ولغته المدهشة الآسرة .
إنه عندليب يصدح بين ربوع الوطن ويغرد بمفاتنه، وتغريده يضرب مثلٌ في الدهشة والملاحة والعذوبة والطيب، وشاعر أنيق وجميل يشار له بالبنان، يتناغم مع الحلم والعشق، ويتماهى مع الحرف والمفردة والقافية الكاملة، يمتلك الخيال الخصب الواسع، والأدوات الفنية الجمالية، وقادر على التوصيف والسرد المكثف في الرؤية الشعرية، ونغم الصوت واللحن والإيقاع الموسيقي والخلق في البنية الشعرية، وفي اللغة الساحرة في الإبهار، فهو يتدفق وينساب بنبضه كشلال في عز الشتاء، دون تتلاعب بالكلام ودون تكلف وغموض وإبهام . وما يميز قصائده الحس المرهف الثاقب والعاطفة المتفجرة والرؤيا العميقة واللغة السليمة، وهي من الشعر الذي يعرف بـ " السهل الممتنع " .
لقد استمتعت بهذه القصيدة مثلما استمتعت من قبل بديوانيه " قمح في كف أنثى " و " قبلة بكامل شهرزادها "، فللصديق د. أياس ناصر خالص التحيات وأطيب الأمنيات، وبانتظار دائم لنتاجه المميز .