قرر - بعد أن وعيَّ لِما جاء في الوثائق الكبرى- الترتيب لعقد مؤتمره الإعلامي المُزمع نقله عبرّ القنوات الفضائية والأرضية، مُعلنًا عند التحضير أنه سيُفصح عن مجموعة الوثائق التي جمعها جدّه في المخطوط الضائع، مُلخصًا فيها كافة الوقائع التي كانت من أسباب حصول الأوبئة وما تبعها من تحولاتٍ ورجفاتٍ وكارثة. فكما عهدنا في كافة شيء أن الحياةَ عملةٌ ذات وجهين، فكان بالقطع المسؤول الكبير- حَتَّى قبل أن يعرف فحوى ما سيُقدمه- رده جاهزًا على ما سيقوله عن المخطوط المدفون منذ ألف عام، لأنه يعرف أكثر، (أمال مسؤول إزاي يعني؟ لازم يعرف كُلّ شيء: أوعى تنسى؛ لأ مش مهم يقرأ؛ هو فيه مسؤول بيقرأ؟).
كالعادة حوار الطرشان، من طرف واحد، فلم يدعو أحد ليتحاور معه، إنما بدا الحوار في الهنا والهناك من طرف واحد، فكُلّ منهما في وادٍ سحيق، فالأول له من يسمعه، والآخر عنده من يبغي التغيير فراح في اتجاه الآخر، فتأكد صحة أنها أرض تعشق القولان من طرفٍ وحيد (المونولوج)، فلا أحد يهتم بمعرفة رأي الأخر، ليفهم ويعي، ليجيب على بينة وفهم. إنما حكيم فله عذره، نكرة، لا يحقّ له التحضير لمؤتمر، خصوصًا أنه أصبح محسوبًا بقدرة قادر على المعارضة، لأنه لا يمشي في الركاب، لأنه ينتقد الحكومة، لأنه لديه أراء مثل السم، لأنه مسجون سياسي في الزمانات، لأنه له جدّ منذ ألف عام من المغضوب عليهم، ولأنه ولأنه، آلاف التهم جاهزة لمن لا يُقَبِّل الأيادي.
***
التقت ديانا الكرامة معه في مكتبهِ الخاص في الناطحة بعد غيبة ثلاثة أشهر، فكان ذلك أول لقاء بينهما بعد وفاة زوجها سرّ الختم أيوب. بعد الترحيب وتقديم واجبي العزاء والضيافة معًا مرَّت لحظات آسية لفتهما الاثنين، فكان زوجها من أصدقاءه المقربين بل كان أقربهم لقلبه، فاتت لحظات بدت طويلة يُغالبا دموعهم، يدور حوار بادئته ديانا:
أكان للمخطوط الضائع تلك القيمة لتضحي بأعز أصدقائك؟
لن يُغني أيّ كلام عن وفاة أيوب.. صدقيني المخطوط مهم؛ .. فيه الكثير لو تعرفين.
عارفة .. أسفة.. أعذرني فمصيبة الموت كبيرة؛ .. فما بالك بموتِ الحبيب؟
تبكي بدموعٍ حارة، مُنتحبًا معها مُتحدثًا بنبرةٍ يشوبها التآوه جراء تأثره الحقيقي:
قضوا بقيتهم بسببي.. كانوا من أعز أصدقائي.. تعرفين مدى حبي لكم.
أعرف، ..أيضًا هم أعز أصدقائي؛ إنما أيوب لم يكن زوجي فحسب بل كان وسيبقى الرجل الذي عرفت معه للحب معنى؛ أنت تعرف.
أعرف.. تلك هي الحياة، رسالة اخترناها، أمانة نؤديها، لن أزايد فأقول الوطن، هي رسالة تجاه أنفسنا قبل كُلّ شيء، فلكُلّ بشري تجربته التي سيُحاسب عليها عند انتهاء الحياة الدُنيا.
عارفة..
قالتها بحرقة، لعلها من بين من هن الأكثر تدينًا وإيمانًا بالخالق في هذا الزمان الصعب، ما زالت تبكي فنهض من مكانه ليقترب منها مناولها منديلًا ورقيًا لتمسح به دموعها المنهمرة، هامسًا:
قمنا بمسؤوليتنا عن طيب خاطر.
عارفة.
أعرف، أسفي لن يُجدي، إنما كان جديرًا بنا التحرك.
تحركت لغرض في نفسك.
حركني ما تصورته مَخفيًا في المخطوط.
ذلك المخطوط حَمَّل "الإعلام والآمن" مَغّبَّة أخطاء البشر.
لا تنُكري فالاثنين لهما دور كبير فيما حصل..
يقومون بدورهم هذا منذ فجر التاريخ.. فمالهم والحاصل من بعض الغافلين!؟
إنما كان لهؤلاء البعض دور.
تُحِبُّون دائمًا تَحميل البعض كافة أخطاءكم؟
حَمَّل المخطوط الضائع الإعلام مَغّبَّة ما حصل.
نعم كما حَمَّل الأمن قبله؟
الأمن مثله مثل القانون والإدارة والسياسة والهندسة والطب، يعادل نفس القيمة للمعنون بالدين والأخلاق والعلاقات المُجتمعية الإنسانية.
مُمكن.
الأمن دوره مؤثر في منطقة محددة، إنما الإعلام فخطره أعَّم؛ .. هو الجامع لما يقوم به الهؤلاء.
كيف؟
الإعلام هو البوق الذي ينفخ فيه لتهب إما نَسمات الربيع، .. إما هبات السّعير.
السّعير؟
أجل، نارٌ حارقة.
ما زلت تُحّمِّل الإعلام ما ينبغي ألّا تُحّمِّله، فمثله مثل أيّ مهنة في الدولة؛ .. يقوم بواجبه.
أبدًا، فالإعلام ليس مثله كمثل أيّ مهنة، بل أنه ليس بمهنة أبدًا.
الإعلام مهنة من يمتهنها.
فهمٌ خاطيء طبعًا.
إذن كيف تراه أنت؟
حالة من حالات التوحيد والتقليب.
لا أفهمك!؟
الإعلام عملة ذات وجهين.
.. أفصح!
حالة مُجتمعية إما قابل لاستيعاب اهتمامات المجتمع فتحميه، دافعته للأمام، إما تُشارك في التأليب عليه لتزيد حالة الغفلة والتوهان، لتعُّم الفوضى والغوغائية وطول اللسان والتراشق بالألفاظ.
.. من فضلك .. لا تُعَظِّم المسائل.
إذا قلنا العملية المنوطة بالصحة يقوم عليها أطباء وصيادلة، والقانونية يقوم بها قضاة ومحامون، هكذا فكُلّ عملية من العمليات المهتمة بالحالة المجتمعية يقوم بها إناسٌ مُختصون، لا يُمكن للمهندس إجراء عمليات جراحية كما لا يمكن أن يترافع لاعب الكرة في قضية أمام القضاء.
.. أظن هذا واضح؟
بل ومنطقي.
أفهم من كلامك أنك تقول أن الإعلام يجب أن يقوم به وعليه إعلاميون مُختصون في المجال.
قدمتي نصف الإجابة، فإن كان ما تقولينه صحيح، إذن فلا يُطلق على إنسان لفظة إعلامي إلّا إن كان مُتخرجًا من "كليات الإعلام"، فتلك واحدة. أما الأهم فهو أن دور الإعلامي مُختلف عما يعتقده ويفعله المحاورون الجدد الآن في البرامج الحوارية والعروض الكلامية.
أفهم وجهة نظرك، تريد الإعلامي كما كنت تراه في الماضي، مُجرد مذيع للنشرة، أو مقدم للبرامج من ورقة مطوية.
هذا من عمل الإعلامي المعاصر باعتباره خريج كلية الإعلام؛ .. فهذا لا يعيبه على الإطلاق.
أعرف إنما الإعلامي المتطور هو أيضًا مقدم للبرامج الحوارية في مجالات الاختصاص.
لا مانع عندي مُطلقًا من تقديم البرامج الحوارية والعروض الكلامية إنما آوليس هناك من ثمة شرائط لمقدمي تلك البرامج والعروض المؤثرة؟
كليات الإعلام والفضائيات عليها الالتزام بتلك الشرائط، فكنا نتعلمها في الكلية.
الله يفتح عليكي، تتعلمونها في الكلية.
عدت لا أفهمك، من فضلك .. دلني على ما تريد دون لف أو دوران.
تعرفين الأغلب الأعم من المشتركين في البرامج الحوارية أو العروض الكلامية كما يسمونها للترجمة الغربية "توك شو" في الفضائيات التي تُفسح لهم مجالات التقديم والحوار لم يلتحقوا بكليات إعلام، هم إما مشاهير إما مندسين عبرَّ الواسطة ومن أبناء العاملين في المجال.
... قلبي بيوجعني!
بصراحة، هم مندسون لا يعرفون شرائط الإعلام.
.. نفسي أفهم هو فيه إيه؟
النتيجة فوضى ‘إعلامية وغوغائية حاصلة في الميدان.
من تقصد؟ اعطني أمثلة.. من فضلك لا تعمم.. كما لا تتجاوز التفصيلات.
من أعطى صحفي تخصصه محاورة النجوم على مدار عُمرّه حقّ التحدُث في موضوعات سياسية واقتصادية وقانونية وغيرّها شديدة التخصصية مثل العلاقات بين الدول، بل وإبداء رأيه بحجة الرأي. من أعطى الحقّ لرياضي قضى عمره لاعبًا ومُتفرجًا ومُعلقًا التكلم في أمور مجتمعية وسياسية.
هذه واحدة.. لا تعطيني أمثلة أرجوك، أعرفهم كُلّهم بالإسم.
أكثر من ذلك.. كيف يتأتى لأيّ كائنٍ من كان الكلام في موضوعاتٍ حرجة على الملأ ليس له بها من علم؟ فنراهم مجلجلين في أمكنة المشاهدة والاستماع دون ثقافة ولا معرفة.
معك حقَّ.
الأكثر عِلة، فبمجرد جلوس أيهم أمام البث يتحول، يعطي لنفسهم هالة ومكانة، مُلقبًا نفسه بأفضل إعلامي؟ ما المعايير التي استندوا إليها ليكونوا الأفضل؟
مش عارفة.. الإعلامي الكبير الفاضل عندك حقّ حاجة بايخة..
آتصدقين أن يخرج منهم من يناقش المتحدث الرسمي في وزارة من الوزارات وهو المختص العارف، فيكيل له الاتهامات فيعلمه مهمات وظيفته، فعندما يتبين جهله وخيبته يعتذر مُبتسمًا ببلاهة، إنما يستمر في المهاترات. أما الطامة عندما يأتي معلق رياضي آخره إزاعة مبارة في كرة القدم ليطلب من رئيس جمهورية دولة الاعتذار رسميًا على الهواء، ليقول بالحرف الواحد، لن نقبل منهم إلّا اعتذارًا رسميًا من رئيس الجمهورية. ها هنا هو ليس فاقد لمعرفة البروتوكول فيما يخص رؤساء الدول فحسب بل أنه أيضًا متطاول في أدب الحوار مع رجل بمكانة "رئيس دولة"، .. أيًّ كان الخطأ فهناك أصول للتعامل مع رؤساء الدول.. هو لم يتعلم ذلك..
هو لاعب كرة قدم مُميز.. إنما ليس له الحقّ في التكلم في مثل تلك موضوعات.
آتعلمين أنه لا يحق لسفير دولة مهما بلغت مكانته التخاطب رسميًا مع رئيس أيّ دولة- إلّا إذا تم تكليفه رسميًا بذلك- فيخرج المحاور اللاذع بصفته إعلامي كبير، إعلامي فاضل، على الهواء مباشرة ليتجاوز الأعراف في بلاهةحماقة!
معك حقّ.
ليأتي ثالث ليتكلم عن قناة رياضية محترفة كانت ابتاعت امتلاك حقوق شروط البث الفضائي لحدث رياضي غيرّ عارف بملابسات العصر، أيّ أقصد عصر الاستثمار والسماوات المفتوحة، بل أن ذلك أصبح من المُتعارف عليه على مستوى العالم كُله، فيخرج محاور آخر ليطلق عليها القناة المُغرضة المتنمرة الحاقدة الراغبة في النيل من كرامة الدولة، .. ما دخل الكرامة في عمل مهني احترافي!!
معاك حقّ.
هو لا يفهم في الاقتصاد، يتدخل بغوغائيةٍ في موضوع خارج اختصاصه، فالدنيا تتعامل بنفس المنطق الآن، مُتجاهلًا أو مُتعمدًا تجاهل أن دولته لديها أشياء حصرية تمتلكها لتبيعها للقادر حصريًا.
هم لا يفهمون في الواقع كلمة "حصري" فبعضهم يظنها شطارة الانفراد الصحفي. الاحتكار حرفة،
فالحصرية أن تقدم أنت فقط شيئًا لا يقدمه غيرّك، تكون ابتعته من صاحبه فامتلكته لتعرضه لتكسب.
يا صديقتي لا أحد يفهم، أنت خريجة كلية إعلام، تعرفين، إنما هم دخلاء، بل قولي ما شئتي عنهم. أما الغريب فعلًا فرأي أستاذ جامعي تخصصه في الإعلام تفتق ذهنه عن أن الساسة والحكام في وطننا أحجموا عن شراء ساعات البث لعمل خلاف بين القناة المالكة وشعبنا الحبوب المُسالم الصغنون.
هل من المعقول أن يفكر مهني مُحترف هكذا تفكير!؟
صدقيني المسألة ليست شخصية.
ما هذا التحليل الفج!؟
هل من المعقول أن تدفع قناة فضائية كُلّ هذه المبالغ لقهر دولة جوار؟.. قلت يومها، رَّبِّنا في عون طلاب هذا الأستاذ الجامعي، صاحب الفكر المريض.
أفحمتني يا رجل، نحن غافلون، لكن ماذا نفعل؟
رجوع الإعلام لقواعده كما يفعل المهنيون الفعليون، فلم يأت منهم احد من قبل ليقوم بحوار من طرف واحد (مونولوج)، إنما الحوار بين طرفين (ديالوج)، طرف مُنصت مدير للحلقة معه طرف ثان مُختص. ليس على المحاور إلّا توجيه الحوار وتفتيح النقاط، لكن أن يدلو برايه في ايِّ مجالٍ دون سابق معرفة؛ .. فهذا محال.
معك حقّ.
أغلب المحاورون الأن كُلّ منهم يريد إثبات وجوده وإظهار معلوماته، في حين أنهم جهال غيرّ مُختصين فلا نسمع إلّا ترديدات: أنا عايز أقول حاجة، أنا رأي المتواضع، هي مش كيميا يعني، أنا أفضل إعلامي، أنا مش عارف أنا مش فاهم بس لازم اتكلم وانتم تسمعوني، أنا قلت ده هيحصل وحصل، .. كلام فارغ بعيد عن المهنية.
معك حقّ، أنا أسفة باعتذر لك، .. ماذا تقترح؟
بعد مراجعة ما جاء في مخطوط الأجداد رأيت ثمة ثلاثة مُنطلقات، كبداية: أ.) تفريغ كرب الإعلام من الدخلاء بتنظيف الساحة من غيرّ المختصين، غيرّ الحاصلين على شهادة مُعتمدة في مجال الإعلام التليفزيوني الفضائي، فعلى من أراد الانضمام لقافلة الإعلام أن يتعلم ويدرس ويحمل ما يؤهله لتلك المهنة الاحترافية، ب.) عودة للحوار الهادف، فلا حوار من جانب واحد أبدًا، ليكون الحوار بين طرفين على نفس الدرجة من التأهيل: المحاور والمختص، فيدعو ذلك بالضرورة إلى: ج.) عمل اختبار ثقافي لمن يتصدى لتقديم البرامج الحوارية، لأنه من غيرِّ المعقول أن يتصدى لبرنامج حواري من ليس لديه علم ولا خبرة ولا ثقافة ولا معرفة ولا ممارسة المشاهدة.
إنما لا تنُكر، يمتلك كاريزما..
يخرب بيت الكاريزما، .. هو مُصطلح مُنتهية صلاحيته، فتلك لا تكفي لتقديم محاور مؤهل مثقف.
ماذا أيضًا؟
ضرورة التفريق بين الإعلام المرئي والمسموع والصحافة المكتوبة، أما إذا أردنا ابتكار صحافة تليفزيونية فليكن بخبراء خريجوا أقسام صحافة تلفاز في كليات الإعلام، فليكفوا عن اختراع مُصطلحات.
خفتت حدة الحديث، تنهض ديانا من مقعدها مُبتسمة على غيرِّ حالتها وقت اللقاء لينهض معها مُتثاقلًا، تقابله في منتصف غرفة المكتب، تحتضنه لتقبله قبلتين مودعها هو بابتسامة عريضة تملأ وجهه، إنما تلمح فيها آسى على فقده لصديقه العزيز، زوجها، على أمل اللقاء. لعلها خرجت مُقتنعة بوجهة نظره، يعود لطبيعته بعد أن خفف عبء ما كان على كاهله جرّاء وفاة أقرب أصدقائه لقلبه وزوج صديقته، فتمدد على الآريكة يُشاهد التلفاز، يداعب الحاسوب؛ تبان مدونات جدّه آدم.
تمت

