في العام 2011 ، وفي براغ، أيّامَ مهرجانٍ عالميّ، مُنِحْتُ فيه " جائزة حريّة التعبير "، كنت أقيم في فندق "يوسف"، غير البعيد عن " المقهى الأخضر " الذي كان موئلَ محمد مهدي الجواهريّ الأثيرَ .
في الفندق ذاتِه، كان ديرِكْ والكوتْ .
في أيّام المهرجان الحافلة، أقيمتْ أمسيةٌ شِعرية مشتركة لديرِك والكوت، ولي في قاعة المدينة، بحضورٍ مَهيبٍ .
( كان الرجل يحمل جائزة نوبل في الأدب منذ 1992. )
كما وقّعْنا على كتُبِنا، في مكتبة "بِغْ بَن" .
والحقُّ أنني أدَمْتُ اللقاءَ بالرجل، في بهو فندق " يوسف " . كان يبدو متعَباً . زوجتُه تعتني براحته ومجلسه .
كان يسألني عن الصحراء : هل بِتَّ ليلةً في الصحراء ؟
ظلَّ يعِيدُ السؤالَ ذاتَه كلّما التقَينا في البهو ...
يبدو لي أن جزر الأنتيل، التي يقيم فيها والكوت، هذه الجزر الممطَرة دوماً، أجّجتْ لديه هاجسَ الصحراء !
*
دَيرِك والكوتْ
Derek Walcott
1930-2017
*
كنت أقرأ والكوتْ، في فترة مبكرةٍ من تكويني الثقافيّ الجادّ .
قصيدته الطويلة " أوميرو "، التي تُعتبَر من أكثر أعماله اكتمالاً وشعبيّةً، ظلّت تلازمني أنّى حللتُ، حتى ألِفْتُ أن يكون لديّ أكثر من نسخة، حتى اليوم !
القصيدة تتماهى مع الأوذيسة .
لكنّ هكتور وأخيل، صيّادا سمكٍ من سانت لوتشيا، بلدة والكوت .
أمّا هيلين، فكانت خادمةً في منزل ضابط إنجليزيّ متقاعد، هو الرائد بلَنْكِت Plunkett، الذي يقيم في سانت لوتشِيا، غير بعيدٍ عن الثكنات البريطانية، المهجورة منذ زمن طويل .
محاولتي نقلَ " أوميرو " إلى العربية اصطدمتْ بعائق المحلّيّة الدقيقة في النصّ الـمُعجِز.
كان الأمر يقتضي أن أذهب إلى سانت لوتشِيا من مطار جاتوِك اللندنيّ، وألتقي والكوتْ هناك .
لكن ديرِك رحلَ، وخلّفَني في حيرتي وحسرتي ...
*
مقطعٌ من " أوميرو " - الكتاب السادس
في بلداتِ التلال، من سان فرناندو إلى مايا غْوَيس، يحرِّكُ الشروقُ النصالَ الـمَرِيشة لقصبِ السكّرِ حتى مراقي الأرخبيل . النسيمُ المبكِّرُ يهزُّ الرماحَ التي تتحدَّرُ قعقعتُها أسفلَ التلالِ، مثل قوقعةٍ بحريّةٍ في أذنيكَ . في آحادِ الأسفلتِ الباردِ للأنتيل يجلبُ الضوءُ، التاريخَ المريرَ للسُكّرِ عبرَ الحقولِ المربّعةِ، مُصّاعداً نحو الغَلّةِ، حتى الرايات الناصلة للمهاجرين الهنود . الضوءُ النديُّ يهبُّ على السافانا فيُسَوِّدُ جلودَ خيلِ السباق . الضبابُ يمحو ، تدريجاً، النخلَ الملَكيّ على أعالي التلالِ، ثم التلالَ نفسَها . البُقَعُ البُنّيّةُ التي رعتْها الخيولُ تلتمعُ رطبةً مثل جلودِها . مُهْرٌ متضايقٌ يعلِكُ اللجامَ رخاميّ العينين في الرعدِ الذي يلفُّ التلالَ، لكنّ السائسَ كان يشدُّ العِنانَ، ويجذبُه مثل صيّادِ سَمَكٍ. يلفُّ الخيطَ بقبضةٍ، وبالأخرى يشدُّ العِنانَ، ويُضَيِّقُ حلقةَ الدّوَران. السماءُ تتقصّفُ، وتلتمعُ شجرةُ الـمذاري، وبغتةً كان ذلك المطرُ الأسودُ، القادرُ على تسويةِ أرخبيلٍ كاملٍ، في النهار، يسكبُ مساميرَ قصديرٍ على السقفِ وهو يقرعُ الشرفةَ . أغلقْتُ النافذةَ الفرنسيّةَ . وفكّرتُ بالخيلِ في مَرابطِها، وهي ترفعُ حافراً واحداً ، ترقبُ خيوطَ المطرِ . أنا في الفراشِ . قنديلُ الفراشِ مطفأٌ، وأسمعُ أزيزَ الريحِ يهزُّ النوافذَ، وتذكّرْتُ أخيلَ على حصيرِه، وهكتورَ المستميتَ وهو يحاولُ إنقاذَ زورقِه . فكّرْتُ بهيلين، بينما جزيرتي تختفي في الغبَشِ، وكنتُ متأكداً من أنني لن أراها ثانيةً . فجأةً توقّفَ المطرُ، وسمعتُ انحدارَ الماءِ في المجاري . فتحتُ النافذةَ آنَ طلعت الشمسُ . لقد بدّلَتْ مَكانسَ السعفِ على السفوح . تلتمعُ الرطوبةُ على السقفِ الأحمرِ للإصطبل . ثم يأخذُ السائسون، الخيلَ، عبر العشبِ النضرِ، ويروِّضونَها ثانيةً . ثمّتَ ألقٌ مختلفٌ في كل شيءٍ . في ورقِ الشجرِ، وفي عيونِ الخيلِ .
تورنتو31.05.2017