أدب المنفى مرة أخرى

2014-01-05

"إذا أنت خربت حياتك في هذا الركن من العالم

فإنها خراب أينما حللت"

وجد جيل من الكتاب - هو جيلي - في هذا البيت لكافافي عزاء كلما ضاقت به السبل. ولم يُرد أي منا أن يخرب حياته في ذلك الركن من العالم الذي نسميه وطنا. لكن الخراب حل ذات يوم ولم نستطع منعه. الخراب الذي حملناه معنا والذي سينعكس في الأدب كما سنرى.

بِنية الإعداد لهذه الأمسية أعدت قراءة "الحنين إلى الوطن" للجاحظ وكنت قد قرأته من قبل ووجدت في قراءته متعة، غير أني لم أجد هذه المرة ما يعينني ويؤازرني في تحديد صورة أكثر وضوحا مما كنت قد رسمته في وقت مضى للوطن والمهجر أو المنفى. لكني سجلت مع ذلك بيتا لم يُذكر اسمُ قائلِه يعزز ما كنت أعرفه من قبل:

إن الغريبَ له استكانة مذنب

وخضوعُ مديون وذلُّ غريب

فإذا تكلم في المجالس مبرم

وإذا أصاب يقال غيرُ مصيب

فما هو هذا الوطن الذي يحاول البعض تجريده وإحاطته بكثير من الرومانسية؟ في سنة سابقة وجه لفيف من طالبي اللجوء العراقيين في الدانمارك رسالة إلى رئيس الوزراء في العراق يطلبون منه التدخل لمنع ترحيلهم إلى العراق، كتبوا: "إنهم يريدون إعادتنا إلى الوطن الحبيب"، إذا كان الوطن حبيبا فلماذا لا يريدون العودة إليه؟ أنا أعرف مأزق هؤلاء وهم مهددون باستبدال حياة آمنة يتوفر فيها الحد الأدنى من مستلزمات العيش برحلة إلى وطن فقدوا فيه البيت والراتب الضئيل وربما حتى الأصدقاء. لكنهم أخفقوا في اختيار اللغة الصحيحة فبدت عبارة "الوطن الحبيب" نوعا من الرياء.

الوطن هو أنا في المكان، ولا يكون المكان وطنا إلا بي. سيكون عندذاك وطن الآخر. وطن الذين ولدوا ونشأوا فيه.

ويكون المنفي بهذا نبتة اقتُلعت من تربتها، ولن تستطيعَ أبدا أن تمد جذورها عميقا في تربة غريبة، هذا ما وجدته في قراءتي لكل ما أتيح لي من الأعمال التي كتبت في المنفى. آخرها رواية "الفتيت المبعثر" لمحسن الرملي، إنه يقول في ملحق بها:

"نحن المبعثرون في المنافي لم نختر أماكننا الحالية، وإنما وصلنا إليها إثر انفجارات الدخان في جحر النار الأزلية، والمترنحون اختناقا لا ينظرون أيةَ بقعة تطأ أقدامُهم. لم نختر أراضينا الجديدة، نحن الذين ركلتهم قديمتُهم حين ديست بلا رحمة، ولهذا نكابد أوجاعنا الشبيهة بسلخ الجلد حيا، وما زال السابقون منا يفتحون صنابير ذاكرتهم بالحديث، سائلين عن مقهى عزاوي والثور المجنح ونومي البصرة . واللاحقون تجيش صدورهم بالغثيان لكثر التشكي فيوجزون: من دخل قبره فهو آمن.

هنا في الإصقاع القريبة من غرناطة نتقاسم مع الفلسطينيين النحيب. نبكي كالنساء على أوطان لم نعرف المحافظة عليها كالرجال، وكم بصقنا على شواربنا في مرايا الغرب، ثم انتهينا إلى حلاقتها جميعا. لا نجيد غير تسويد الصفحات بصرخات حزينة، فيراودني الشك بأن مصانع تكرير الورق ستكفي لفيض آبار الحكايات في وطني."

ورغم أن الرواية تبدأ بسفر البطل إلى إسبانيا بحثا عن ابن عمته، إلا أن مادتها الأساسية هي تأريخ العائلة المقيمة في "قرية تقع على ضفة دجلة حيث "الأبواب مفتوحة والكلاب لا تنبح إلا على الغرباء"، إنها ترسم لنا بانسياب حياة الناس في هذه القرية والعلاقات الاجتماعية التي كانت سائدة في وقت ما ولا أظنها اليوم كذلك، وكأن الكاتب يريد أن يسجل لنا صورة يخاف عليها من السقوط في النسيان، سيتعقب مصائر الأبناء السبعة للعائلة، سيحدثنا عن الحرب، عن الموتى والناجين وسيجعلنا نقف إلى جانبه في فهمه لحب الوطن. لكننا لن نعرف شيئا عن إسبانيا وعن نتيجة مسعاه في البحث عن ابن عمته.

بينما يقول فيصل عبد الحسن في مقابلة أجراها معه حكمت الحاج يتحدث فيها عن روايته ""سنوات كازابلانكا"

"إنه بالفعل عالم سوداوي تماما والكتابة عن المنفيين العراقيين خارج وطنهم وما يعيشونه في مهاجرهم عملية صعبة جدا، وتتطلب من الكاتب صبر نبينا أيوب عليه السلام، لما تحمله من ذكريات مؤلمة وحقيقية عاشها الكاتب. وأنا أتمنى أن يطلع عليها أبناء شعبنا العراقي ليعرفوا حجم مأساة العراقيين في خارج وطنهم، والتي لا تقل مأساوية عن حياة العراقيين في داخل الوطن... نحن كتاب الهم العراقي يتامى لا أب لنا ولا أم ونحفر الأرض بأظافرنا."

وتعكس بطلة إقبال القزويني في روايتها "ممرات السكون" الغربة الممضة في محيط لا يكترث بالآخر حقا، فهي كلما خرجت إلى الشرفة وصادفت جارها الذي يحاول أن يُظهر تعاطفَه معها، يعود يسألها في كل مرة: أنت من ايران، أليس كذلك؟ ينسى أنه قد سأل هذا السؤال أمس وأول أمس وقبل ذلك أكثر من مرة وحصل على نفس الجواب. لكنه لم يسمعْه، أو أنه سمعه ونسيه، لأن الأمر لم يشغله حقا. إنه عدم الاكتراث في أكثر صوره ايلاما. ربما بسبب ذلك أيضا تشعر هذه البطلة أنها سجينة في هذه المدينة، فهي تحزم حقيبتها في موضع آخر من الرواية، تريد أن تسافر إلى مكان ما، تخرج إلى الشارع، تنتظر في محطة القطار، ثم تعود بعد ساعة إلى البيت. ما من مكان تذهب إليه.

تكاد تكون جميع الأعمال التي كتبها المنفيون القدامى والجدد على السواء انعكاسا للخيبات والانكسارات والهزائم التي عاشوها. يمكن أن نقرأ هذا من عناوين الروايات والمجموعات القصصية ودواوين الشعر: كلنا في إجازة من الموت (علي عبدالعال) سنوات الحريق (حمزة الحسن - النرويج)، وداعا نينوى (سليم مطر- جنيف)، بريد عاجل للموتى (كمال سبتي)، بوهيميا الخراب (صلاح صلاح-كندا) كذلك هي أيضا روايات محمود سعيد ومسرحيات ماجد الخطيب وقصائد الغالبية من شعراء المنفى. وسيبقى الحال كذلك وقتا طويلا من الزمن.

كنت قد ظننت في وقت ما أن أدباء المنفى جيل في طريقه إلى الانقراض، لأن المهاجرين سينطفئون واحدا بعد الآخر ولن يبقى منهم أحد ذات يوم، ولأن ثقافة الأبناء وهم جيل نشأ في المهجر الذي أصبح له وطنا أو ما يشبه الوطن هي ثقافة بلد إقامتهم بصورة عامة وإن خالطتها بعض العناصر من الثقافة التي ينتمي إليها الآباء. تبقى اللغة العربية بالنسبة لهذا الجيل اللغة الثانية وحسب. هذا يعني أن أدواتِه اللغوية لا تكفي لإثراءِ الأدب العربي بنص جديد. قد يستطيع هؤلاء الأبناء في أحسن الأحوال أن يكونوا وسيطا في نقل الأدب العربي بترجمته إلى اللغات الأخرى، لكني لا أعرف إلا حالات نادرة من هذا النوع.

أعترف أني أخطأت في ظني، فقد تعاقبت موجات الخراب وتعاقبت موجات الهجرة تبعا لذلك. فرفدت الوسط الثقافي الضيق والمنغلق على نفسه في البلدان المضيفة بأعداد جديدة من الكتاب، أو ممن سيجدون في الكتابة ملجأ وتعويضا عن الصرخة التي بقيت حبيسة في حناجرهم يوم كانوا في أوطانهم، فهم لا يزالون يملكون اللغة.

لا يستطيع أكثر المتشائمين بشأن تطور اللغة العربية أن ينكر أن هذا التطور يحدث، ربما بسرعة أو ببطء، لكنه يحدث على أية حال. والذين قضوا عقدين أو ثلاثة عقود في منفاهم سيجدون صعوبة في الإمساك بالمفردات الجديدة التي أدخلتها الحياة اليومية على اللغة. مفردات مثل العلاس، البرازيلية، الهمفي، الهمر، الفضائيون.

مقابل هذا يخسر الكاتب في المنفى التماس مع التطور اللغوي في الوطن حيث ترفد الحياة اليومية اللغة بمفردات جديدة وتمنح مفردات قديمة معاني جديدة. ما يحصل عليه الكاتب في الوطن بصورة تلقائية، لا يحصل عليه الكاتب في المنفي دون تقص وجهد. ستدخل إلى لغته بالمقابل مفردات جديدة مثل البطاقة الممغنطة والكاتب الشبح، مفردات ناشئة في الغالب عن الترجمة من اللغات الأخرى.

الجغرافية

ليست اللغة وحدها هي ما ينمو ويتطور وإنما المكان أيضا. تنشأ في المدينة التي كانت ذات يوم أليفة وكانت لها خارطة واضحة أحياء سكنية جديدة، جسور وشوارع ومقاه. ولا يملك المنفي إلا صورة المكان القديمة التي سيصيبها الشحوب لا محالة، ولأن القصص كما في الواقع لا تحدث في الفراغ. يحتاج الكاتب إلى مدن، شوارع، ساحات وغرف يطلق فيها أبطاله. لكن لا الكاتب كشخص ولا المكان كواقع جغرافي اجتماعي يبقيان على حالهما. مع مرور السنوات تصبح الصور القديمة التي حملها الكاتب معه عن المكان الأول، الوطن، أقل وضوحا، يغلفها ضباب النسيان شيئا فشيئا، وتحتل مكانها صور جديدة، صور المكان الذي يعيش فيه، ومهما بلغت يقظة الذاكرة فثمة صور تنسل منها وتستحيل استعادتها.

كانت رواية "قتلة" لضياء الخالدي بين ما قرأت في الآونة الأخيرة ووجدتني أتعرف من خلالها على بغداد غير التي كانتها قبل ثلاثة عقود، غير التي عرفتها. بغداد تعرف فيها الأحياء السكنية ليس فقط بأسمائها ولكن بانتمائها الطائفي أيضا. ورغم أن الرواية لا تدعي، وهي ليست مطالبة أيضا بأعطاء صورة دقيقة للواقع، إلا أنها لا تستطيع أن تنفصل عنه تماما، فهي تقدم لنا بالتالي، بدرجة أو أخرى من الوضوح صورة للمكان الذي تقع فيه أحداثها.

في ختام كلمتي أود أن أستعير من حسن التمار (حسن التمار هو بطل روايتي الهاوية) هذه الكلمات:

أريد أن اكتب قصيدة مبهجة

ليس فيها عصفور

يسقط من على غصنه ميتا

منزل يحترق

طفل ينتحب

أم تغني لطفلها أغنية كالنواح

أريد أن أمزق

غلالة الصمت

الآن،

وفي كل وقت

* ألقيت في الأمسية الأدبية لملتقى بابل في برلين في 14/12/2012

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved