عبد العليم القباني

2009-07-02

بدأت علاقتي بهيئة الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية منذ أن تعرفت بالمستشار فوزي عبد القادر الميلادي في أواخر السبعينيات، فكلفني بكتابة أوارق تخص الهيئة على الآلة الكاتبة ، ثم عرض عليّ أن أعمل سكرتيرا إداريا للهيئة مقابل مرتب شهري، عارضت أول الأمر لكن الدكتور يحيي بسيوني - الذي كان يشغل أمينا عاما لها، أقنعني، وقال لي : ما أنت بتقوم بالعمل دون مقابل.

كنت أحضر اجتماعات مجلس إدارة الهيئة، لأكتب محضر الجلسة، وكانت الاجتماعات تنتهي عادة دون أن تكمل ، ففي كل مرة يختلف البعض ويتعارك البعض،ويثور البعض ويغضب ويمشي تاركا الاجتماع.

بسبب وجودي القريب من مجلس الإدارة ،سافرت مع وفود الهيئة إلى محافظات عدة ، وكان القائمون على هذه اللقاءات يتحكمون في اختيار أعضاء الوفود طبقا لراحتهم، ولأن الأستاذ المرحوم عبد العليم القباني من النوع الهادئ الذي لا يثير مشاكل ولا يختلف مع أحد ، فكان أساسيا في كل وفد هو والشعراء : أحمد السمرة وميلاد واصف وإدوار حنا سعد .

سافرت مع عبد العليم القباني إلي محافظة الإسماعيلية ، وجلست في السيارة بجوار الشاعر الكبير الأستاذ محمود عبد الحي مؤلف نشيد أقسمت باسمك يا بلادي فاشهدي،التي لحنها وغناها موسيقارنا الكبير محمد عبد الوهاب ؛ وكنت سعيدا وفخورا بذلك . وشاركت المرحوم الأستاذ المرحوم عبد الحفيظ نصار في حجرة واحدة ، وهو رجل فاضل وعالم في اللغة والدين الإسلامي.

كان معنا في ذلك الوفد مذيع شاب من إذاعة الإسكندرية ،وصحفيان من مجلة اسكندرية ، جاءا لاستغلال الأسماء الكبيرة في الوفد ، لأخذ إعلانات للمجلة من هيئة قناة السويس وشركاتها. ونجحوا في ذلك ، فاستاء أعضاء الوفد الكبار.

وقدموا إلينا مدرس مسن من الإسماعيلية، من النوع الذي يتعامل مع الأدب من بعيد لبعيد،حكي لنا عن لقائه بالسيدة جيهان السادات،وما قاله عنها. فاعجب به مذيع إذاعة الإسكندرية وقال : إنه أفضل أديب عندهم.

فقلت له: بل هو أديب قليل القيمة .

فلم يعجبه كلامي، فإذ بالأستاذ عبد العليم القباني يقول في ابتسامة ساخرة: لو كان هذا أفضل أدباءهم ، فيويلهم .

وسعدت لأن وجهة نظري اتفقت مع وجهة نظر كاتب كبير مثل عبد العليم القباني.

وشاركته السفر بعد ذلك عضوا في وفد من وفود هيئة الفنون ، أو ضمن مؤتمر أدباء الأقاليم، أو مع صديقنا سعيد بدر ، الذي كان يأخذنا بسيارته لنقضي يومي الأحد والاثنين في القاهرة.كنت أسعد بحديثه وثقافته الواسعة ،حكى لي عن عمله كمقرر للجنة تسمية شوارع الإسكندرية ، وكيف اختاروا مدرسة رأس التين القريبة من عمود السواري ليغيروا اسمها ويطلقوا عليها اسم الرئيس محمد أنور السادات.فقد أرادوا أن يختاروا مدرسة العباسية، فاعترض لتاريخ اسم العباسية واقترح عليهم مدرسة رأس التين ، التي تحمل اسم حيا بعيدا عنها ، وحكي لي عن موظف محافظة الإسكندرية الكبير الذي فرض على اللجنة اسم والده المستشار ، فاطلقوا اسمه على شارع كبير في منطقة الحضرة ؛ رغم أن والده مجرد مستشار مثل الكثير من المستشارين العاديين. ورأيته يكتب اسماء المشاركين معه في الرحلة، فاخبرني بأنه يكتب يومياته ، ويحكي عما حدث . مما جعلني أعود بعدها إلي كتابة يومياتي ، وواظبت عليها إلى الآن .

جمعتنا معا هواية البحث عن تاريخ الأحياء والشوارع في الإسكندرية. كنت أتصل به تليفونيا وأسأله عن سبب تسمية الحي الفلاني باسم كذا، والشارع الفلانى باسم كذا ونتحدث طويلا، وأقول له: خايف تكون متضايق من اسئلتي الكثيرة.

فيقول بحماس: هو أنا لاقي حد بيهتم بالمواضيع دي كده.

كان عبد العليم القباني بسيطا، خياط بلدي، يقرفص فوق " البنك " ويخيط جلابيب أولاد البلد، ثم اهتم بالكتب واتصل بالحركة الثقافية .مثّل القباني عندي نموذجا للأديب الموهوب الذي لا يحمل شهادات عالية، أو يشغل وظيفة كبيرة .

ولد في 2 أغسطس 1918 بمطوبس- محافظة كفر الشيخ.وفي عام 1922 انتقل مع والده محمد القبانى الذى كان ترزيا بلديا إلى الإسكندرية.

أدخله والده وهو في السابعة من عمره أحد الكتاتيب فتعلم مبادئ القراءة والكتابة وحفظ أجزاء من القران الكريم.ولما أتم العاشرة أخرجه أبوه من الكتاب وضمه إليه صبيا يعمل معه فى دكان الخياطة.أحب القراءة فى سنه المبكرة وبخاصة الشعر الذى بدأ نظمه بحسب طاقته.توفى والده سنة 1942 فقام بعمله فى دكانه خياطا بلديا بشارع باب سدرة بالإسكندرية.

ويقول عبد العليم القباني في كتابه " مع الشعراء أصحاب الحرف " عن مهنة الخياطة وعلاقتها بالكتابة :

والخياطة حرفة تعمل فيها اليد بغير جهد عضلي قاس، تذهب قسوته بطاقة صاحبها الذهنية والبدنية ، كذلك لا تأخذ قسطا كبيرا من تفكير محترفها ، ومن هنا فهو محافظ بأغلب طاقاته ، ولهذا فهو دائم التفكير في غير صناعته ، وإذن فلابد أن يشغل نفسه بأمر ما مما يشغل به الناس أنفسهم ،وقد يكون- في تحريكه لذراعه بمتواليات منسقة في غير إجهاد - ما يساعده على تنظيم أفكاره ، وتنشيطها وتنسيقها في أثناء صمته الطويل .ولعله يفيد أيضا من مناقشاته لزبائنه وهم يمثلون مدارك مختلفة من الثقافة والعلم ،ومن ثم كان كثير من الخياطين على جانب من سعة الأفق ودراية بجوانب الأدب "

فطن إليه بعض زبائن والده من علماء المعهد الدينى بالإسكندرية فأخذوا فى توجيهه وزودوه ببعض الكتب الأدبية التى تساعده على السير فى هذا الاتجاه وشجعوه على التردد لمكتبة البلدية والإفادة بمحتوياتها.

بدأ نشر شعره فى المجلات المحلية بالمدينة 1935 ثم بمجلة السياسة الأسبوعية التى كان يرأسها الأستاذ حافظ محمود 1937 ثم مجلة الثقافة 1940.

حصل على الجائزة الأولى فى الشعر فى المباراة التى أقامتها وزارة المعارف العمومية "وزارة التربية والتعليم الآن" 1948 وكان أن زاره الأستاذ محمد فريد أبو حديد فى دكانه ليتأكد من شخصيته وكانت هذه الجائزة بمثابة انطلاق له فى المجال الأدبي العام وقد ألقى بعض شعره يومئذ فى دار الأوبرا فى الحفل الذى أقيم بهذه المناسبة.

حالة عبد العليم القباني الاجتماعية شدته إليها، فلم يتعامل مع الآخرين بقدر مكانته الأدبية الكبيرة، الماضي يشده إليه، فلم ينس أنه مجرد خياط بلدي، حتى في جلساته أمام كبار الأدباء، عامل الناس بقدر مكاناتهم الاجتماعية أكثر مما عاملهم بقدر مواهبهم وإمكانياتهم الأدبية، فلم يشترك مع الآخرين في وقفة ضد أى شيء.

ويحكون أن خلافا حدث بين شاعر سكندري معروف ومدير ثقافة وصل إلى نقطة شرطة شريف، وكان القباني الشاهد الوحيد الذي سيحسم الأمر، لكنه فضَّل الانسحاب والعودة إلى البيت.

وفى أخر العام 1948 حصل على جائزة الشعر الغنائى من الإذاعة المصرية وغنيت أولى أغانيه الشعرية بالإذاعة وكان عنوانها "ليالى القاهرة.

ثم توالت الجوائز التى نالها بعد ذلك ويذكر منها جائزة الشعر الدينى من وزارة الأوقاف وجائزة الشعر الاجتماعي من وزارة الشئون الاجتماعية وجائزة شوقى 1964 عن أحسن ديوان من الشعر القومى فى البلاد العربية وكان آخرها جائزة البابطين 1991.

إنني أعاني هذه الأيام من زيادة الوزن مما جعلني ابتعد عن الاشتراك في المؤتمرات الأدبية والسفر، ويمثل أمامي دائما المرحوم عبد العليم القباني، فقد كان يعاني من زيادة في الوزن، ومن كبر سنه ، لكنه لم يبتعد مثلي ، بل كان يسافر إلى البلاد العربية، والمحافظات ، ويشترك في انتخابات مجلس إدارة أتحاد كتاب مصر، ويفوز، فهو أول عضو مجلس إدارة من الإسكندرية.وقد حكى لي دكتور أديب وهو يبتسم ، منتقدا القباني: يروح معانا يقابل وزير ثقافة ( بلد عربي)وقميصه..... "

وحكى لي شاعر سكندري، بأن القباني في أحد المؤتمرات ، طلب منه أن يرافقه في الحجرة، لأنه لا يريد غريبا أن يراه وهو يخلع ملابسه، فقد كانت بدانته تجعله ينام على ظهره لكي يخلع أو يرتدي ملابسه.

شارك فى البرامج الثقافية التى تقدمها إذاعة الإسكندرية منذ نشأتها 1954 . كما شارك فى تقديم برامج عن بعض الشخصيات الأدبية فى البرنامج الثقافى بالقاهرة نشر كذلك عددا لا يمكن حصره الآن من المقالات الأدبية فى الصحف والمجلات فى مصر والأقطار العربية الأخرى.

 

أعجب القباني بقصيدة لشاعر فرنسي، فأعاد صياغتها وحولها إلى قصيدة عربية ، تقول:

انطلق وامضي إلى حيث تريد

عالي الجبهة مضموم اليد

انطلق واصعد ودع يأس العبيد

لا ياي القمة من لم يصعد

أعجب القباني بهذه القصيدة لأنها تمثل شخصيته المعاندة التي تقتحم وتغامر، فقد تحدى ظروفه المعيشية ، وتعلم ، وحضر امتحان القبول الإعدادي مع الصغار وحصل على الإعدادية. وعمل موظفا في كلية الآداب بالإسكندرية بمعاونة أساتذة قسم اللغة العربية الذين أحبوه وقدروه كشاعر وباحث.

وتحدى ظروف مرضه وشيخوخته وسافر إلى الكثير من البلاد العربية ، وتحمّل قسوة الحياة وغدرها، ففي عام 1981 ماتت ابنته خريجة كلية العلوم بعد أن تركت له ولدا وبنتا ـ فقام بتربيتهما .وفي نفس العام مات ابنه الشاب .لكنه استمر ، كان يسافر ويحضر الندوات، ويشترك في اجتماعات اللجان الكثيرة التي كان عضوا فيها:

ودّع الأمس يولي من يدك

وتحفز لغدك

وانطلق وامضي وسر

هكذا الدنيا تمر

 

وعن وفاته يقول الشاعر الأستاذ/ أحمد فضل شبلول:

يوم لن أنساه، يوم الأحد 14 يناير 2001 الذي رحل فيه عن عالمنا الشاعر الكبير الأستاذ عبد العليم القباني. اتصل بي ابنه الصديق الشاعر فاضل القباني قبل الساعة الواحدة صباحا ليبلغني خبر وفاة أبيه، الذي كان صدرا حنونا لكل شعراء الإسكندرية. لم أنم ليلتها وبدأت أجري اتصالاتي بكل من أعرف أنه لم يزل مستيقظا حتى هذه الساعة المتأخرة من ليل الإسكندرية والقاهرة، لأقول لهم إن شاعرا كبيرا مات جسده الآن، ولكن أعماله ستظل باقية.عندما علمت بميعاد الجنازة التي ستشيع من أمام منزله بالحضرة القبلية، عاودت الاتصال مرة أخرى بالأصدقاء الشعراء في الإسكندرية ليأخذوا العزاء في شيخ شعرائنا، وكانت المفاجأة التي نقلها لي ابنه الأستاذ عادل القباني أن والده ظل يردد اسمي ـ مع عدد قليل من أصدقائه الشعراء المقربين ـ أثناء دخوله غرفة الإنعاش بمستشفى جامعة الإسكندرية. هل كان القباني يريد أن يبوح لنا بأسرار شعرية جديدة وهو ينتقل إلى الحياة الأخرى..؟

شيعت الجنازة إلى مدافن الأسرة القبانية بعمود السواري بحي كرموز بعد صلاة ظهر يوم الأحد 14/1/2001، وشارك فيها من الشعراء والأدباء والكتاب: محمود العتريس ود. محمد زكريا عناني وعبد الرحمن درويش وجابر بسيوني ومحمود ضيف الفحام والكاتب الصحفي محمد عبد المجيد. وظلت صرخات حفيدته سوزي، ونهنهة الشاعرة بشرى بشير في مسمعي حتى الآن.

 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved