مساءَ الرابع من آب هذا ، كنتُ على موعدٍ طالَ انتظارُه :
اللقاء مع دانييل بارينباوم، عازف البيانو القدير، وقائد الأوركسترا، وصديق إدوارد سعيد، وشــريكه في أكثر من مشروع وعمل، من بينها " متوازيات ومتفارقات " ، والفرقة الموسيقية المختلطة –" الديوان الشرقي / الغربي "، الإسم المأخوذ كما هو واضحٌ من الشاعر الألماني غوته .
كنتُ استمعتُ إلى بارينباوم يقود اوركسترا برلين الفلهارمونية في تأدية أعمالٍ لفاغنر وليست وموتسارت وغلينكا ودفورجاك، كما تابعتُ محاولتَــه الذهاب إلى رام الله لتقديم برنامج موسيقي، وإخفاق المحاولة بسبب إقدام السلطات الإسرائيلية على منعه من التوجه إلى هناك، بدعوى الخطر الذي قد يتهدده .
هذا المساء، سيكون الرجل في " الباربيكان " مع فرقته المختلطة من إسرائيليين وعرب، ليقودها في أداء عملين موسيقيين ليسا هيِّـنَـينِ : الكونشرتو الثالث لبيتهوفن، والسمفونية السادسة لتشايكوفسكي .
هذا الحفل الموسيقي في العاصمة البريطانية كان ضمن الأنشطة المقامة إحياءً لذكرى إدوارد سعيد الراحل منذ عامٍ .
ذهبتُ إلى هناك ولا يزال مقالٌ أخيرٌ للرجل يدور في خاطري .
***
كان إدوارد سعيد يتحدث عـمّـا سـمّـاه أدورنو، الأسلوب الأخير، Late style، وهو تعبيرٌ عن الطرائق الأخيرة التي يلجأُ إليها المبدعون حينَ يلحق بأحدهم الهرمُ أو المرض، أو كلاهما، وإذ يتتبّـع سعيد خصائص هذا الأسلوب الأخير لدى موسيقيين وكتّـاب وشعراء، يركِّـزُ على بيتهوفن، ولامبيدوزا ( مؤلف الفهد )، وكافافي الإسكندريّ .
المرحلة الثالثة من مسيرة بيتهوفن الإبداعية تضمُّ أعمالاً من بينها سوناتات البيانو الخمس الأخيرة، السمفونية التاسعة، الأربعيات الوترية الستّ الأخيرة، ويرى أدورنو أن هذه المرحلة تشكل حدثاً بارزاً في تاريخ الثقافة الحديث . إنها اللحظة التي يفارق فيها الفنانُ المتمكن من أداته، التواصلَ مع النظام الإجتماعي القائم الذي هو جزءٌ منه، ويحقِّقُ علاقةً متناقضةً واغترابيةً معه . أعمال بيتهوفن الأخيرة هي شكلٌ من المنفى، بعيداً عن محيطه .
***
" الفهد "، العمل الفريد، الذي طُبِع بعد عامٍ من رحيل مؤلفه، تدور أحداثُه خلال حملة غاريبالدي لتوحيد إيطاليا التي تشكل الإنهيار النهائي لنظام الأرستقراطية القديم، حتى أمسى البطل، أميرُ سالينا العجوز، " وحيداً، رجلاً تحطمت سفينته، يتشبث بطوفٍ تتقاذفه الأمواجُ المتلاطمة من كل صوب" . الإنحلال الإجتماعي، إخفاق الثورة، الجنوب العقيم غير المتبدل، كل هذا متبدٍّ في كل صفحة من " الفهد"، لكن الغائب هو أي حلٍ ممكن للجنوب، كذلك الذي ارتآه غرامشي في مقالة له، العامَ 1926، ويتضمن تضافر جهود بروليتاريا الشمال وفلاّحي الجنوب، المضطهَدين جميعاً، من أجل التغيير المنشود .
الرواية غير معْـنِـيّـةٍ بشيء من هذا، والأمير في مرضه الأخير، طريح الفراش في فندقٍ بائسٍ بـ" باليرمو " حاضرة صقلية . لن يتغير شيءٌ . إن أهالي صقلية لا يريدون أي تحسُّـنٍ في أوضاعهم، لسبب بسيط هو أنهم يرون أنفسهم في غاية الكمال ! أتظن أنك، يا سيد شيفالي، أول من حاول دفع الصقليين إلى مجرى التاريخ الشامل ؟ صقلية تريد أن تظل نائمةً بالرغم من هتافاتهم …
***
الـمُـعادِل الشعري لمؤلف " الفهد " لامبيدوزا، هو، في رأي إدوارد سعيد، الشاعر اليوناني الإسكندري كونستانتين كافافي .
معروفٌ أن شعر كافافي لم يصدر في هيأة كتاب إلا بعد رحيله، في العام 1933، وقد كان أوصى بالحفاظ على مائة وأربعٍ وخمسين من قصائده .
من قصائد كافافي المبكرة، قصيدة " المدينة " الشهيرة، والتي يحفظها محبّـو كافافي، وهي حوار بين صديقَين، أحدهما ( ربما كان حاكماً ) يندب حظه العاثر، كسجين مدينةٍ مصرية على البحر :
كيف يمكن لي أن أدع ذهني يتعفن في هذا المكان؟
حيثما ولّيتُ وجهي
رأيتُ الأطلالَ السود لحياتي، هنا،
حيث أمضيتُ سنينَ عدّةً
أضعتُها، وحطّـمتُـها تماماً .
المتكلم الثاني يجيبه بعبارات باردة التحديد، ضيقة المجال، غير منحازة، شأنها شأن منهج كافافي الرواقي :
لن تجد بلاداً أخرى
لن تجد شاطئاً آخر .
هذه المدينةُ ستتبعك .
ستُـطوِّفُ في الشوارع ذاتها ،
وتهرمُ في الجِـوار نفسه،
وتشيب في هذه المنازل نفسها .
سوف تنتهي دائماً إلى هذه المدينة .
فلا تأملَـنَّ في فرارٍ :
لا سفنَ لك
ولا سبيل .
ومثل ما خرّبتَ حياتك هنا
في هذه الزاوية الصغيرة،
فهي خرابٌ أنّــى حللتَ .
قصائد أمثال " إيثاكا " و " الإله يخذل أنطونيو " تؤشــر لأهمية اللحظة العابرة، اللحظة الملتبسة، اللحظة التي لا تكاد تبين، لكنها اللحظة التي تكتنز الجوهر الإنساني والشِّــعرَ في آن .
يلحظ المرءُ في قصائد كافافي المتأخرة ( شواهد أسلوبيته المتأخرة )، تلك القدرة المذهلة على إثارة الخيبة والبهجة معاً، بدون حل التناقض البيِّــن بينهما .
إن ما يحفظهما متوترتينِ، كقوّتين متساويتين، مشدودتينِ إلى اتجاهين متضادّينِ، هو، بلا شكٍ، الموضوعية الناضجة للفنان، المتخلية عن الإدعاء وكل ما هو فضلةٌ .
ثمّتَ ثقةٌ متواضعةٌ، تتوافرُ هنا، مَصدراها : العُــمرُ والمنفى .
***
فردوسُ القِــيَــم المفقود … سيظل مفقوداً
لكننا سنظل نلمحه، مثل خطفة البرق، عبر الفن وحده .
لندن 8/8/2004