عندما بدأتُ قبل بضع سنوات بتأليف كتاب بعنوان ( الموجز في الحضارات القديمة لوادي الرافدين-عمارتها، وفنونها، ومعتقداتها )، والذي طبع من قبل دار حوران للطباعة والنشر والتوزيع في دمشق إضطررت أنذاك في فترة التحضير له للأطلاع على كثير من المصادر التي إحتوت على معلومات قيمة في أدب وفنون وعادات وثقافات تلك الحضارات، والتي وَسَعَت كثيرا من مداركي وأغنت من معرفتي الأكاديمية التي كانت محددة بالمادة الدراسية ( تاريخ العمارة ) والتي قمت بتدريسها لسنوات طويلة . وكان إطلاعي على نصوص الشرائع لتلك الحضارات قد منحني الرغبة للكتابة عنها من مختلف جوانبها .
ذهبت كثير من الدراسات الحديثة ( وبشكل تبسيطي ) الى محاولة إثبات أن الأطر المفاهيمية لبعض القضايا السياسية والأجتماعية والحقوقية ( مثل المجتمع المدني والديمقراطية والحق والمساواة والحرية ، وحقوق المرأة )، بأنها جاءت كنتيجة حتمية لنشوء فلسفة القرون الثلاثة التي تلت زمن الأصلاح الديني، بنتائجها العملية على المستويين السياسي والأجتماعي .
لا شك وأن من يخوض في مثل هذا البحث، لا بد وأن تواجهه صعوبات منهجية تتمثل في طبيعته الفلسفية، وبذلك لا بد من إقامة توازن جدلي بين الفكرة والواقع، وبين ماهو نظري مفاهيمي وبين ماهو تاريخي و واقعي، سياسي و إجتماعي، من الناحية المنهجية.. حيث لم يعد كافيا أن نغلب جانبا منه على آخر .. ولقد ثبت بأن مفهوم المجتمع المدني، ( وبضمنه حقوق المرأة ) .. قد تعين وتحدد تاريخيا في سياقات متنوعة ومتغيرة بنيويا، وفي أزمنة عديدة ونُظر له من جانب منظري العصور المحددة للمجتمعات المختلفة، إنطلاقا من أوضاعهم التاريخية والثقافية الخاصة… هذا ما يمكنني أن أجزم عنه كمصطلح وكمفهوم بأنه تحول لموضوع قابل للأستفتاء المعرفي، بشكل دائم .
وفي يومنا هذا وقد تخطينا العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، نجد أنه، على الرغم من مصادقة كثير من البلدان على إتفاقيات للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة . الا أن جهات مختصة لا زالت تبحث في إيجاد قوانين تلائمها لتحمي المرأة بطريقتها، من أشكال التمييز والعنف في الوقت الذي تسعى فيه منظمات المجتمع المدني إنشاء المزيد من دور الأيواء إستشعارا منها بوجود خطر حقيقي على المرأة .. وقد تم بالفعل إنشاء العديد منها في مدن العراق، تضم سيدات تعرضن للعنف الجسدي وسوء المعاملة . وتكشف بين فترة وأخرى أخبار وإخصائيات وتقارير متنوعة عن الأعتداءات وحالات عنف وإيداع لفتيات ونسوة في دور الرعاية الأجتماعية بسبب العنف والتفكك الأسري وأساليب أخرى .
ورغم الجهود التي تبذلها منظمات حقوق الأنسان في سبيل التصدي لهذه الممارسات الا أنها لم تحد من ممارسات العنف المخالفة لما تدعو له الشرائع والقوانين واللوائح للرفق بالمرأة، والمنافية لكل المواثيق الدولية لحقوق الأنسان .
وهنا لا بد لي أن أثبّت بأن الدنيا لم تكن قط عبارة عن غابة وتستشري فيها الدعارة وأنها كانت خالية من القيم الأخلاقية ، وخالية من قيم العفة والأخلاق ، كما يصورها بعض رجال الدين اليوم ، وأن القيم والأخلاق أتت بعد ظهور الأديان فقط.
لقد أوجدت كافة التجمعات البشرية والمجتمعات صيغا متعارفا عليها للتعامل والتفاعل بين أفرادها .
وكذلك لابد من القول بأن بدايات الشرائع كانت بسيطة جدا وقد وضعت من قبل أناس متحضرين وحسب حاجتهم ومصالحهم اليومية وثقافاتهم المتعارف عليها في تلك الأزمنة .. وقد حاولت تلك الشرائع على الأقل أن تجد توجهات معقولة وفق زمنها وحاجتها لفرض نظام لمجتمع حضري .
وفي مجال الحديث عما إحتوته أولى الشرائع البشرية على أرض الرافدين بما يخص المرأة، نجد الكثير من النصوص قد وجدت، بما يتوافق مع العقليات السائدة، والأوضاع الأجتماعية التي كانت تكتنف مخاض كل حضارة من تلك الحضارات .
فنجد في أول شريعة من الشرائع البشرية التي وجدت على أرض الرافدبن وهي “شريعة أورنمو” والتي وضعها مؤسس آخر دولة سومرية ( 2111-2003 )، بأنها كانت تحث على حماية الزوجات والنساء بصورة عامة، فكانت هذه الشريعة لا تردع الأرامل مثلا على معاشرة الرجال، لكن فيها شبه تحذير لهن من فقدان حقوقهن الشرعية، إذا لم يثبتن عقد زواج أصولي مع من يعاشرهن من الرجال، كما في المادة (8)، وهي نفس الظاهرة التي تتكرر اليوم في المجتمعات الحضرية في العالم .
وأما في الشريعة الثانية“لبت عشتار” والتي وضعها خامس ملوك مدينة ايسن (1934-1924) ق.م .. وهو آموري الأصل ولكنه متشرب بثقافة السومرين الحضر .
فقد تم في المواد ( 20-25 ) توضيح حماية النساء ( وخاصة الزوجة الأولى الحرة ) من أي إنتقاص لحقوقها في حالة الطلاق أو زواج الرجل من إمرأة أخرى أو من زانية من الشارع . وكان ذلك بداية الشعور والأحساس لسوء معاملة الرجال لزوجاتهم .
وأما في “شريعة مدينة إيشنونا” التي كانت تقع شمال شرقي بغداد على نهر ديالى فقد إختلفت الأمور تجاه المرأة، ويظهر ذلك من خلال تسلطها، الذي عبّرت عنه فقرات متعددة من تلك الشريعة… ففي المادة (31) نجد النص الآتي: ( إذا كره رجل مدينته وسيده وهرب ثم أخذ زوجته رجل آخر بموافقتها ورغبتها ، فعندما يعود لا يحق له إسترجاع زوجته.. ويفسر بعض دارسي قوانين المجتمعات بأن ذلك كان ترهيبا واضحا لكل من أراد الحرية وترك المدينة . وإني أتساءل يا ترى ما الذي كان يدفع رجال مدينة ” إيشنونا “ للهرب من نسائها ؟ هل كان ذلك بسبب تسلط النساء، والتكبر الأنثوي؟ والذي قد يستنبطه الدارس من المادة (60) والتي تنص على : ( إذا طلق رجل زوجته بعد أن ولدت منه أولادا وأخذ زوجة ثانية فسوف يطرد من بيته وتقطع علاقته بجميع ما يملك وليتبعه من يريده ) . هذا المقطع الأخير ( ليتبعه من يريده ) يوضح مكنونات واضعي هذه الشريعة ونزعات أهل “إيشنونا “. إنها ترجمة حرفية لتكبر المجتمع والتسلط الأنثوي المنغلق ورغبته في إبعاد كل من لم يكن يحترم السيادة الأنثوية لذلك المجتمع .
وعندما حَدَدتُ حديثي عن ماكانت عليه الشرائع القديمة في أرض وادي الرافدين لا أريد أن أتحدث عن مجتمعات متنقلة كانت تعيش على الرعي و الصيد في مناطق أخرى وقبل أن تظهر حضارات وادي الرافدين . كانت المرأة فيها هي المسيطرة ، ولها الدور القيادي والسيادي في تلك المجتمعات، وحيث كان يحق لها الزواج بأكثر من رجل واحد . لربما تسنح فرصة أخرى للتحدث عن عادات وتقاليد تلك التجمعات البشرية في مقالة قادمة .
ولنأتي الى أشهر شرائع ميزوبوتاميا، الاّ وهي “شريعة حمورابي”، التي كانت تتعامل بشكل حدّي وقطعي لا تراجع فيه في نواحي قانونية متنوعة، ومنها ما كان يخص شؤون المرأة . والتي كانت تُعامل بشكل سيئ . فنلاحظ النص الآتي الوارد في المادة (136) : إذا نَبذ رجل مدينته وهرب، ودخلت زوجته بعد ذلك بيت رجل ثاني، فإذا عاد هذا الرجل وضبط زوجته، فلا يمكن لهذا الرجل الهارب من إرجاعها، بسبب كرهه لمدينته وهروبه، في حين أن أهل ” إيشنونا” ذكروا العقوبة بكلمات أخرى ( عدم إرجاع المرأة إذا تزوجت من رجل آخر )، بينما حمورابي لم يذكر الزواج، بل يذكر ( ضبط، وضبطت ..الخ )، والتي تدل على الخيانة الزوجية والزنى. وفي المواد ( 154-157) نقرأ النصوص الآتية :
154 : إذا جامع رجل إبنته يُطرد من المدينة .
155: إذا جامع رجل زوجة إبنه يُرمى في الماء .
157 : إذا جامع ولد أمه بعد موت أبيه يحرقان معاً .
أما ” القوانين الآشورية “ فعند التمعن فيها نجدها بأنها لا تصف لنا سوى إستعراض لمذبحة أو غرفة تعذيب في معتقلات أعتى السلطات العسكرية .. وقد أصاب المرأة من حيف هذه القوانين الكثير من القهر والإذلال جنسيا وجسدياً وأستطيع أن أنقل بعضا منها :
المادة (1) : إذا سرقت إمرأة من المعبد، يعلم أهلها كي يقرروا ماذا يفعلون بها .
المادة (2) : إذا تفوهت إمرأة بالكفر لن تقترب بعد ذلك من زوجها وإبنها وبناتها .
المادة (3) : إذا سرقت زوجة من بيت زوجها أي حاجة فتقتل هي ومن أخذ المادة المسروقة أي يعاقبان بنفس العقاب .
المادة (4) : إذا إستلم عبد أو أمَهْ حاجة من يد زوجة رجل فتقطع آذانهم وأنوفهم جميعا .
وقد وجد في ذلك القانون عشر مواد ممسوحة ويتعذر قراءتها . وهي تأتي إعتبارا من من المادة (14) وما بعدها ، وكلها تدور حول الزنى واللواط .
وفي المادة (53) يأتي النص (الذي أكتبه بإختصار) كالآتي : إذا أجهضت المرأة بطنها ، توضع على الخازوق ولا يجوز دفنها . وإذا ماتت إثناء الإجهاض فإنها توضع أيضا على الخازوق ولا تدفن .
وفي المادة (55) التي ( أكتبها بإختصار أيضا ) كالآتي : إذا أُغتصبت فتاة عذراء غير متزوجة في المدينة أو في الريف .. فلوالد الفتاة الحق في أخذ زوجة المغتصب، ويعطيها لمن يشاء كي يزنى بها . فإن لم يكن له زوجة، عليه أن يدفع فضة تساوي ثلث سعر الفتاة … الخ .
وقد تخصصت المادة المطولة المرقمة (40) بموضوع تحجب النساء وأختصرها كالآتي : لا يجوز لأي إمرأة أشورية أن تخرج الى الشارع العام دون غطاء رأس أو عباءة … والسَرية التي ترافق النساء الآشوريات عليها أن تتحجب أيضا… أما الزانية فلا يجوز أن تتحجب، وعلى كل من يرى زانية متحجبة عليه أن يقبض عليها ويأتي بها الى مدخل القصر.. وله الحق بأن يمتلك ملابسها ، وثم تضرب 50 جلدة، ويسكب القير على رأسها. أما أذا شاهدها وعرفها ولم يبلغ عليها ، فيجلد هو الآخر 50 جلدة، وتثقب أذناه وتربط خلف رأسه، والمخبر عنه يحق له أن يأخذ ثيابه بعدها، ويوضع هذا الممتنع على الأدلاء في خدمة أعمال الملك لمدة شهر . وأعتقد أن الحجاب كان له مفهوما قوميا تميزيا، حيث أنه فرض على الآشوريات دون غيرهن، وهو لم يفرض على سبيل المثال على الجواري كنوع من الأستخفاف بهن وببقية الشعوب المحيطة بالأشوريين، مما جعل الأنسان الآشوري، يرى النساء غير المحجبات كجواري وزانيات .
وهنا أريد أن أشير الى أن أكثر القوانين ما قبل البابلية كانت تحافظ على حقوق المرأة بشكل معقول نسبياً، وبعضها هدد الرجال بالطرد من المدينة ( دون النساء ) . أما القوانين الآشورية فكانت قوانين فحولية صرفة . فالطلاق الذي كان يؤدي الى حرمان بعض الرجال من ممتاكاتهم ( وهو اليوم يطبق على كثير من السريان وحتى مسلمي المجتمعات الأنثوية )، أجازه الآشوريون بكل بساطة وبأقل التبعات كما في المادة (37) والتي فحواها :( إذا طلق رجل إمرأة، فإن شاء يعطيها، وإن لم يشأ فلا يعطيها أي شئ ويتركها تذهب خالية اليدين ) . وحتى تلك المواد القانونية الخاصة بالزنى أو الترتيب للزنى من قبل أي شخص إمرأة كانت أم رجل، فهي تعطي الرجال مساحات أوسع بكثير .
لا بد لي بهذا الصدد أن أذكّر بأن تلك القوانين الصارمة تعود للعصر الآشوري الأوسط ( حوالي 1330 ق. م ) . حيث كان الآشوريون في طور نشأتهم وإندماج القبائل في أمة جديدة واحدة .، أي كانوا في قمة ردة فعلهم ضد بابل ومدن الجنوب . وأعتقد جازما بأن الكثير من طباعهم وقوانينهم قد خفّت وأصبحت أكثر عقلانيةّ وقبولا في القرون اللاحقة ، حين سادوا على الشرق الأوسط ، وحكموا بلاد بابل والشعوب الأخرى .
لم يبق لي الا أن أستنتج بأن هذه التشريعات التي أوردتها في هذه الدراسة المتواضعة عن المرأة وحقوقها في أقدم الحضارات البشرية، ماهي الا إنعكاسا لما كان يجري من تطورات إجتماعية وفكرية في أرض الرافدين شمالا وجنوبا، وكانت ضرورة وجودها تتمثل بكونها حاجات ملحة لتوحيد الهوية وتثبيت أسباب الأمان الأجتماعي .