سلتا برتقال وحقيبة ملأى بلعب الأطفال، يأتي بها مجند في إجازته في الشتاء، أو سلة رطب ذهبي اللون أو داكن الحمرة نتبين حموضة في بعض ثمراته المترعة، تخالط حلاوتها الرفيقة. الطقس حار والطريق من بغداد إلينا طويل.
تعطر رائحة البرتقال البيت، كما تعطر رائحة القداح في الربيع شوارع بغداد، مدينة من روائح، الشبو الليلي وزهرة العسل والغاردينيا، تعبر أسوار حدائق البيوت، توقظ العابر من أحلام يقظته، تغريه بالتريث، تعوضه عن احتمال حرارة الصيف. روائح تتمايز وتختلط في سوق الشورجة، الصابون واللبان، الكركم والزعتر، الرز والزعفران، الشاي والزعفران. ما يتفق وما يختلف، سوق الشورجة ليست سوقا، ولكن مكان للنزهة، للتعرف على المدينة في روائحها.
بغداد التي يعرفها القادم إليها بالقطار في تغير الألوان، حين تكون الخضرة قد انسحبت وراء نوافذ القطار وحل محلها لون الأرض مبقعا بالخضرة الباهتة لنباتات برية شحيحة، وحين تظهر أبراج طينية صغيرة ملغزة، يعرف أنه اقترب منها. وحين يتعذر عليه النوم في حر صيفها يندهش مما قرأه عن "طيب مائها واعتدال هوائها".
بغداد الضوء. عادت صديقة ألمانية من بغداد بعد إقامة ستة أشهر وبدلا من أن تشعر بالسعادة بالعودة إلى بيتها وزوجها، بكت لأنها افتقدت الضوء في شتاء ألمانيا حيث ينقضي نهارها ويبدأ ليلها في الخامسة بعد الظهر.
بغداد الصوت: أسمعها في حديث رجلين يتناقشان بصوت عال عن الحرية، يختلفان ويحتدمان، يتفقان ويحتدمان، في صوت امرأة أسمعها في أسواق مايباخ أوفر، تعلم طفلها لفظ كلمتي سفرجل ورمان. بغداد خارج المكان، تغادر المكان وتتبع أبناءها، تدخل العالم الافتراضي، تدخل غرفهم أينما حلوا. تنتشر مواقع، مواقع، الأعداء والأصدقاء، الآباء والأبناء على السواء.
بغداد التي يزهد أهلها في كنوزها، يمرون بها دون اكتراث، لأنها لهم، يستطيعون العودة إليها متى أرادوا، أو لأنها ليست لهم.
لا أتحدث عن بغداد كما يتحدث المرء عن ميت، فالوعكة الطارئة ليست مرض موت.
* نشر هذا النص في استفتاء لموقع ايلاف في عام لم أعد أتذكره. لكنها كلمة أريد أن أقولها اليوم أيضا.