كان العالم ثابتا: الجبال تستقيم في مواقعها منذ الأزل والأرض تقسمها خطوط حمراء هي الحدود بين الدول. لعلنا بدأنا قبل ذلك بتلك الرحلات المملة من بغداد إلى الموصل مرورا بسامراء وتكريت، ومن بغداد إلى البصرة، وأخطأنا دائما في تسلسل المواقع والمدن. تلك كانت الجغرافية التي لا أذكر أن أحدا قد شغف بها في تلك المرحلة.
لكننا ذات يوم سنجد أننا بحاجة إلى ما تعلمناه ونسيناه، وما لم نتعلمه. وسنبحث في المكتبات عن كتاب جغرافي يلبي حاجتنا الملحة إلى أن نعرف. فنقرأ عن تحولات الأرض، عن التواء قشرتها، عن نهوض الجبال وتفجر البحيرات.
لقد كانت هذه الأرض، أرضنا، مغمورة بمياه البحر. لكنها صنعت بعد ذلك من التغيرات الجيولوجية، من ترسبات البحر، من هياكله وأصدافه، واكتملت جبالها بعد ذلك من حركات قشرتها. لقد غمر البحر هذه المنطقة وانسحب منها أكثر من مرة. وفي أزمنة أخرى في المستقبل، سيكون سهلها قد امتد واتسع.
لو أن أحدا قد حدثنا عن التواءات قشرة الأرض، عما يلون الجبال بالأحمر أو الأسود، لو أن أحدا قادنا بين تلك الجبال وحدثنا عن أسمائها، فلعلنا حفظنا كل ذلك، ولعلنا أحببنا درس الجغرافية. لكنهم بدلا من ذلك بدأوا معنا بتلك السياحة اللفظية بين بغداد والموصل وبغداد والبصرة، ومضوا بنا إلى عواصم البلدان وأنهارها ومناخها، فالتبست علينا الأسماء، وخلطنا بين من يصدر القمح ومن يستورده، فقد كانت المفردات نفسها تتكرر. لقد كتب كل ذلك بلغة باردة فما كان بوسع صبي أو فتاة أن يحفظ الكثير منه. وكانت الكرة الأرضية تدور أمام أعيننا، أبعد قليلا مما ينبغي، أبعد من أن تلمسها أصابعنا، بل أبعد من أن نتبين بوضوح خطوطها. كنا نتبع إصبع المعلمة وهي تنتقل هنا وهناك، ونجتهد في أن نحفظ عنها ما سننساه بعد قليل.
والآن نحن ندرك كم من الوقت أضعنا، وكم من الوقت علينا أن ننفق لنتعلم من جديد ما فاتنا، لأننا لم نحب درس الجغرافية. وندرك أيضا أن ثمة طرقا للتعليم أكثر جدوى من التلقين.
أرى، مجلة ألف باء 1974