فُــجاءةُ اللحـظاتِ الأخـيرة

2012-07-22
" قراءة في رواية حسن نجمي " جرترود "

وأنت تمضي مع الصفحات المائة الأولى من رواية حسن نجمي " جرترود " - المركز الثقافي العربي 2011 ، يستولي عليك إحساسٌ بأنك داخلٌ أرضاٌ غريبةً ، غربيّةً ، مستطرَفةً إلى حدٍّ ، أرضاً قد تدفعُك إلى التساؤلِ :
لِـمَ ذهبَ حسن نجمي هذا المذْهبَ ؟
لكن الروايةَ ستأخذكَ أخذاً ، بالرغم من تحفُّظِكَ الأساسِ ، لتلقي بك في المهاوي السحيقة ، لعملٍ بلغَ فيه الجهدُ
مبلغَه الأقصى .
أيُّ جلَدٍ امتلكَه المؤلِّفُ ، كي يُلِمّ ، ويجعلَنا نُلِمُّ ، بالشخصية المعقّدة لجرترود ستاين ، مالئةِ الدنيا ، وشاغلةِ الناس في زمانها ، وربما في زماننا أيضاً ؟
البحثُ مُضْنٍ ودقيقٌ . بحثٌ اقتضى السفرَ والتعرُّفَ والمعرفةَ . بحثٌ أكادٌ أشبِّهُهُ بالطريقة العربية القديمة في طلبِ العِلْمِ ، الطريقةِ التي تستلزمُ السفرَ في نشْدانِ المعرفةِ .
والوسائلُ ( الحِيَل الفنّيّة ) متعددةٌ :
محمد الطنجي الذي فهمتُ ، بصعوبةٍ ، أنه شخصيةٌ متخيّلةٌ تماماً .
ليديا ألتمان التي تكفّلتْ بالرحلة النيويوركيّة.
برنار كاشّوه الذي اختار حيَّ الغجر ملاذاً أخيراً.
أمّا الوسيلةُ الأكثر مضاءً فقد تمثّلتْ في إعادة خلْقِ الحياة اليومية الزاخرة لجرترود ستاين.
البورتريت ( بورتريت بيكاسو لجرترود ) كان نقطةً محوريّةً أيضاً في لَــمِّ شتات الأحداث وسيرورتها.
*
ما العلاقة بين محمد الطنجي وحسن نجمي ؟
حسن نجمي ليس من أهل طنجة.
حسن نجمي ليس فارغَ العِيابِ ، مثل محمد الطنجي ، في ما اتّصلَ بالفنّ وأهله ، وأوربا وما فيها .
إذاً :
محمد الطنجي هو مخلوقُ نجمي الأثير .
وهو الأثيرُ لأنه وسيلته الفنّيّةُ الأكثر مَضاءً وإقناعاً.
وهو الحاسمُ ، فكراً ، لأنه مهّدَ السبيلَ أمامَ حسن نجمي ، ليرفضَ الرفضَ الكاملَ الراديكاليّ لِـمُجْملِ
ثقافةِ الغربِ المتعالية المتغطرسة.
*
البورتريت الأصلُ لم يكن في المتروبوليتان.
والأصلُ نفسه ( جرترود ) عاد إلى قوقعةِ قومه الفولاذ.
*
محمد الطنجي انهارَ تحت وطأة الخذلانِ والمهانة .
عاد إلى طنجةَ كسيراً حتى الموت.
لكنه منحَنا ، بموته المؤلم ، حصانةَ ألاّ نموت تحت وطأةٍ مماثلةٍ .

*
" استودعتُكَ وديعتي ، ولقد تعهّدتَ . حسنْ ، لا بدّ أن تكتب كتابَ حياتي . تصرَّفْ كأنه كتابُك ، انتصِرْ لأخيك ! "
*
المخلوقُ والخالقُ توَحَّدا في جرترود الرواية.
لكنّ هذا التوحُّدَ كان مدروساً بدقّةٍ وهدوء ، حتى لقد بدا الدأبُ المتأني ، فُجاءةً ، هي فُجاءةُ الصفحاتِ الأخيرة ، ولم يكن كذلك ، البتّةَ .
النهايات ، كالبدايات ، هي من شُغْلِ كاتبٍ قديرٍ .


لندن 07.11.2011

سعدي يوسف

 شاعر عراقي وكاتب ومُترجم، وُلد في ابي الخصيب، بالبصرة عام 1934. اكمل دراسته الثانوية في البصرة. ليسانس شرف في آداب العربية. عمل في التدريس والصحافة الثقافية . غادر العراق في السبعينيات وحاليا يقيم في لندن ونال جوائز في الشعر: جائزة سلطان بن علي العويس، والتي سحبت منه لاحقا، والجائزة الإيطالية العالمية، وجائزة كافافي من الجمعية الهلّينية. في العام 2005 نال جائزة فيرونيا الإيطالية لأفضل مؤلفٍ أجنبيّ. في العام 2008 حصل على جائزة المتروبولس في مونتريال في كندا . وعلى جائزة الأركانة المغربية لاحقاً

عمل كعضو هيئة تحرير "الثقافة الجديدة".

عضو الهيئة الاستشارية لمجلة نادي القلم الدولي PEN International Magazine

عضو هيئة تحرير مساهم في مجلة بانيبال للأدب العربي الحديث .

مقيم في المملكة المتحدة منذ 1999.

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved