في الفِـلِـبـيــــن

2010-10-19
ستكون الفلبين قريبةً قربَ الخنجرِ والخاصرةِ. مَن أخبرَني وأنا في دمشق ، واقفٌ مع آلِ الجواهريّ العظيم أتلقّى التعازي برحيله ...
أقولُ : مَن أخبرَني ، في تلك الساعةِ بالضبطِ ، أن ولدي الوحيد ، حيدر، قد قضى نحبَه ، في الفلبين ؟
لا أدري كيف عرف نايف حواتمة بالأمر ...
قال لي ، وهو يشدّ على يدي: طريقُنا طويلٌ !
طريقُنا طويلٌ حقاً ، ولسوف يأخذني هذا الطريقُ الطويلُ ، بعد أيّامٍ إلى مطار مانيلاّ.
آنذاك ، كنتُ بعمّانَ ، في فترةٍ شديدةِ الظلامِ من حياتي .وكنتُ أحاولُ التخفيفَ من هول تلك الفترة ، بالتنقّل مكّوكيّاً بين عمّان وعاصمة الشــام العريقة .
ساعدتْني قنصليةُ الفلبين في عمّان بتعجيل منحي تأشيرة دخول ، مع أن اليوم كان عطلةً.

//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/8876a2de-9895-40e4-a89d-71893d358634.jpeg
في مطار مانيلا ، سألوني إن كنتُ أعرف لغة أهل البلد . وحين أجبتُ بالنفي ، اكتفَوا بالسؤال الأول.
أرملة حيدر ، بَينِي ، التي سبقتْ لي رؤيتُها إمّا في نيقوسيا أو تونس العاصمة ، كانت في استقبالي مع فردِ أو اثنين من عائلتها.استقللنا سيارةً متألقةً من ذوات الدفع الرباعيّ ، لتأخذنا إلى قريةٍ بأعماق الفلبين ، حيث يثوي حيدر.
أرى هذه البلادَ للمرة الأولى
ولم تكن لديّ في السابق أيّ رغبةٍ في زيارتِها.
كما أنني لم أكن راضياً عن ذهاب حيدر إلى هناك .
كان هاجسٌ عميقٌ يُلِحُّ عليّ في أني لن أرى حيدر ثانيةً.
كنتُ شبه ذاهلٍ . أرى و لا أرى. الأشياءُ تتبدّى لي ســراباً أو كالسراب. ليس من شــيء حقيقيّ . والشوارع ؟ ليس في غالب الفلبين شــوارعُ . ثمّت مسالكُ كما في عراق الثلاثينيات. قنواتٌ ومَناقِعُ رزٍّ وجواميسُ والخيزران الجسيم. السيارة تَدْرُجُ لكني أراها تعوم.
نبْلغُ القريةَ الموعودةَ .
كأني أرى قوماً يحتفلون !
بل كانوا يحتفلون ، فعلاً ، ويلعبون الورقَ ، تحت الشجر.
تأخذني " بَيني " إلى حيدر. أرى ولدي ممدّداً، صبيحَ الوجه ، ينامُ عميقاً . التابوتُ ذو غطاءِ زجاجٍ. كأني رأيتُ بعوضةً دقيقةً على وجه حيدر . كيف أُبعِدُها ؟
تذكّرتُ ، بعد طول نسيانٍ ، سورةَ الفاتحة . تلوتُها ســرّاً كأني أزمزمُ في بيتِ نارٍ .
قلتُ للقوم: توقّفت مراسيمُ الدفن.
لن يدفَنَ ، كاثوليكيّاً ، في مقبرة البلدةِ .
سآخذه معي إلى دمشق.
حيدر ، يثوي الآن ، قرب هادي العلوي ، والجواهري ، في مقبرة الغرباء ، بالسيدة زينب .

حيدر سعدي يوسف 1964 البصرة-1995 الفلبين
يتوسّط شيراز من اليمين ومريم من اليسار
التقطت الصورة في تونس العاصمة عام 1990

سعدي يوسف

 شاعر عراقي وكاتب ومُترجم، وُلد في ابي الخصيب، بالبصرة عام 1934. اكمل دراسته الثانوية في البصرة. ليسانس شرف في آداب العربية. عمل في التدريس والصحافة الثقافية . غادر العراق في السبعينيات وحاليا يقيم في لندن ونال جوائز في الشعر: جائزة سلطان بن علي العويس، والتي سحبت منه لاحقا، والجائزة الإيطالية العالمية، وجائزة كافافي من الجمعية الهلّينية. في العام 2005 نال جائزة فيرونيا الإيطالية لأفضل مؤلفٍ أجنبيّ. في العام 2008 حصل على جائزة المتروبولس في مونتريال في كندا . وعلى جائزة الأركانة المغربية لاحقاً

عمل كعضو هيئة تحرير "الثقافة الجديدة".

عضو الهيئة الاستشارية لمجلة نادي القلم الدولي PEN International Magazine

عضو هيئة تحرير مساهم في مجلة بانيبال للأدب العربي الحديث .

مقيم في المملكة المتحدة منذ 1999.

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved