تحل هذه الايام ذكرى رحيل الشخصية الثقافية الفلسطينية، الناقد الدكتور حبيب بولس الذي رحل عنا في (04-07-2012) وهو في قمة عطائه الثقافي . كان من الصعب التصديق ان حبيب قد رحل، رغم معرفتنا بمرضه العضال الذي لم يمهله طويلا . كنا نحلم ان نراه يعود الى كامل نشاطه الثقافي والنقدي في رصد حركتنا الثقافية ومتابعة الإبداعات الأدبية المحلية بقلمه الناصع والمسئول والجاد .
تنوعت الإصدارات الثقافية والتعليمية والسياسية للناقد والمحاضر الجامعي حبيب بولس، ومن أبرز مؤلفاته، "انطولوجيا القصة العربية الفلسطينية المحلية القصيرة" وعشرات الكتب النقدية حول الشعر والقصة والمسرح والكتب الثقافية والتعليمية والسياسية المختلفة التي أصدرها خلال مسيرة حياته، ومن بينها كتابه الرائع "قرويات" الذي يمكن تصنيفه بين الأعمال البارزة والهامة في ثقافتنا الفلسطينية بمضمونه المميز.
أصدر حبيب بولس كتباً نقدية تناولت مجمل النشاط الإبداعي للأدباء العرب في إسرائيل، الى جانب مراجعات ونقد للنشاط المسرحي، عدا كتب تعليمية مختلفة، ونشر كتابين عن قضايا اجتماعية وسياسية ملحة .
تابعت باهتمام نشاط حبيب بولس منذ كتاباته الأولى التي لفتت انتباه حركتنا الثقافية، ثم في إصداراته اللاحقة، وأرى بنشاط الدكتور الناقد حبيب بولس الإبداعي قيمة ثقافية هامة، خاصة بما يتعلق بالثقافة المحلية ( الأدب العربي الفلسطيني في إسرائيل ) الذي كرّس له معظم جهده النقدي، أكثر من أيّ ناقد آخر، والأهم مما ميّز نقده من وضوح واستقامة في الطرح، ويمكن القول ان حبيب بولس بأسلوبه ومضامين نقده، بنى تياراً نقدياً خاصاً . واليوم لا يمكن كتابة تقييم أدبي عن الأدب العربي الفلسطيني في إسرائيل، دون الاعتماد على مراجعات الدكتور حبيب بولس .
اعتنق حبيب الفكر الماركسي الذي أثر على اتجاهه النقدي ولكنه الى جانب الفكر الماركسي كان يتمتع بحس لغوي وذوقي مرتفع جدا، ولم يلتزم بالمفاهيم الدوغماتية للفكر الماركسي، كما برز ذلك بالجدانوفية ( جدانوف كان قوميسارا للثقافة في فترة ستالين، وكانت رؤيته للثقافة لا ثقافية اطلاقا ) بل كان لذوقه الشخصي دورا كبيرا ومتزايدا في تقييماته النقدية .
بعض مقالاته أثارت ضجيجا كبيرا، اذ طرح فيها ظواهر سلبية انتقدها بحدة وسخرية، ولم يشملها حبيب في كتبه . نشرت تلك المقالات في جريدة ألأهالي ( 2000 – 2005 ) التي كنت نائبا لرئيس تحريرها، الكاتب والشاعر المرحوم سالم جبران، الذي قال عنه حبيب انه كان وراء تحوله الى النقد، اذ رصد قدرات حبيب النقدية وحثه على الانخراط في النقد . قال لي حبيب مرات عديدة انه ناقد بفضل "المعلم سالم جبران" كما كان يصفه حبيب .
*******
مراجعة كتاب "قرويات" لحبيب بولس: حتى لا نفقد ذاكرتنا الجماعية
"المفارقات بين واقعنا وماضينا".. هذا ما يتجلّى للوهلة الأولى أمام قارئ كتاب "قرويّات" للدكتور حبيب بولس. لكن الإبحار مع نص "قرويات" يكشف لنا نوستالجيا غير عادية عايشها حبيب بولس في قروياته، مسجلاً تفاصيل بدأت تختفي من أجواء قرانا ومدننا العربية، من علاقاتنا وممارساتنا اليومية، من شوارعنا وبيوتنا، من ألعابنا وتسالينا، ومن وسائل تنقِّلنا، من مدارسنا، من معلمينا، من أفراحنا وأتراحنا، من مفاهيمنا السياسية ووطنيتنا، من مواسمنا وسهراتنا، من أعيادنا وعقائدنا الدينية، من ثقافتنا وفنوننا ونضالاتنا .
التغيير الذي يرصده حبيب كان أعمق من الشكل، لدرجة انه شكل لنا مضامين جديدة، أفكاراً جديدة، رؤية سياسية جديدة، ثقافة جديدة، أطعمة جديدة، بل ولغة جديدة أيضاً في مفهوم معين . كأني به يرصد التاريخ والعوامل "التاريخية" والثقافية التي غيّرت مسقط رأسه، قريته الجليلية "كفرياسيف" بشكل خاص وغيّرت واقع بلداتنا كلها بشكل عام وغيرتنا نحن ( الناس ) في الحساب الأخير. الى حدّ ما تذكِّرني "قرويَّات" حبيب بولس بكتاب للروائي السعودي عبد الرحمن منيف عن مدينة "عمّان".. حيث يعود بذاكرته الى عمّان في سنوات العشرين من القرن الماضي ليعيد تشكيلها .
حبيب في قروياته يرسم "لوحة نثرية" ان صحَّ هذا التعبير، لقرية عَلَمٍ من قرانا، كانت عَلَماً سياسياً وعلماً ثقافياً، وهو بذلك يضيف لها بعداً جديداً، علماً تراثياً أصيلاً، وربما يريد ان يقول لنا ان هذه الأصالة التي عرفتها كفر ياسيف، هي أصالة دائمة لا تنتهي، انما تتحول وتنطلق نحو أصالات جديدة دوماً .
أصالة حقيقية
حبيب في قروياته يريد ان يقول لكل واحد منا ان في داخله أصالة حقيقية، يجب ان يخرجها من داخله ويورثها لأبنائه. وهذا بالضبط ما يفعله حبيب بولس، وهو بالطبع يختار ابنه، ليورثه أصالة أجداده وأصالة قريته، وأصالة شعبه.. يختار ابنه ليورثه أهم ما يملكه الانسان في حياته، ذاكرته الخصبة.. وليملأه بالكرامة وعزة النفس، مقدِّماً نموذجاً شخصياً، استفزازيا لكل واحد منا، ولكنه استفزاز طيب وانساني، يحثنا بسياقه عن الكشف عن جذورنا الأصيلة، عن نقاوتنا، عن قيمنا المغروزة بأعماقنا الانسانية، عن جوهرنا الطيب الذي كان العنصر الحاسم في صيانة شخصيتنا الوطنية والانسانية أمام ما يجري في مجتمعنا من ردّة حضارية، وتعصّبات قبلية وسياسية ودينية حمقاء، هذه هي المفارقة الاخرى التي يصدمنا بها حبيب في كشفه عن جوهر اللؤلؤة المكنونة كفر ياسيف، بصفتها نموذجاً وطريقاً وتاريخاً. هذا النص الأدبي يتجاوز الكتابة التسجيلية التاريخية، ويقترب من النص الثقافي الحكائي، البطل فيه هي قرية كفر ياسيف وأهلها، والهدف حفظ الذاكرة الجماعية لكفر ياسيف، ولعلها الخطوة الاولى لبدء حفظ ذاكرة شعبنا الجماعية في كل أماكن تواجده. "البطل" الآخر في هذا النص هو الراوي نفسه، وكأني به يعود الى الأيام الخوالي، ليتقمّص شخصية الراوي التي عرفتها قرانا وسهراتنا ايام زمان، وليجعل من هذه الشخصية ذاكرة للزمن ايضاً، يستعين بها الراوي- الكاتب لينقل للأجيال الجديدة، ابنه في المفهوم الضيق، وأبناء كفر ياسيف، وكل ابناء شعبنا من الأجيال الناشئة في المفهوم الواسع، أصالة الماضي وأصالة الانسان، وأصالة الشعب وليس فقط الحنين الذاتي ( النوستالجيا ).
نوستالجيا
ربما هي نوستالجيا فعلا، ولكنها نوستالجيا لأبناء جيلنا الذي حان الوقت ليسجلوا ذاكرتهم حفظاً من الضياع . حبيب اختار اسلوباً جيداً ليروي لنا روعة الماضي، عبر المقارنة الدائمة مع الواقع اليوم، وذلك ليعمق، ليس روعة الماضي فحسب، بل روعة الانسان الذي اجتاز المأساة الوطنية وصمد، وواجه القمع القومي بأبشع أشكاله، ولم يفقد بوصلته الانسانية.. وبدأ يبني نفسه من جديد وينطلق الى آفاق رحبة من العلوم والثقافة والتطور والصمود. في قروياته نكتشف حبيب بولس الآخر، حبيب الحالم، نصاً ولغة، فنراه يقترب من لغة القص في سرده، ليتغلب على السرد التوثيقي والتاريخي، ونراه يستطرد في إعطاء النماذج والحكايات ليجعل قروياته أكثر قرباً للرواية والدهشة الروائية وعناصر التشويق الحكائية، وليس مجرد تسجيل توثيقي للذاكرة.
رواية من نوع جديد
وأقول بلا وجل: هي حقاً رواية من نوع جديد بطلتها قرية، بناسها وأحداثها . قد لا يوافقني بعض الزملاء على تصنيفي لقرويات حبيب بولس ضمن النصوص الروائية، قد يكونوا صادقين شكلياً، وأقول شكلياً، اذا التزمنا المفاهيم المتعارف عليها في التعريفات الأدبية. ولكن من يملك الحق في جعل التعريفات قانوناً، وهل يعترف الإبداع بقوننة جنونه؟
الأمر الأساسي، هل من قيمة للتصنيف الأدبي؟ وهل يضيف التصنيف لقيمة العمل؟ ألا يكفي الكاتب، انه أعطى القارىء نصاً لا يفارقه بعد طيّ الصفحة الأخيرة؟ حبيب في قروياته، أعطانا عملاً توفرت فيه العديد من المركبات الناجحة، اللغة اولاً، الفكرة ثانياً، والأسلوب.
كتاب "قرويات" يسد فراغاً كبيراً بمضمونه المميز، وهو ليس مجرد نوستالجيا ( حنين ) بل كشف عن ثراء شعبنا وأصالته وعمق جذوره في هذه الأرض الطيبة . ولعل قرويات يكون فاتحة لتسجيل التاريخ الشفهي، والتراث الشعبي المتوارث شفهياً، وسجل نضالنا الأسطوري الذي يملأ صفحات، اذا ما سجلت ستشكل ثروة اجتماعية سياسية ثقافية، عن بقايا شعب، لم يفقد ثقته بنفسه، واجه المستحيل وانتصر.. واجه الضياع وبنى ذاته من جديد، ليقف اليوم في مرتبة متقدمة بين الشعوب، فخوراً معتزّاً متفائلا.. وأخيرا : ادعو مؤسسات شعبنا الى اعادة طباعة أعمال الراحل خاصة كتابه الهام قرويات لما فيه من نقل للتجربة الحياتية الغنية والمثمرة نضالا وابداعا ادبيا . حبيب خاطب ابنه في نص قرويات، وهو يعني ابناء كل أب وكل ام يعز عليهم ابنائهم ومستقبلهم ووطنهم وكرامتهم.
nabiloudeh@gmail.com