دنامية الكتابة في مجموعة "برتقالة للزواج ...برتقالة للطلاق" / عبد الإله بسكمار

2007-09-11
 كيف يمكن للمبدع أن يقدم لمجموعته القصصية ( بخلاف المتعارف عليه في هذا المجال ! ) وهو على وعي تام بطبيعة الكتابة والأفخاخ المنصوبة أمامه،وانتباه حذر لدوائر هشاشتها الخاصة؟ لعل الأمر يتعلق بزواج عرفي مشكوك في خلفياته ومقاصده، وقد منحه صاحبه صفة البوح عبر خطاب مثير أعمق ما فيه أنه يتوجه الى قارئ نوعي مفترض: " عن القصة سأتحدث !! هل هذا ممكن ؟! قطعا لا !! ولا تسألوني لماذا؟ لأنني أولا لا أملك الجواب.. ولأنني ثانيا أمقت الأسئلة التي أكبل بها و أفخخ بها عن القصة، وعن الكتابة، وعن قصة الكتابة". والواقع أن مجموعة " برتقالة للزواج !!.. برتقالة للطلاق !! " للكاتب والأكاديمي المغربي جمال بوطيب ( الصادرة بطبعة أنيقة وبلوحة جميلة للفنان بنيونس عميروش عن دار الجسور - وجدة - سنة 1996 ) تطرح جملة من التساؤلات وأشكال القلق التي تخترق الموقف القصصي من خلال علائقه الملتبسة مع واقع عصي على التنميط والعقلنة. هي إذن لعنة تطارد المبدع كظله الحميم، تميمة كأنها الداء والدواء معا، إن الكاتب لا يملك إلا أن يكشف الغطاء عن بعض ملامح ورطته، مع أن الكتابة تكفي ذاتها بذاتها والعمل الفني بمجرد انفلاته الى السوق، بل ربما قبل ذلك يصبح ملكا للقارئ وبالطبع لا بأس أن تلتبس عند هذا الكشف معاناة القاص مع مواقفه وشخوصه وأزمنته من ناحية، وآفاق القارئ المفترض بكل أرصدتها وانتظاراتها القلقة من ناحية أخرى .. الخطاب القصصي مسيج بمظاهر يتمه ومتاريس عزلته الخاصة، فغربته بالذات هي ما يؤسس أصالته ويكشف للقارئ عن مفاتن الكتابة ومباهجها المذهلة، المبدع هنا لا يجد ملاذا غير جسده الموشوم بأخاديد السلطة و المؤسسات، والمحاصر بإكراهات الرموز والعلامات، وإذا حدث أن امتلك الإنسان جميع الرموز، واخترق كل النماذج والتمثلات هل سيستطيع أخيرا الظفر بحريته؟ ! الجواب قطعا بالنفي، لأنه سيصبح هو ذاته - في هذه الحالة - رمزا من بين سائر الرموز الأخرى، فما المانع من التفكير في لعنة الكتابة من داخل الكتابة نفسها؟..
الخطاب الأدبي في تفاصيله الملتهبة وأشكال انخطافاته المروعة، احتل دوما مواقع الاحتجاج المستمر على الحياة في بعديها الأنطولوجي والاجتماعي يحترف بمحاورها الملتهبة ويتأسس على فضح نتوءاتها السرية والخطيرة فتتخذ الكتابة هنا بعدا استشفائيا لاحتواء عصاب رهيب اسمه الحياة - على حد تعبير الفيلسوف والأديب شيرون - وقد يحتمي القول الأدبي بمسلكيات العقلانية أو الغرابة أو السخرية أو حتى الأكاذيب و الأوهام أحيانا في أفق تجاوز المأزقين الوجودي والتاريخي، هكذا يتحدد الموقف القصصي في مجموعة " برتقالة للزواج ... برتقالة للطلاق..." كذهول رهيب بل كتساؤل شامل، تساؤل فني محكوم بنزوعه الساخر وأفقه الماكر معا، وهما مجالان يمتدان على طول مساحة الحكي بكل تقطعاته وأنماط انفلاته وقلقه، وبالنظر الى أن المبدع الشاب جمال بوطيب يؤسسه خطابه القصصي على خلفية الموقف الحداثي فكريا وفنيا.
فإنه يمكن مقاربة بعض المحاور الأساسية التي تحكمت في مفاصل البنية القصصية لدى المبدع، ورسمت على العموم عناصر الرؤية والأداة، والمقاربة النقدية هنا تتأسس على معيار تصنيف وترتيب الأبعاد التيماتيكية عبر جدلية الكتابة، دون إغفال حدود هذه القراءة أو بعض مناحي التقصير فيها لأن المرء يعجز لا محالة، وهكذا رأيت أن أقارب الموقف القصصي انطلاقا من المستويات والأبعاد التالية :
1) بعد السخرية:
وهو يخترق كل نصوص المجموعة، وأعتقد أن المبدع أفلح في توظيفه كنمط عميق من أنماط التعامل الممكنة مع راهن منفلت بتشظياته المتعددة، الخطاب الساخر هنا يُمفصل التاريخي واليومي، يستفز هشاشة الكائن في عريه العام، ولهاته وراء موت مستحق بين الأموات ! يفكك مجرى المعيش - على مستوى التخييل - فيغدو الواقع مبررا بكل مسوخاته ( حسب تعبير محمد برادة ) و يؤسس أشكال نقد كل السلط بما في ذلك سلطة اللغة، عبر يقظة مبدعة تستبطن حذرا معرفيا عميقا تجاه المطلقات والأنماط الجاهزة، وضمن بعد السخرية هذا تكتفي المجموعة بطرح علامات استفهام أو بكشف مساحات البياض التي تخترق تخوم الكائن ومستويات الواقع " أصر المطر على التساقط .. بينما صار المعلن الاشهاري يردد ... صدر قرار :
- بأن يكتب الأطفال شعرا !
- وأن يراجع الشريف خريطته !
- وأن يترشح المجانين للانتخابات!
- وأن ... وأن
- وأن يصادر الكورنادين !
فليبلغ الشاهد الغائب، ألا إني قد بلغت، اللهم فاشهد... كان وجهها الخلاسي الآسر لا يزال يعاتبني ويقول:
- خلاصك في أن تعرف إلى أي فصيلة ينتمي هذا الدم!" ( قصة الخلاص، ص 16 ). ويتحدد بعد السخرية من خلال قصة " العين والهدب وأشياء أخرى " في هذا التلاحم الطريف بين السارد المرتحل دوما ضمن غياهب الأسفار والمغامرات ( ولعل الكاتب يلمح بذلك الى ظاهرة الهجرة السرية كجرح مغربي راهن ) وبين شخصية متميزة لها رجعها الأدبي والرمزي في ذاكرتنا الثقافية المغربية: الرحالة العالمي ابن بطوطة ثم يتدخل ضمير آخر ليكذب هذه الفذلكة بكاملها!. " بعت السبحة بابتسامة شرحت صدري، بعنا خوفا وتكلفا محتملين. باعنا أحد ما، فلم أعبأ بالشرطي إلا وهو يضع الأصفاد في يدي، يفتشني بدقة، يتأملني باحتقار و حقد وأسلم لشرطة المطار لأجدني وسط أهلي نتفرج على القناة الوطنية تبث برنامجا شيقا حسب زعمها عن الهجرة السرية وعلاقتها بأدب الرحلة " . " وقع ذلك في يوم خريفي بالرغم من أن الفصل لم يكن كذلك استيقظت متأخرا كالعادة، بسرعة خاطفة غسلت وجهي وأنا أستعرض سيل اللوم والشتائم الذي ينتظرني عندما سأصل إلى عملي، نقطة، تذكر أننا توقفنا عند النقطة إذ أنني رأيت أنه من المستحسن قبل أن نستمر أن أعرفك على نفسي: أنا انسان بسيـ ... ط - من البساط - جاء في اللسان البساط هو " كل ما يداس ويهان ويدان ويشان " ( قصة غمزة الصباح ...غمرة! ص 33 ). " ود الشرطي القاص أن يفهم لماذا هذا اليقين بعدم نشرها. سأل صديقه عن موضوع القصة، فرد الصديق بأنه سيتحدث فيها عن عصرنا كأبي ذر الغفاري في البرلمان مثلا أو غزالة في إحدى البلديات ستخرج لابنها نسخة من الحالة المدنية أو الخوارج في قاعة الأمم المتحدة أو...
- حقا ستكون رائعة ( قال الشرطي للقاص ) ولكن نهايتك أيضا ستكون رائعة." ( قصة في التنظير والممارسة ص 57) . وجاء في نفس القصة " فاليوم يستطيع الإنسان أن يكتب قصة بأسلوب متميز وخاص كالأسلوب الفلسفي...
أو أسلوب الاخوانيات ( بالنسبة لهذه الكلمة وفي إطار التطور اللغوي الذي تشهده لغتنا الحبيبة فقد أصبح مدلولها يعني أن يكون لك أخ، هذا المنطوق، أما المفهوم أن يكون لك أخ أو أب أو صديق في اتحاد الكتاب ، هذا الأخ أو الإخواني يساعدك على أن تصبح عضوا في الاتحاد ويضمن لك صديقا آخر يكتب عن إبداعاتك بين الحين والآخر وكلما نساك القوم )" ص 58.
وفي سياق التنويعات على نفس النغم يبيع شخص ما لسانه ( في قصة"عقد بيع" ) ويعبر من خلال ذلك عن استعداد الآخرين لبيع قلوبهم ثم أعضائهم التناسلية مقابل عقود تضمن لهم بقشيشا ما، ويتناسل زمن القصة عبر تداعيات ناشئة عن كل ذلك ... وجاء في قصة " جبور" :
" - بارد وسخون يا هوى بارد وسخون !! غنيت بلا رغبة حقيقة في الغناء .
- أطلقوا السخون، أطلقوا السخون ، السخون !!" ( ص 73 )
2) مبدأ المفارقة:
يتناغم ضمن البعد السابق، قد يؤسسه أو يتأسس عنه ، يستظل به أو يتداخل معه ، وفي أكثر قصص المجموعة تتراكم عناصر السخرية انطلاقا من تجاذبات غير منطقية ، أو على قاعدة علاقات منزاحة من إطارها الطبيعي المفترض، وهو ما يعطي لنصوص بوطيب مزيدا من الكثافة وسيولة في المعاني، و غنى على مستوى الإيحاءات و الرموز
" أشار بيده الى قبر قريب وقال :
" هذا القبر كان علينا أن نطالب أهل صاحبه بثمن القبر وزيادة.
- لماذا ؟
- لأن من يرقد فيه طويل جدا !" ( قصة " في المقبرة " ص 28 ). وفي قصة " برتقالة للزواج... برتقالة للطلاق"
( التي أطلق عنوانها على المجموعة ككل ) اتخذت علاقة الطفل بالبرتقال مظهر عقدة نفسية أصبحت منبعا ومصبا لحساسيات متعددة و مواقف متناقضة " سنذهب لترضية أمك .. ضممت البرتقالتين الى صدري. أحسست بأن صدري لا يتسع للفرحة التي تسكنه وفكرت :
برتقالة ...للزواج
برتقالة للطلاق
برتقالتين للترضية " ( ص 42).
وقد تأخذ المفارقة بعدا إيروسيا مثيرا - يكشف عن بعض ملامح البنية العميقة لمجتمع ما زال يبحث عن توازناته العامة - من خلال ما يجري وراء بعض الكواليس المعتمة أو الدهاليز السرية! - وهو ما يظهر في قصة " ثلاث غرف تخادع المدينة" التي تعالج بشكل متزامن ثلاثة مواقف متلبسة " بفضائحيتها " في وقت واحد:
- والي المدينة يختلي مع زوجة كبير الحرس
- زوجة الوالي تختلي مع كبير الحرس
- ملحن يغرر بمراهقة ويختلي بها...
وعلى محور آخر تنسج المفارقة في قصة " عقد بيع " ملامح للاكراهات وسلسلة التخليات التي على الفرد أن يجابهها حتى يُستدمج ويُقبل في إطار الرأسمال الرمزي السائد، الذي هو في نهاية المطاف عبارة عن لائحة مطولة من الممنوعات : " حين خرج (2) من عيادة الطبيب المحلف، صُدم بعارضة إشارات المرور تستوقفه. قالت الإشارة الحمراء: توقف عن التنفس.
قالت الإشارة الخضراء : تنفس من أنفك فقط، ولا تفتح فمك فأنت تعرف قبل غيرك أن رائحة فمك كريهة، علاوة على أن لسانك مبتور..." ( ص 66 )
وفي قصة " جبور" يصبح الذي يعالج أوساخ الناس في حاجة الى من يعالج أوساخه " تحركت أصابعي بكسل فوق قفاي، أعلن الدرن عن نفسه دونما خجل أو استحياء..." ( ص 72).
3) مستوى الغرابة:
يتسلل عبر عتبات الذهول- التي تنتصب ضمن عناصر الخطاب القصصي - فيفرز مستوى آخر من مستويات اللعبة في أفقها التخييلي، يقول الغريب في العادي ، ويقرأ المبتذل في المدهش، وكأن الأمر شهادة عميقة عن كائن مغتصب يواجه انساق انفضاحه الاجتماعي وعريه الوجودي، ونحن نفترض دائما أن الشخوص الورقية تمارس حقوقها المشروعة في حمق شامل. إذ إن الحدود و الفراغات و التقطعات أكثر حضورا من مظاهر التتابع والتناسق والانسجام، وهي تفتح أفقا لانزياحات موضعية عبر عوالم الكتابة وأوهامها الساحرة:
- قصة الخلاص : تحول المطر الى دم.
- العين والهدب....: تحول ابن بطوطة الى مهاجر سري تم العكس مع تفنيد اللعبة بأسرها.
- غمزة صباح ...غمرة : العيون الأنثوية تستفز الكائن القصصي بواسطة الغمز ثم يعلن الإضراب العام وتندلع حرب الخليج.
- برتقالة للزواج!... برتقالة للطلاق!... : تحول البرتقال الى فاكهة لكل الفصول .
- ثلاث غرف : أخلاقية " الجنسوية " كتمظهر لانشطار المجتمع المغربي عبر بنيتي السر والعلن.
- ذئاب : انحدار الكائنات الآدمية الى مسلكيات الثعالب والذئاب.
4) سؤال النص والأداء القصصي:
تتمخض القراءة المتانية للمجموعة المذكورة عن أبعاد أخرى ترسخ الطابع الحداثي لها، وتمنحها نكهة مشاغبة تعكس تمكن القاص من أدوات الحكي ووسائل صياغة الموقف القصصي، فعلاوة على اعتماد خطاب إشكالي حول الوضع القلق للإبداع (يسائل الكتابة من داخلها )، يتمثل بوطيب عناصر متنوعة تمنح من مسلكيات القصص الحديثة كالتداعيات وتكثيف البعد الإيحائي والاقتصاد في السرد وتمثل اللغة الشاعرية مع الميل الى أسلوب التقطيع الزمني وتفجير نسق النص عبر نظام المقاطع والشذرات الى تنويع الضمائر وتعمد التكرار أحيانا كتعبير فني عن ارتجاج نفسي عارم أمام ضغوط الواقع وإكراهات الدوائر المفرغة التي تسيجه بإحكام مأساوي، وبالنظر لخصوبة هذا الجانب، وتعدد أبعاده الفنية والفكرية اقتصر على التمثل بمقطع وحيد كختام لهذه المقاربة المتواضعة، تاركا للقارئ متعة اكتشاف أدغال جديدة في هذا العمل المتألق بذهوله ومكره الجميلين :
" كـل صباح ، وبلا رغبتي أ صل متأخرا
كـل صباح يشتمني السيد المدير
كـل صباح أعتذر
كـل ظهر أعود مكتئبا الى " بيتي"
كـل مساء أنام مبكرا لكي أستيقظ في الوقت المناسب
- كـل صباح أستيقظ متأخرا.
وكـل صباح يشتمني السيد المدير وهكذا ... الخ لعبة جميلة " كـل" هذه أليس كذلك ؟!" ( ص 33).

 

 

 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved