المصادفةُ المحضُ ، عبر الفيسبوك ، جعلتني أرتطمُ بشريكة كزار ، السيدة المحترمة رسمية زاير ، وكان عليّ واجبُ أن أقول لها ، هي ، قبل سواها ما أقوله الآن .
العراق ، مهدُ الشِعر ، ولحدُه . مثل ما قال أحمد شوقي عن إفريقيا راثياً عمر المختار : إفريقيا مهدُ الأسودِ ولحدُها .
ولقد تفنّن خلفاءُ العراق ومن تولّوا أمره ، في قتل الشعراء ، بادئين ببشّار ( القرن الأول ) حين ألقوا بجثته بعد التعذيب في "خرّارة الماء " فحمله الماءُ إلى البطيحة ...
إلى كزار حنتوش الذي قتلوه عَرَقاً .
إلى جان دمّو ...
والقتلُ بالعرَق استنّه البعثيّون .
كان عبد الأمير الحُصَيري ، وهو في الخامسة عشرة ، منضِّد حروفٍ ، في مطبعة سريّةٍ للحزب الشيوعيّ العراقيّ ، بالنجف .
بعد تموز 1958
وبعد تأسيس اتحاد الأدباء
جاء عبد الأمير من النجف ، فتىً حييّاً ، لا يكاد ينظر في وجه من يكلِّمه ، حياءً . عبد الأمير صار أمين مكتبة اتحاد الأدباء .
كنا نداعبه أحياناً : عبّودي جانا من النجف .... إلخ !
وكان جبينه يعرقًُ !
لم يكن يقرب الخمر ( العرَق ) إلاّ نادراً .
البعثيون كانوا خارج الإتحاد بعد أن أسّسوا جمعية للكتّاب والمؤلفين .
لكنهم كانوا حريصين على معرفة أخبار الإتحاد . كلّفوا علي الحلّي بالأمر . هذا الرجل صار يدفع لعبد الأمير ما يمكِّنه من الشرب ، ويدفع أشخاصاً لمرافقة ( عبّودي ) في متاهته .
وكان عبد الأمير يحكي ما يحكي : الجواهري قال كذا ... المخزومي قال كذا .
بدأت صحف اليمين تضجّ بأنباء اتحاد الأدباء الملفّقة .
عبد الأمير الحصيري ظلّ يسكر حتى أمسى عربيداً .
بل شرع البعثيون يضربونه .
وأذكرُ أنني حملته أكثر من مرة ، بسيّارتي ، بعد أن رأيتُه ملقى مثل جثة ، بباب الإتحاد .
كنت آخذه إلى بيتي ، وأُدخله الحمّام ... وألملم أوراقه المحشوّة في جيوبه ، حيث القصائد .
عبد الأمير الحُصيري ، الشيوعي الفتى ، منضّد الحروف في المطبعة السرية ، انتهى .
البعثيون قتلوه : عَرَقاً .
في مثواه بالنجف ، أنا ألقيتُ كلمة الوداع على قبره ، قبر الفتى الشيوعيّ .
متمثلاً قوله : ومن فؤادي أصيحُ يا نجفُ !
*
والآن ...
ماذا عن كزار حنتوش ؟
ماذا عن كزار حنتوش ؟
في أوائل السبعينيات كان كزار في عنفوانه : مناضلاً شيوعيّاً ، وشاعراً .
كان يسابقُ الزمن والفنّ :
مطوّلاتٍ تكاد تأخذ التاريخَ من تلابيبه ، وتَـعُـتًّــهُ عَتّاً .
الراية الحمراءُ خفّاقةٌ في تلك المطوّلاتِ كما لم تخفُقْ أبداً .
والشاعر هو !
نحن لا ننكسرُ .
نحنُ نُكسَرُ ...
حتى لو جاء لينين سنجعله بعثيّاً !
هكذا قالوا .
وهكذا فعلوا .
كل الشعب بعثيّة . كنت أسمع الهدير وأنا في مكتبة الريّ ، بعد أن أوصيتُ أمين المكتبة ، عباس ، أن يقفل عليّ الباب . لم ألتحقْ بالمظاهرة الإجبارية . لكنني كنت أسمع الهدير : كل الشعب بعثية ، فلتسقط الأميّة !
قلت لعبد الرحمن منيف : يا عبد الرحمن يريدون أن يجعلوني بعثيّاً !
قال : سأذهب إلى ميشيل عفلق أخبره .
بعد أسبوع ، قال لي عبد الرحمن : يا سعدي ، يقول ميشيل عفلق ، اترك البلد رجاءً . العالم العربي أرحمُ بك .
هكذا تركتُ وطني .
لكنْ ... أنّى لكزار حنتوش أن يغادر ؟
عليه أن يصمت .
عليه أن ينكفيء .
وعلى رايته الحمراء أن تنتكس .
بل عليه أن يقول أشياء ما كان له أن يتخيّل أنه قائلُها يوما .
حتى لو جاء لينين سنجعله بعثيّاً !
إذاً فليأت العرَق !
لتأت حكاياته ونوادره .
ليكن لينين متعتعاً ، في البارات والفنادق ، مسخرةً لمثقفي السلطة وضبّاط أمنها .
وليمُتْ لينين سُكْراً .
الموتُ عرَقاً !
*
أتريدون حكايةً أخرى عن الموت عَرَقاً ؟
أتعرفون جان دمّو ؟ أتعرفون أنه شيوعيٌّ ؟ أتعرفون أن الأمم المتحدة قبلته لاجئاً بتوصية مني على استمارة من المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي ...
كان ذلك في عَمّان .
لكن تنفيذ الحكم بالإعدام عرَقاً كان جرى فعلاً .
وهكذا رحل جان دمّو قتيلاً .
لندن 14.05.2013