الجوادُ الأبلقُ يطيرُ ...
( احتفاء بمئويّة شاعر وِيلْز )
*
لا أدري كيف أُصِبْتُ ببلوى ديلان توماس ، في صِباي الإبداعيّ !
قرأتُ له ، آنذاك ، نصوصاً لم أفهمْها ، وقرأتُ له " صورة الفنّان جِرْواً " :
Portrait of the Artist as a Young Dog
والسخرية واضحة إزاء كتاب جيمس جويس :
Portrait of the Artist as a Young Man
لكنني ظللتُ مثابراً ، في محاولةٍ مني ، أن أقترب من الشاعر المشاكسِ ، في النصّ ، و الحياة .
في إحدى زوراتي نيويورك ، ذات الخبايا والزوايا ، أخذني سنان أنطون إلى حانةٍ ليست بالبعيدةِ عن واشنطن سكوَير .
قال لي : هاهي ذي حانةُ الجوادِ الأبلق ( لِمن يعرفون العربية جيداً من العرب : الأبلق يعني الأبيض ) .
The White Horse Pub
كان سنان يعرف اهتمامي المبكر بديلان توماس .
دخلنا الحانةَ .
شربنا بيرةً ( أنا لا أحبّ البيرة ... )
وطَعِمْنا أجنحةً مكسيكيّةً حارقةً .
*
من هنا ، خرج ديلان توماس ، بعد أن شرب 18 كأس ويسكي ، إلى المستشفى القريب ، ليفارقَ حياتَنا التعيسة .
كان ذلك في 09.11.1953
ديلان توماس لم يتحمّل حياتَنا التعيسةَ أكثرَ من خمسين عاماً !
*
سِنان أنطون أستاذ في جامعة نيويورك
NYU
ولديه التزاماته الأكاديميّة .
أمّا أنا ، الطليق ، مثل عبدٍ آبِقٍ ، فليس من التزاماتٍ لديّ ، سوى التطواف.
وهكذا عدتُ ، وحدي ، إلى حانة " الجواد الأبلق " .
شرعتُ أتملّى الحوائطَ ...
صوَرٌ فوتوغرافيّةٌ لأشخاصٍ دخلوا المكان .
ديلان توماس كان هناك ، مرِحاً ، أنيقاً ، بين من يأنسُ إليهم .
سألتُ النادل : أيعرف الناسُ أن ديلان توماس خرج من هذه الحانة ولم يعُدْ ؟
النادلُ المرِحُ ، مثل نيويوركيّي القرية ، قال : لكنك ستعود ! أنت لستَ ديلان توماس ...
*
النصّ الشِعري لديلان توماس يكاد يستعصي على النقل إلى لغةٍ أخرى . إنجليزيّتُه وَيلْزِيّة ، وإحالاتُه محليّةٌ أو في عُمْقِ الحضارة الإوربية ذات النفَسِ الإغريقيّ الرومانيّ .
من هنا ، تأتي صعوبةُ أن يتلقّى قاريءُ الشِعر العربيّ ، قصائدَ ديلان توماس .
*
لكن الرجل ناثرٌ عظيمٌ .
ولهذا آثرتُ أن أقدِّمَ ما يُمكِنُ اعتبارُه قصّةً ، لكنْ بالتوتُّرِ الشِعريّ لديلان توماس .
*
الفستان
لقد تتبّعوه ، يومَين ، على طول البلاد وعرضِها ، لكنه ضيّعَهم أسفلَ التلالِ ، وسمعَهم ، وهو مختبيءٌ في شجرةٍ ذهبيةٍ ، يتصايحون ، وهم يتعثّرون في الوادي .
من شجرةٍ على سفح التلال ، نظرَ إلى أسفل ، إلى الحقول ، حيث أسرعوا مثل الكلاب ، و حيث كانوا ينْخَسون الأسيجةَ بِعِصِيِّهم ، مُطْلِقِينَ عواءً خفيضاً ، بينما جاء الضبابُ ، بغتةً ، من سماءِ الربيعِ ، ليُخفيهم عن عينيه .
كان الضبابُ أُمّاً رؤوماً ، غطّى كتفَيه ، حيث تمزَّقَ القميصٌ ، وحيث تجمّدَ الدمُ .
دفّأهُ الضبابُ ، وكان طعامُ الضبابِ وشرابُه على شفتَيه . وتبسّمَ تحت عباءةِ الضبابِ مثل قطٍّ .
ابتعدَ عن الوادي ، ليدخلَ في شَجْراءَ قد تؤدّي به إلى النورِ والنارِ وجفنةِ حِساء . فكّرَ بالفحمِ الذي يهسهسُ في الموقدِ ، وفي الأمّ الشابّةِ التي تقفُ هناك وحيدةً . فكّرَ بشَعرِها . أيّ عُشٍّ سيكونُ ليدَيهِ .
أسرعَ بين الأشجارِ ، ليجدَ نفسَه في دربٍ ضيّقٍ . أيّ مسْلَكٍ يختارٌ ؟ بعيداً عن القمر ، أو نحو القمر ؟
الضبابُ جعلَ مكانَ القمرِ سِرّاً . لكنه في زاويةٍ من السماءِ ، حيث انفرجَ الضبابُ قليلاً ، استطاعَ أن يرى زوايا النجومِ . اتجه يساراً حيث كانت النجومُ تغمغمُ أغنيةً بلا نغمٍ ، وهو يسمع قدَميه تغوصان وتنقلعان من التراب الإسفنجيّ .
الآن بمقدوره أن يفكر . لكنْ سرعانَ ما نعَبَ بومٌ في الشجرِ المتدلّي على الطريقِ ، هكذا توقّفَ وغمزَ للبوم ، الذي شاركَه كآبتَه . سرعان ما يخطِفُ البومُ ويحطّ على فأرٍ . رآه لحظةً يُخرمشُ على غصنه . لكنه خاف من البوم ، فأسرعَ ، فلم يبتعدْ إلاّ يارداتٍ قليلةً في الظلامِ ، حتى طار البومُ مُطْلِقاً صيحتَه ، مبتعداً.
وفكّرَ ، مسكينٌ هو الأرنبُ . ابنُ عُرسٍ سيأكله !
الطريقُ سالَ نحو النجومِ ، والأشجارُ والوادي وذكرى البنادق ، خبَتْ كلُّها .
سمِعَ خُطىً .
رجلٌ عجوزٌ متألقٌ بالمطر ، نجَمَ من الضبابِ .
قال الرجلُ العجوزُ : مساء الخير ، سيّدي .
أجابَ المجنونُ : لا مساءِ لابنِ أنثى .
أطلقَ الرجلُ العجوزُ صَفرةً ، وأسرعَ ، وهو يكاد يركضُ ، باتجاه شجر الطريق.
ضحكَ المجنونُ ، وهو يصعد التلَّ ، دع الكلاب تعرف . دع الكلاب تعرف . وفي مثل مهارةِ الثعلبِ اتّجه إلى الطريقِ المضبَّبِ ، حيث التفرُّعات الثلاثةُ .
قال : لتذهب النجومُ إلى الجحيم .
ومضى نحو العتمة .
كان العالَمُ كُرةً تحت قدمَيه؛ كان العالَمُ يصعدُ ، ويهبطُ ، في ركضِهِ .
ها هي ذي الأشجار.
في البُعدِ يصرخُ كلْبُ صيّادٍ وقد أمسكَ بقائمتَيه الفخُّ . لقد سمعه ، فظنّ أن العدوّ على أعقابه .
صاحَ : اختبئوا ، يا فتيان ، اختبِئوا !
لكن صوته كان كمن يشير إلى نجمٍ يهوي .
تذكّرَ ، فجأةً ، أنه لم ينَمْ ، منذ أن هربَ راكضاً .
المطرُ ، الآن ، أهوَنُ من أن يسقط على الأرضِ ، وهو ينتثرُ مع الريحِ ، مثل رذاذٍ رمليّ .
لو انه التقي النومَ ، فلسوف يكون النومُ فتاةً .
في الليلتَينِ الأخيرتَينِ ، وبينما هو يمشي أو يركضُ ، في البرّيّةِ ، كان يحلمُ بلقائهما .
كانت ستقول له : تَمَدَّدْ ...
ولسوف تعطيه فستانَها ليفترشه ، وتستلقي إلى جانبه .
حتى وهو يحلمُ ، وفروعُ الشجرِ تتقصّفُ تحت قدمَيه ، مثل حفيفِ فستانها ، كان العدوُّ يتصايحُ في الحقول.
لقد ركضَ وركضَ ، مُخلِّفاً النومَ وراءه .
ثمَتَ شمسٌ أحياناً . قمرٌ . وأحياناً تحت سماءٍ سوداءَ كان يقذفُ بالريحِ بعيداً .
سألوا حدائقَ المكانِ الذي غادرَهُ : أين جاكْ الآن ؟
قالوا ، مبتسمين : في أعالي التلال ، مع سكّين قصّابٍ .
لكن السكين مضتْ .
قُذِفِتْ إلى شجرةٍ ، وهي لا تزال ترتجف هناك .
ليس من حُمّى في رأسه .
ظلّ يجري ويجري ، عاوياً للنوم .
وهي ، وحيدةً في البيت ، كانت تخيط فستانَها الجديدَ . كان فستاناً ريفيّاً بهيجاً مع زهورٍ على الصدار.
ليس سوى غرزاتٍ قليلةٍ ليكون الفستانُ جاهزاً ليُرتَدى .
سيكون لطيفاً على كتفَيها ، وزهرتان من زهوره ، ستنبتان عند نهدَيها .
وحين تسيرُ مع زوجها ، في صباحات الآحادِ ، عبر الحقول ، إلى القريةِ ، يبتسمُ الشبّانُ خلف أيديهم .
كما أن التفافَ الفستانِ على خصرِها ، سيستثيرُ كلامَ أراملِ القريةِ كلِّهِنّ .
ارتدتْ فستانَها الجديد . ونظرت في المرآةِ ، عبر الموقدِ ، فرأت الفستانَ أبهى ممّا تخيّلتْ . لقد جعلَ لونَ وجهِها أخفَّ ، وجعلَ شَعرَها الطويلَ أغمقَ .
قد كانت خفّفتْ منه .
كلبٌ في الليلِ ، رفع رأسه ، و عوى .
استدارت عن المرآةِ ، بسرعةٍ ، وضمّت الستارةَ .
في الليلِ ، البهيمِ ، كانوا يبحثون عن المجنونِ . قالوا إن عينيه خضراوان ، وأنه كان تزوّجَ سيّدةً .
قالوا إنه قطعَ شفتَيها لأنها كانت تبتسمُ للرجال .
لقد قبضوا عليه ، لكنه سرقَ سكّيناً من المطبخِ ، وجرَحَ المكلَّفَ بحراسته ، وهربَ إلى الوديان البعيدة.
من البعيد ، رأى الضوءَ في البيت. بلغَ حدودَ الحديقةِ . شعرَ أنه لم يرَ السياجَ الخفيضَ حول الحديقةِ .
السِلْكُ الصديءُ علّمَ على يدَيه ، والعشبُ الرطبُ زحفَ على رُكبتَيه .وما إن اجتاز السياجَ حتى استقبلتْه مندفعةً، الـمُضِيفاتُ ، معتمراتٍ بالزهورِ ، مرتدياتٍ الندى . لقد تمزّقتْ أصابعُهُ ، بينما الجروح القديمة ما زالت لم تندملْ .
مثل امريءٍ مُدَمّى خرجَ من عتمةِ العدُوِّ إلى الدرْجاتِ .
قال هامساً : لا تدعيهم يطلقون النارَ عليّ .
ثم فتحَ البابَ .
كانت في وسط الغرفةِ . شَعرُها منسدلٌ ، وثلاثةٌ من أزرار الرقبة لفستانها ، مفتوحةٌ .تتهزهزُ على كرسيِّها لماذا عوى الكلبُ كما عوى ؟
تهزهزَتْ على كرسيِّها ، خائفةً من العُواءِ ، ومن الحكاياتِ التي سمعتْها .
تساءلَتْ وهي تتهزهزُ على كرسيِّها : ما ذا حلَّ بالمرأةِ ؟
ما كان بمقدورها أن تتخيّلَ امرأةً بلا شفتَين .
كيف تكون النساءُ بلا شفاه ؟
لا صريرَ للبابِ .
دخلَ الغرفةَ ، محاوِلاً الابتسامَ ، باسِطاً يدَيهِ .
قالت : آه ، لقد عدتَ ؟
ثم استدارتْ في كرسيّها ، ورأتْهُ .
كان دمٌ حتى في عينَيه الخضراوَينِ .
وضعتْ أصابعَها على فمِها .
قال: لا تُطْلِقِي عليّ النارَ .
لكنّ حركةَ ذراعِها فتحتْ زِيقَ فستانِها ، فحدَّقَ ، مندهشاً ، في جبهتِها البيضاءِ العريضةِ ، وعينَيها الخائفتَينِ وفمِها ، وفي الأسفلِ ، إلى الزهورِ البِيضِ في فستانِها .
وبحركةٍ من ذراعِها ، رقصَ فستانُها في النورِ .
جلستْ قُدّامَهُ ، مكلّلةً بالزهورِ .
قالتْ للمجنونِ : نَمْ .
ركعَ
ووضعَ رأسَه المُضنى في حِجْرِها .
تمّت ترجمة النص بلندن في 27.10.2014