أرى، بالرغم من اعتراضاتٍ عِدّةٍ، أن الشِعرَ لا يزال ديوانَ العربِ .
أقولُ هذا، ليس في معرِض مفاضلةٍ نافلةٍ، بين الشِعر والرواية، فالأنواعُ الأدبيةُ متداخلةٌ، متآخيةٌ، يشدُّ بعضُها بعضاً . كم من روائيٍّ بدأَ شاعراً، وكم من شاعرٍ انتهى روائيّاً .
إلاّ أن المشهدَ الحاليّ لساحة الإبداع، وهو مشوَّشٌ، غيرُ مستقِرٍّ، بل باهتٌ، يدعوني إلى أن أكون أهدأَ
وأرحبَ نفساً، مع أن هدوءَ النفسِ هذا قد يأتي إلى نتائجَ لا تسرُّ أحداً، مثل ما أنها لاتسرُّني .
قبل عقودٍ كان الحديثُ مؤجَّجاً عن " زمن الشِعر " ؛ وقبل أعوامٍ كان الحديثُ متواتراً عن " زمن الرواية"،
وفي الحالتين كلتيهما، كنّا غير دقيقين .
الحديث عن " زمن الشِعر " كان آنَ الروايةُ العربيةُ تيّاهةٌ في بهائها لدى نجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف
وجمال الغيطاني .
والحديثُ عن " زمن الرواية " كان آنَ الشِعرُ العربيّ حمّالُ أسئلةٍ في تمام الجِدة والصّرامة .
*
إذاً، نحن إزاء المشهدِ الحاليّ لديوان العربِ : الشِعر .
إقامتي المديدة في ديار العرب، وإطلالتي الدائمة على المشهدِ الشِعري فيها، جعلتاني أتقرّى الأمورَ في منبِتِها .
أبدأُ بالبدء .
وأعني هنا، أرضَ الجزيرة ذات التهائمِ والنجود والسواحل .
ثمّت صمتٌ أطالَ الـمَـكْثَ . مَن بعد الثبَيتي ؟
مَن بعد محمد راشد ثاني ؟
مَن بعد زهران السالميّ ؟
أشاعرُ المليون ؟
أم أمراءُ النبطيّ المتنافجون ؟
*
اليمنُ اليمان
بعد رحيل محمد حسين هيثم ...
ظلّ عبد العزيز المقالح يحرس المعْبد ...
*
العراقُ الذي شهدَ الميلادَ العجيبَ للقصيدة الحرّةِ بُعَيدَ الحرب العالمية الثانية، خامدُ الجذوة، بعد أن فقد استقلاله، وتداوَلَه الأعاجمُ، وأمسى وزير ثقافته كُرديّاً .
*
في الشام التي أنجبت نزار قبّاني وعلي أحمد سعيد وممدوح عدوان، ورياض الصالح حسين، حسرةٌ على أيّامٍ خلتْ، ومرابدَ أقفرتْ .
ولبنان ... مَن فيه الآن ؟
مضى سعيد عقل وبسّام حَجّا، مضى حسن عبد الله .
هناك مسوخُ القصيدة الفرنسيّة في تخلُّفِها . هؤلاء الذين لا يعرفون من قصيدة النثر سوى تخلّيها .
*
فلسطين :
هل أراهن على طارق الكرمي، ومهيب البرغوثي ؟
لكن زكريّا محمد باقٍ ...
*
وادي النيل، وكان فيه مَن فيه : الفيتوري، وأمل دنقل، وحلمي سالم، وصلاح عبد الصبور .
هذا العامَ فاز بجائزة الشِعر الكبرى فاروق شوشه .
*
ليبيا اندثرتْ، كالعراق، بعد أن فقدت استقلالَها، واندثرت إرهاصاتٌ عميقةٌ لقصيدةٍ جديدة .
*
تونس جديرةٌ بالانتباه .
أعتقدُ أن الحركة الشِعرية في تونس، الآن، هي الأعمقُ، والأبهى، في المشهد الشِعريّ العربيّ .
رحيل محمد الصغير أولاد أحمد لم يؤثِّرْ في الصورة البهيّة : لدينا شاعر القيروان، منصف الوهَيبي .
*
الجزائر، لم تكُن، في أحد الأيام، غابراً كان اليوم أو حاضراً، حاضنةَ شِعرٍ، باستثناء المكتوب باللغة الفرنسية .
*
المملكة المغربية كانت مهاداً غنيّاً لحركة التجديد في النصّ الشِعريّ العربيّ .
أمّا الآن فأزعُمُ أن انفصالَ القصيدةِ المغربية عن الواقع المعيشِ، أدخلَها في متاهةٍ يصعُبُ الخروجُ منها إلاّ بالعودة الشجاعةِ إلى الميراث الحيّ للشِعر المغربيّ المناضل : عبد اللطيف اللعَبي ورفاقه .
*
وددتُ لو تحدّثتُ قليلاً عن موريتانيا ذات الخصيصة المختلفة، لكن قلّةَ ما بين يدَيّ من نصوصٍ جعلتني أتحرّجُ من إبداءِ رأيٍ حتى لو كان موجَزاً .
*
هل الصورة كابيةٌ ؟
بالتأكيد ...
لكنْ هل من سبيلٍ إلى خارج النفق؟
أرى أن ثمّتَ سبيلاً، وإنْ كان صعبَ المنال .
فإنْ سألني سائلٌ عن هذا الدربِ العجبِ، أجبتُه :
العودة إلى الشِعر الجاهليّ !
لماذا ؟
لأن القصيدة الجاهلية متوافرةٌ على ما يجعلُ النصَّ شِعراً :
اللغة الماديّة ( استعمالُ الاسم الجامد لا المشتقّ، وانتفاءُ المصْدَر، والإقلالُ من الفَضْلة ) .
العلاقة مع الطبيعة .
العلاقة مع " أنا " لا مع " نحن " .
بدائية الموسيقى الداخلية .
*
ديوان العرب مأهولٌ .
لكن ْ أيّامَ الجاهلية الأولى ...
لندن 16.07.2016