إعدامُ الشعراءِ عَرَقاً : كزار حنتوش مثالاً

2014-02-06
المصادفةُ المحضُ ، عبر الفيسبوك ، جعلتني أرتطمُ  بشريكة كزار ، السيدة المحترمة  رسمية زاير ،  وكان عليّ واجبُ أن أقول لها ، هي ، قبل سواها ما أقوله الآن .
العراق ، مهدُ الشِعر ، ولحدُه . مثل ما قال أحمد شوقي عن إفريقيا راثياً عمر المختار : إفريقيا مهدُ الأسودِ ولحدُها .
ولقد تفنّن خلفاءُ العراق ومن تولّوا أمره ، في قتل الشعراء  ، بادئين ببشّار ( القرن الأول ) حين ألقوا بجثته بعد التعذيب في  "خرّارة الماء  " فحمله الماءُ إلى البطيحة  ...
إلى كزار حنتوش الذي قتلوه عَرَقاً .
إلى جان دمّو ...
والقتلُ بالعرَق استنّه البعثيّون .
كان عبد الأمير الحُصَيري ، وهو في الخامسة عشرة ، منضِّد حروفٍ ، في مطبعة سريّةٍ للحزب الشيوعيّ العراقيّ ، بالنجف .
بعد تموز 1958 
وبعد تأسيس اتحاد الأدباء 
جاء عبد الأمير من النجف ، فتىً حييّاً ، لا يكاد ينظر في وجه من يكلِّمه  ، حياءً . عبد الأمير صار أمين مكتبة اتحاد الأدباء .
كنا نداعبه أحياناً : عبّودي جانا من النجف .... إلخ !
وكان جبينه يعرقًُ !
لم يكن يقرب الخمر ( العرَق ) إلاّ نادراً .
البعثيون كانوا خارج الإتحاد بعد أن أسّسوا جمعية للكتّاب والمؤلفين .
لكنهم كانوا حريصين على معرفة  أخبار الإتحاد . كلّفوا علي الحلّي بالأمر . هذا الرجل صار يدفع لعبد الأمير ما يمكِّنه من الشرب ، ويدفع أشخاصاً  لمرافقة ( عبّودي ) في متاهته .
وكان عبد الأمير يحكي ما يحكي : الجواهري قال كذا ... المخزومي قال كذا .
بدأت صحف اليمين تضجّ بأنباء اتحاد الأدباء الملفّقة .
عبد الأمير الحصيري ظلّ يسكر حتى أمسى عربيداً .
بل شرع البعثيون يضربونه .
وأذكرُ أنني حملته أكثر من مرة ، بسيّارتي ، بعد أن رأيتُه ملقى مثل جثة ، بباب الإتحاد .
كنت آخذه إلى بيتي ، وأُدخله الحمّام  ... وألملم أوراقه المحشوّة في جيوبه ، حيث القصائد .
عبد الأمير الحُصيري ، الشيوعي الفتى ، منضّد الحروف في المطبعة السرية ، انتهى .
البعثيون قتلوه  : عَرَقاً .
في مثواه بالنجف ، أنا ألقيتُ كلمة الوداع على قبره ، قبر الفتى الشيوعيّ .
متمثلاً قوله : ومن فؤادي أصيحُ يا نجفُ !
*
والآن ...
ماذا عن كزار حنتوش ؟
ماذا عن كزار حنتوش ؟
في أوائل السبعينيات كان كزار في عنفوانه : مناضلاً شيوعيّاً ، وشاعراً .
كان يسابقُ الزمن والفنّ :
مطوّلاتٍ تكاد تأخذ التاريخَ من تلابيبه ، وتَـعُـتًّــهُ عَتّاً .
الراية الحمراءُ خفّاقةٌ  في تلك المطوّلاتِ كما لم تخفُقْ أبداً .
والشاعر هو !
نحن لا ننكسرُ .
نحنُ نُكسَرُ  ...
حتى لو جاء لينين سنجعله بعثيّاً !
هكذا قالوا .
وهكذا فعلوا .
كل الشعب بعثيّة . كنت أسمع الهدير وأنا  في مكتبة الريّ ، بعد أن أوصيتُ أمين المكتبة ، عباس ، أن يقفل عليّ الباب . لم ألتحقْ بالمظاهرة الإجبارية . لكنني كنت أسمع الهدير : كل الشعب بعثية ، فلتسقط الأميّة !
قلت لعبد الرحمن منيف : يا عبد الرحمن يريدون أن يجعلوني بعثيّاً !
قال : سأذهب إلى ميشيل عفلق أخبره .
بعد أسبوع ، قال لي عبد الرحمن : يا سعدي ، يقول ميشيل عفلق ، اترك البلد رجاءً . العالم العربي أرحمُ بك .
هكذا تركتُ وطني .
لكنْ  ... أنّى لكزار حنتوش أن يغادر ؟
عليه أن يصمت .
عليه أن ينكفيء .
وعلى رايته الحمراء أن تنتكس .
بل  عليه أن يقول أشياء ما كان له  أن يتخيّل أنه قائلُها يوما .
حتى لو جاء لينين سنجعله بعثيّاً !
إذاً فليأت العرَق !
لتأت حكاياته ونوادره .
ليكن لينين متعتعاً  ، في البارات والفنادق ، مسخرةً  لمثقفي السلطة وضبّاط أمنها .
وليمُتْ لينين سُكْراً .
الموتُ عرَقاً !
*
 أتريدون حكايةً أخرى عن الموت عَرَقاً ؟
أتعرفون جان دمّو ؟ أتعرفون أنه شيوعيٌّ ؟  أتعرفون أن الأمم المتحدة قبلته لاجئاً بتوصية مني على استمارة من المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي  ...
كان ذلك في عَمّان .
لكن تنفيذ الحكم بالإعدام عرَقاً كان جرى فعلاً .
وهكذا  رحل جان دمّو قتيلاً .

لندن  14.05.2013



سعدي يوسف

 شاعر عراقي وكاتب ومُترجم، وُلد في ابي الخصيب، بالبصرة عام 1934. اكمل دراسته الثانوية في البصرة. ليسانس شرف في آداب العربية. عمل في التدريس والصحافة الثقافية . غادر العراق في السبعينيات وحاليا يقيم في لندن ونال جوائز في الشعر: جائزة سلطان بن علي العويس، والتي سحبت منه لاحقا، والجائزة الإيطالية العالمية، وجائزة كافافي من الجمعية الهلّينية. في العام 2005 نال جائزة فيرونيا الإيطالية لأفضل مؤلفٍ أجنبيّ. في العام 2008 حصل على جائزة المتروبولس في مونتريال في كندا . وعلى جائزة الأركانة المغربية لاحقاً

عمل كعضو هيئة تحرير "الثقافة الجديدة".

عضو الهيئة الاستشارية لمجلة نادي القلم الدولي PEN International Magazine

عضو هيئة تحرير مساهم في مجلة بانيبال للأدب العربي الحديث .

مقيم في المملكة المتحدة منذ 1999.

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved