
ويبدو لقارئ كتاب "فصول" أنه تعبير عن جهود مضنية يبذلها الكاتب باسم انسان افتراضي لسبر أعماق حالات الفقد والخيبة والإحباط وتبدّد الأوهام، محاولاً أن يبرأ منها كلّها، ولا شفاء؛ فنراه يقول"ولذا أقسمت أمام قبر جدتي/أن أرابط عند القضايا الفاشلة/جمر أناشيد الطفولة يحرق راحتي/أنفخ فيه خوف أن يخبو/وأنتظر/أن يزهر الإسمنت" (ص 134). ولم يخش بشارة من الغوص في مشاعر تختلج في أعماق الكاتب والشخصية التي يتخيلها، ومن البوح بهواجس ومن تشخيص الذات الوجدانية، وهي ليست بالضرورة ذاته، ولكنها ذات تخيلها هذا الكاتب على اية حال. ن... إذ أن الأدب يستل بنيته من الخيال، ومن الحياة، والسيرة قائمة اصلا في كل كاتب وعمل ادبي.. لذا نرى الكاتب وقد أحال تلك التساؤلات الوجودية مراراً على لسان عليّ محمّلاً إياه مهمة تفكيك جدلية الزمان والمكان التي تتكرّر في كل مؤلفاته الأدبية وإن بأشكال مختلفة. فسادت حالة النفي ضمناً معظم النصوص من خلال الحنين ومخزن الذاكرة الذي يكاد يستحيل سر البقاء، ولم ترد كلمة النفي مباشرة سوى مرة واحدة في نهاية الكتاب حين تمسي هي الهوية (ص 167 "اتخذت من النفي هوية").
صحيح أن الكتاب عبارة عن مجموعة نصوص (ستة وعشرون نصاً)، إلا أنها تتمحور معظمها حول عناوين رئيسة ثلاث: العشق والتمسك بصراع الذاكرة والخيبة مع الواقع والنفاق ومواجهة العبث وجها لوجه بالتحديق في عينيه، بالإضافة إلى وقفات ومواقف وجودية وقناعات وخيارات بعد اندثار الأحلام في ظل استهلاكية متوحشة تشمل استهلاك الإنسان والثقافة. تتوحد فيها قيم مُسقطة ومعمّمة كالبضاعة الجاهزة، أمست هي المثال والمرتجى. وغالباً ما تتواشج تلك العناوين في النص الواحد.وفي النص، يتكرّس انتصار الفرد والفردي وحرية الاختيار وأصالة المعايير في مقابل النموذج التسويقي الجماهيري السائد على مستوى الثقافة والحياة، ويعلن انتصار الموقف القِيَمي، والقيمة الجمالية، والعاطفة في مواجهة النفاق الاجتماعي. وتنضح النصوص كلها بحنين وحرية إذ تحطّم الأنماط الثقافية المنتشرة.
وينساب التعبير الإبداعي عن المواضيع المتداخلة تلك، ثرياً ينهل من لغة لا تشبه سواها، ليجعل النصوص أشبه بشريط متتال من الصور والاستعارات الجمالية، قد نجد مراراً صعوبة في اللحاق بها لوفرتها، ولا سيما أنها تترافق مع مفاهيم فلسفية مجرّدة كالقدر والعبثية وغيرها.
نهاية، لا بد من الإشارة إلى أن عزمي بشارة في كتبه الأدبية يقدم تجسيدا جديدا من عصرنا لنماذج من أزمنة حسبناها مضت، وما هي سوى التتمة الطبيعية لكتاباته وممارسته السياسية والفكرية على اختلافها، إذ أن الشخص واحد، والسياسة والإبداع لا ينفي بالضرورة أحدهما الأخر، وإنما على العكس، قد يكون الفن مصدر غنى لا حدود له لكل من يعمل في الشأن العام والقضايا الكبرى والصغرى، وبه يُعلَن تمايزه.