من علامات الابتذال في المشاعر العربية الذي فرًخته الهزائم العسكرية والسياسية والاقتصادية، ما طاول الغناء العربي، لا بسبب انعكاسه للوضع الاجتماعي حسب، بل بتشجيع خفي تارة وواضح تارة اخرى لأساطين الابتذال الذين وجدوا في مرحلة "نفوذ" الطبقة المتوسطة وما نتج عنها من محمولات: العقلانية، التفتح، الرفعة والتهذيب ما يعارض سلطتهم، فاشاعوا كل ما هو نقيض ذلك اجتماعيا وعبر كل ما يخلق "ابتذالا" يناسب الموقع الذي اوصلوا حياتنا العربية اليه.
في المشاعر الناعمة التي اسمها الاغنيات – وبحسب ما قدمته المطربات – إختفت بعد سيادة في الاربعينات والخمسينات وبداية الستينات، اساليب في التعبير الراقي عن الوجدان، تلك التي حملتها اصوات ليلى مراد، اسمهان، نور الهدى، نازك والبدايات الاولى لصباح وشادية ونجاة الصغيرة، وفي العراق سليمة مراد ومائدة نزهت ولتتصاعد مع عقود الهزائم والارهاب والقمع، فوضى عارمة في اشكال التعبير عن مشاعر الحب التي تكون المادة الاساسية لغنائنا العربي اليوم، وإنحدرت اوصاف التعبير عن تلك المشاعر بطريقة متسارعة لتقارب الابتذال.
ثمة أمل للغناء الرقيق
ولو اقمنا مراجعة على ضوء ثنائية : "تهذيب" بنات الطبقة المتوسطة مقابل "ابتذال" نجمات الغناء الشعبي، لوجدنا ان بقايا الطبقة المتوسطة حين تحاول الدفاع عن رصانتها بلا كلل، فهي ايضا تنتج مشاعرها رغم طوفان الابتذال الشعبي الذي يحاول سياسيو انظمة القمع وذرائعيوها اعتباره "عمقا جماهيريا ".
ولو وضعنا السيدة فيروز على حدة، على اعتبار انها ظلت "حالة خاصة" وقلعة حصينة للمشاعر الرفيعة، فاننا سنجد نتاجات غنائية تناسب طريقة مشاعر بنات الطبقة المتوسطة الجميلات، الجريئات والمهذبات في آن، ولو راجعنا سيرة الفنانة ماجدة الرومي وفي مراحلها الاولى لوجدنا امثلة حية على اغنيات تنضح رقة وعذوبة، باتت نادرة في جديد ماجدة الغنائي بالذات حين حولت (مارشات) جمال سلامة، اغنياتها الى ما يشبه الاناشيد الحماسية فتذهب عنها رقة العاطفة وجمالها المتخيل الذي تحاول جاهدة بعض النصوص مقاربته، لكنها تسعى هذه الايام لاستعادة تلك الرقة المتماثلة مع فكرتها الاجتماعية والثقافية بوصفها ابنة الطبقة المتوسطة اللبنانية والعربية بامتياز.
وكانت اصالة نصري ستنجح في اغنياتها لو حافظت على مستوى باهر في الاداء كالذي تمكنت منه في غنائها لقصيدة "إغضب"، غير انها في اشرطتها الجديدة اختارت الكثير من التكلف والقليل من التلقائية، ويبدو بعض اغنياتها انيقا ورقيقا في التعبير عن مشاعرها لولا "النمطية" التي اصبحت اصالة اسيرتها : الغناء بوتيرة واحدة تتميز بالانفعال الشديد والتوتر وتجزئة نبرات الصوت لاضفاء مزيد من "التهدج" عليه.
وكانت التونسية الراحلة ذكرى خسرت طاقة تعبيرية هائلة في صوتها، حين أدت الحانا مصنوعة لاغراض "استهلاكية" كالتي يجيدها صلاح الشرنوبي، بينما كانت تكسب كثيرا حين تختار من الغناء ما يظهر مديات صوتها ببراعة لافتة كما فعلت مع واحدة من اغنياتها المتأخرة بتجديد لحني ذكي ولمًاح تولاه محمد ضياء الدين.
وفي حالة لطيفة التونسية، لمعت اغنيتان لها وسط ركام من السطحي والعادي، الاولى طبعها كاظم الساهر بروحيته حين اختار لحنا من مقام عراقي صرف وهي اغنية "حاسب" ومرة اخرى حققت لمسة رقيقة كما في اغنية "خليك بعيد" التي كانت من بين مجموعاتها الغنائية "تلومني الدنيا" وحملت كلمات الراحل عبد الوهاب محمد ولحنها زياد الطويل الذي أكد ان الايقاع الخفيف يمكن ان يصبح تعبيرا رقيقا، يغني النص الشعري للاغنية وليس بالضرورة دعوة مجانية لايقاع يؤدي خدمة محددة ألا وهي "ترقيص" السامعين لا إطرابهم وتهذيب نفوسهم.
وكان لنا نموذج رقيق في الغناء النسوي العربي المعاصر، يقترب من طريقة بنات الطبقة المتوسطة في التعبير عن المشاعر الرقيقة، وهو النموذج الذي لطالما قدمته اللبنانية جوليا بطرس التي اكدت في مجموعتين غنائيتين "القرار" 1997 و "شي غريب" 1999 انها وقع مهذب في الاغنية العربية المعاصرة، لا بل انها تبدو في هدوئها وحيائها الذي يصل حدود الخفر، غريبة على كل اشكال التعبير عن مشاعر الحب التي تكون المادة الاساسية لغنائنا العربي.
وتأخذ جوليا بطرس مستمع اغنيتها الجديدة الى فن التعبير الرقيق عن المشاعر، وهذا ليس بالمفاجيء على جوليا شديدة الرهافة التي كانت قدمت اغنية "انا مش إلك" وبها ضربت بنعومة على قلوب متعبة لاولئك العشاق الذين يصارحون نفوسهم بلحظة مجروحة ستمضي اليها مشاعرهم حين يقررون الابتعاد عن بعض.
ومنذ الاغنية الاولى في اسطوانة "شي غريب" سيجد المستمع انه برفقة صوت لا يمكن وصفه بـ "الخارق" أو "اللافت" ولكنه قطعا الصوت الذي يؤدي بروحية لا نظير لها، روحية تطل من كل مفردة في الاغنية وروحية في الالحان التي يضع اغلبها زياد بطرس ( شقيق جوليا ) وسيجد انه برفقة من يربٍت على مشاعره ويوقظ فيها الناعم والانساني بالغ التهذيب.
ورغم الافتتاح الايقاعي لبعض اغنياتها إلا اننا لا نجد ذلك الاسفاف الذي بدا ملاصقا للالحان الايقاعية في الغناء العربي اليوم، فالاغنية تنثر بشفافية مفرداتها ورودا على قلوب خافقة بالامل بالخير رغم ما يحيط بها عادة من كدر وتعب.
كما و تأخذنا جوليا بطرس مستمعها الى الحان تعبيرية تلعب على ثنايا فتاة تبوح بمخاوفها من مشاعر حب راقية ترسم بهجة فتاة مزدهية بحبها حين تمضي في مشوار حميم مع من تحب.
والمشاعر التي نوهنا اليها ليس بالضرورة ان توقفها جوليا بطرس على قضية الحب بين رجل وامرأة، بل هي طافحة بالجمال حين توجهها للاطفال في اغنية توجه عبرها حديثا موجها الى طفلها لتشرح له كيف تتعذب النفوس وتتوجع الآمال في عالم تنحدر فيه قيم الحق والسلام وتعلو فيه معالم القبح والاستعباد والطغيان.
كما وفي اغنيات من نوع مختلف، تنفتح على الهموم العربية المعاصرة، تتصاعد عند جوليا بطرس شحنة الغضب القائم على الحقيقة، عبر الحان تحمل الوعد بغد افضل. انها على اية حال اغنية "مختلفة" لكنها ليست بسذاجة "الاغنيات السياسية" التقليدية، ولا بالمباشرة الفجة لما يسمى بـ "الاغنيات الوطنية" بل هي تذهب الى صياغة وجدانية للهموم الجماعية.
هي من رقة العاشقات الجميلات تأخذنا الى جراحنا العميقة وآمالنا المثقلة بوقائع الرعب التي نعيش، وهي بذلك ترسم لنا صورة عن فنانة تستحق الثناء، رغم غيابها الطويل نسبيا عن المشهد الغنائي (لم يصدر لها جديد لافت منذ سنوات) إذ تسعى لاضاءة الجمال والحق في مشهد غنائي خاص ونادر، انها من بنات الطبقة المتوسطة : جريئة وجميلة ومهذبة.
ان من يرى الى النتاج الغنائي العربي الجديد بوصفه " هجينا ولا يتصل بقواعد الغناء الاصيل ويسىء الى الذوق العام"، يحرم ما قدمه الملحن اللبناني مروان خوري في غير لحن رفيع وللعديد من الأصوات النسائية وابرزها صوت كارول سماحة التي احسنت صنعا بتحولها من المسرح الغنائي الى ميدان الغناء الشعبي ولكن دون التحول الى مافيه من مشاعر "شعبية" تقارب الابتذال.
وعلينا ان لا ننسى الرقة التي جاءت عليها اغنيات المطربة المصرية انغام، وتحديدا في اسطوانتها العام 2003 " عمري معاك" فضلا عن اصوات انيقة نسوية في مصر: غادة رجب، ريهام عبد الحكيم، مي فاروق وآمال ماهر وهي اصوات من اكتشاف "مهرجان الموسيقى العربية" الذي تنظمه سنويا ومنذ العام 1991 " دار الأوبرا المصرية".
ان صورة التهذيب التي لطالما وسمت فتيات الطبقة المتوسطة حتى في اشكال التعبير عن الانفتاح العاطفي والوجداني لا تغيب ايضا عن اغنيات اللبنانية نانسي على الرغم من خفتها الواضحة.
* نشرت في الملحق الثقافي لصحيفة "الغد" الاردنية 2009