في زمن الجائحة/البحث العلمي يعود كموضوع للمساءلة

2021-11-26

الاستثمار في البحث العلمي ..استثمار في التنمية

  • تقوم مؤسسات التعليم العالي والجامعي خصوصاً بدور أساسي هام في تحريك عجلة التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، من خلال الوظائف المتعددة التي يؤديها النظام التعليمي الجامعي عبر تأهيل الموارد البشرية القادرة على انتاج المعارف التي يتم تطبيقها في مختلف مجالات الحياة النشيطة، ولقد تزايد الإهتمام بموضوع ربط وظائف التعليم العالي الأساسية بمجالات التنمية لدرجة أن تقويم فعالية هذا النظام أصبح يعتمد اعتماداً كلياً على مدى ملاءمة أهدافه لمتطلبات التنمية الشاملة في البلد الذي تمارس فيه هذه المؤسسات وظائفها ومدى قدرته على مواجهة التحديات التي تفرزها عمليات التنمية .

أن الجامعات ومؤسسات التعليم العالي تمثل القيادة الفكرية والعلمية في المجتمع لما يتوافر لديها من كوادر مؤهلة تأهيلا عالياً على التعامل مع المشاكل والتحديات التي تمر بها المجتمعات المعاصرة، ولقد اعتبرت Epifania r.Resposo أن الجامعة تمثل (مجتمعاً علمياً يهتم بالبحث عن الحقيقة وأن وظائفها الأساسية تتمثل في التعليم والأبحاث وخدمة المجتمع)، وهي بالتحديد الوظائف الرئيسية التي تمارس الجامعة من خلالها خدماتها مما يعني أن هناك علاقة بين هذه الوظائف من جهة والتنمية الشاملة من جهة أُخرى .

  • ان التنمية الشاملة التي تكون وراء تقدم أُمة من الأُمم إنما تنبع من الحجم الهائل للمعارف التي تنتجها في ميادين العلوم والهندسة والتكنولوجيا ومدى اهتمامها ببيئة الابتكار والتجديد باعتبارها منبعاً لإنتاج هذه المعارف . وعلينا أن ندرك أن التفوق العالمي للغرب أو الصين أو اليابان.. إنما يعتمد بدرجة كبيرة على الإبداع التكنولوجي وزيادة الاستثمار في البحوث العلمية الأساسية وتوسيع سوق المعرفة التقنية وتعظيم دور وإسهام الجامعات والمعاهد العليا ...مع الإهتمام الدائم والمتجدد بتمويل البحوث العلمية والإصلاح التعليمي وتنشيط العمل وأسواق راس المال وحيوية البيئة التجارية ... كل هذا وذاك جعلها تحافظ على ميزتها المتقدمة وتبقيها متفوقة في كافة المجالات .

ولقد استطاعت هذه الدول المتقدمة بواسطة البحث العلمي تحقيق مكتسبات مثيرة للأعجاب في التكنولوجيات المتقدمة : التكنولوجيا الحيوية- برمجيات الاتصالات – الليزر- تكنولوجيات الفضاء – الادوات العلمية– الحواسيب–عالم الطيران – أجهزة الاتصالات –– الاختراعات الطبية والصيدلية من اللقاحات والعقاقير..

لا يخفى على أحد أن أغلب هذه الإنجازات التكنولوجية التي تم تحقيقها على الصعيد العالمي كان مصدرها الجامعات ومراكز البحوث العلمية التابعة لها . وكل الأبحاث التي قامت بها الجامعات عبر التاريخ كان لها أثر كبيرعلى التنمية في مجالات عدة كالزراعة والصناعة والطب والخدمات العامة، بالإضافة إلى جوانب أُخرى من المتطلبات الإنسانية . وعلى الرغم من أن عدداً مهماً من مراكز الأبحاث قد أُنشئ بصفة مستقلة عن المؤسسة الجامعية وعلى نطاق عالمي تقريباً فان الابحاث الجامعية لا تزال إلى حد بعيد أكثر أهمية وأكثر دقة من غيرها وهي تواصل نموها وتقدمها .

البحث العلمي والتكنولوجي  في مواجهة الحرب الوبائية

بعد ظهور وانتشار وباء كورونا "كوفيد19" باتت الحاجة ملحة إلى دور البحث العلمي في المجتمع، لذا التجأت الحكومات والدول إلى الجامعات وإلى المختبرات الجامعية  من أجل التوصل إلى حلول ناجعة لمجابهة الفيروس المدمر للإنسان والحياة، ليعود من جديد الاهتمام بالبحث العلمي وقدرة أصحاب الخبرات والكفاءآت والمهارات على إنقاد الناس والمؤسسات من الأزمات والإفلاس ... إن البحث العلمي أصبح وكأنه جزءاً لا يتجزأ من الأمن القومي .

بعد أن تفشى وباء كورونا المستجد في كل دول العالم، وحاصر الحياة وهدد الأمن الصحي، بل الوجود الإنساني، انتفضت مؤسسات البحث العلمي وانخرطت في الحرب ضد الفيروس القاتل عبر أجراء بحوث علمية مكثفة مستخدمة التكنولوجيا والتقنيات المتطورة، لتبدأ بعد ذلك خطط وقائية محلية ودولية  ترجمت لاستراتيجيات فاعلة لمواجهة الوباء، كما أن المنظمات العالمية مثل اليونيسكو والصحة العالمية انخرطت في التصدي لهذا الوباء "الاممي" القاتل  قبل فقدان السيطرة عليه، مؤكدة أنه ( ينبغي للعلوم أن تساهم مساهمة كبيرة في تمكيننا من التغلب على الأزمة الراهنة الناجمة عن جائحة كورونا وفي مساعدتنا على بناء مجتمعات أكثر عدلاً وانسانية واستدامة ) اودري ازولاي –المديرة العامة لليونيسكو –بمناسبة اليوم العالمي للعلوم من أجل السلام والتنمية .

 ودعت منظمة اليونيسكو إلى وجوب الإحتفاء والإهتمام بالعلم والعلماء في المجتمعات المستدامة، لأنه لابد من تثقيف المواطنين واشراكهم في العلوم، و شددت المديرة العامة لليونيسكو على ضرورة أن تؤدي الأزمة الراهنة إلى إيجاد قناعة تامة تقطع الشك باليقين بضرورة تلبية الحاجة العاجلة إلى تحسين تمويل ودعم البحث العلمي والتعاون في الميادين العلمية من العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية والإنسانية ، لان الفيروس تسبب في إيجاد واقع اجتماعي جديد لا يمكن اختزاله في البيانات الوبائية فقط، فالعلوم عليها أن تساهم مساهمة فعّالة في تزويدنا بالمعلومات اللازمة للوقوف على كيفية مكافحة هذه الجائحة وستؤدي مراعاة المعارف العلمية إلى سن سياسات عامة وإلى تعزيز فعّالية هذه السياسات التي عليها أن تكون سياسة إنسانية، أي تسخير الابتكارات العلمية في هذا المجال لصالح الناس كافة  وتحوير هذه الابتكارات لتأخذ رؤية إنسانية .

إنه منذ ظهور فيروس كورونا المستجد في ديسمبر 2019، والحديث لا يتوقف من جانب الباحثين والخبراء حول تداعياته المستقبلية على كافة مناحي الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية والامنية الى درجة أن ( عالم مابعد كورونا) بات مصطلحاً دارجاً يتم تداوله على نطاق واسع في إشارة إلى التحولات التي قد تحدث في المستقبل نتيجة هذا الوباء المتفشي في العديد من دول العالم .

إن الاستراتيجية المستقبلية تتطلب التركيز على قطاعات الصحة والتكنولوجيا والأمن الإنساني والغذائي، كما أن مستقبل الاقتصاد يتوقف على مدى التطور الذي نحققه في مجالات الطب والهندسة والتكنولوجيا بكافة فروعها العلمية .

في هذا الشأن نستحضر إعلان وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي – قطاع التعليم العالي والبحث العلمي –قرارهابتمويل 88مشروعاً من مشاريع البحث العلمي ذات الصلة بوباء فيروس كورونا المستجد، وهذه المشاريع تم تمويلها بشراكة مع الجامعات المغربية، اضافة إلى مشاريع أُخرى حصلت على الرأي الإيجابي من طرف الاقطاب الجهوية الجامعية الأربعة والتي تم تقييمها من طرف خبراء المركز الوطني للبحث العلمي والتقني .. وهذه المشاريع منها ما يهم المجالات العلمية والطبية والتكنولوجية، كما أن منها ما يهم مجلات العلوم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية ... وكلها حسب بلاغ الوزارة تتوخى الإستفادة من نتائجها في مواجهة جائحة كورونا .. فهل تحققت الأهداف المسطرة من هذا البرنامج .. وليس فقط وضع الأختام الرسمية على أوراق مشاريع الأبحاث العلمية ؟؟؟

دور البحث العلمي في مجتمعنا وجامعاتنا

في بلدنا عهد بمهمة القيام بالأبحاث العلمية في مجالات مختلفة إلى المؤسسات الجامعية وإلى المراكز البحثية التابعة لها، وذلك لسببين رئيسيين أولهما أن المؤسسة الجامعية تتوافر لديها الموارد العلمية والبشرية القادرة على القيام بنشاطات الأبحاث المرتبطة بحاجات التنمية في مجتمعنا، وثانيهما أن الجامعات الوطنية تعد المؤسسة الوحيدة التي يمكن عن طريقها القيام بنشاطات الأبحاث بصورة انضباطية والتي يمكن أن تقدم الخدمة الاستشارية التي تحتاجها قطاعات المجتمع المختلفة .

منذ تشكلت مؤسسات التعليم العالي ومراكز البحث الجامعية وإلى اليوم أمسكت الدولة بزمام إدارتها ورسم سياساتها وتقرير مصيرها وأنفقت عليها من المال العام، وهي واعية أن البحث العلمي والتقني لهما أهمية كبرى في استراتيجيتنا الوطنية التنموية، وأصبح هذا الوعي مترجماً تدريجياً على أرض الواقع من خلال تغييرات مهمة عرفها البحث العلمي الوطني على مستوى تنظيمه وتمويله، وهكذا بدلت مجهودات كبيرة فيما يخص إدارة وتسييروهيكلة وتمويل وتجهيز وتوجيه وتخطيط  البحث العلمي والتقني، وكذلك فيما يخص ملاءمته مع حاجياتنا الإجتماعية والاقتصادية من قبيل تقوية تقارب البحث العلمي العمومي  من عالم المقاولة .

ورغم هذه الجهود التي بُذلت تنظيمياً وادارياً وتشريعيا ومالياً، فإن المغرب مدعو إلى الاستثمار بشكل متزايد في مجال البحث العلمي، أولاً لإيجاد الحلول العاجلة للمشكلات الخاصة بالحياة الاقتصادية والاجتماعية والانسانية من قبيل ندرةالمياه، والتصحر، والاستغلال المفرط للموارد الطبيعية، وانتشار الاوبئة والأمراض المزمنة .. وثانيا لمواجهة تحديات العولمة بجميع تلويناتها (ظهور مجتمعات تكنولوجية عالمية مهيمنة وكاسحة..) .

إن المجهودات التي بُذلت من طرف السلطات الحكومية المكلفة بالبحث العلمي، لم تمكن من بروز نظام وطني حقيقي للبحث كرافعة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ولرفاهية وجودة حياة المواطنين  كما لم تتمكن من بناء نظام وطني فعّال للبحث العلمي . (المنتدى الوطني للاصلاح) .

إن المغرب يتوفر على طاقات كبيرة في مجال البحث العلمي تشتغل في جامعاتنا الوطنية، وفي مختبراتها البحثية، أوفي مراكز وطنية للبحث العلمي والتقني، وفي معاهد علمية ومعاهد الدراسات والأبحاث، و في الأكاديميات العلمية كأكاديمية الحسن الثاني للعلوم والتقنيات، أوغيرها من المؤسسات العلمية والبحثية، يجب أن تعطى لها فرصة ثمينة لتجدير البحث في التنمية الاقتصادية والاجتماعية وفي تحقيق الأمن الصحي، فالأوراش الكبرى التي فتحت في البلد ( الطاقات المتجددة –الاكتفاء الغذائي –الاقلاع الصناعي - ..) تكتسي أهمية بالغة لتشييد نظام وطني للبحث من الضروري متابعتها وتوسيعها، وحان الوقت لنعطي للبحث العلمي دوراً ذاتيا من خلال سن سياسة علمية وطنية، والكف عن اعتباره كمنتوج ثانوي للتعليم العالي، أو كأحد عناصر المناولة للعلم العالمي، لأنه آن الأوان بالاعتراف بالبحث كوظيفة وبالإرتقاء به ليصبح نظاماً وطنياً .

إن البحث العلمي في مجتمعنا وجامعاتنا يمر بظروف صعبة، وربما ذلك راجع إلى قلة الوعي بالبحث العلمي، فمنا من لا يشعر أنه في حاجة إلى البحث العلمي ...وكأن البحث العلمي ليس في ازمة فقط، وإنما جوهر المشكل من الناحية الواقعية أنه ليس هناك من هو في حاجة إليه ؟؟؟

فلماذا البحث العلمي متعثر أو في أزمة؟ وأين تنبع ازمات هذا البحث ؟

  • عدم ( هيكلة قطاع البحث العلمي والتقني وتنظيمه، بما يوفر التنسيق ال امثل بين وحداته، ويؤسس للحكامة المسؤولة لمختلف مكوناته، ويضمن ترشيد الموارد ويرفع من ال غنجازية والمردودية)

الرؤية الاستراتيجية – المادة 88

ان المشكل الأول ينبع من التشريع،ونقصد بذلك القوانين والاجراءآت الإدارية التي يجب أن يكون فيها الحرص على تحقيق الأهداف المنشودة من تطوير البحث العلمي والإرتقاء به لمواجهة التحديات وبناء السياسات الوطنية في مجال التنمية الشاملة، وليس فقط الحرص على التقيد بالنصوص القانونية، فالمهم ما ينتجه الباحث وليس ما ينبغي أن يتقيد به .

  • ضعف مستوى التمويل، حيث أن ميزانية الدولة المخصصة للبحث العلمي غير كافية، وغير منتظمة، وغير منتجة للقيمات المضافة وللثروات، إذ لا يمكن لميزانية تسيير المؤسسات الجامعية والتي تخصص نسبا مئوية ضعيفة للبحث العلمي أن تبني نظاماً وطنياً للبحث، أو أن تساهم في النهوض بثقافة علمية رائدة . فهل يعقل أن بعض عقود البحث تأتي نتيجة مبادرات شخصية للأساتذة الباحثين وبتمويل خاص ؟؟. منذ عقود وقادة المجتمع العلمي يطالبون برفع النسبة المخصصة للبحث العلمي والتربوي من الناتج الداخلي الخام إلى 1%، وكان هذا المطلب حاضراً في وثيقة الميثاق الوطني للتربية والتكوين لكنه لم يفعّل، وجاء مشروع الرؤية الاستراتيجية ليرفع " حسابيا " من هذه النسبة حين دعا إلى (الرفع التدريجي من نسبة الناتج الداخلي الخام المخصصة لتمويل البحث العلمي لكي ترقى إلى نسبة 1% في المدى القريب، و1.5% في 2025 و2%في 2030،مع التوجه نحو تنويع مصادر تمويل البحث بمؤسسات التعليم العالي) المادة 88 – الفقرة ب

كما انعدم وجود استقلالية مالية لمراكز البحوث يعني أن الجهة المركزية التي تمول البحث هي التي تفرض شروط الصرف وقواعد العمل والطريقة التي تراها مناسبة لإنجاز المهام ولهذا فان عملية البحث لا يمكن أن يكون لها معنى إذا لم تكن مراكز البحوث مدعومة من الجهات الممولة للبحث .

  • مشكل الخلط بين البحث العلمي في مجال العلوم الطبية وعلم الأحياء والرياضيات والهندسة من جهة والعلوم الإنسانية بصفة عامة من جهة أُخرى حيث هنا فرق شاسع بين مكونات وطرق البحث في مجال العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، فاذا كانت الأُولى تحتاج إلى مختبرات لفحص العينات وإجراء التجارب فان العلوم الانسانية تحتاج إلى مراكز أبحاث لفحص وتحليل الوثائق وتحديد السلوك الإنساني كما تحتاج إلى وثائق ومعلومات وحقائق ميدانية أكثر مما تتطلب مواد كيماوية او أجهزة دقيقة .

كما أنه لا يجب تفضيل البحث التطبيقي على البحث النظري، وإن افتراض التناقض بين البحثين هو افتراض خاطئ، فلا بحث تطبيقي إذا لم يرفق ببحث نظري، بل إننا نطلب البحث حتى ولو كان دون هدف تطبيقي ظاهر لأننا نعتبره إنمائيا بذاته، ولأنه يساهم في خلق مناخ البحث ويوفر النبع الذي يغرف منه الباحثون التطبيقيون .

  • عدم وجود ميزانيات كافية لنشر المجلات العلمية، وعدم وجود مجلات علمية متخصصة ورائدة تصدر بانتظام مما يجعل باب الشهرة العلمية مغلقاً في وجه الباحثين والدارسين والمبدعين فيضطرون للتوجه نحو المجلات العلمية في الخارج لنشر أبحاثهم ودراساتهم فتعطى لهم هناك الفرص المغرية لنشر إنتاجهم العلمي ونفس الملاحظة يمكن قولها بالنسبة للحصول على المعلومات الحديثة والنظريات المستجدة في مجال أي تخصص حين يضطر باحثونا إلى الإطلاع عليها في المجلات والدوريات التي تصدر في الخارج ...إن قلة العناية بنشر المعرفة العلمية والتعريف بالإنجازات العلمية والمعرفية للباحثين المغاربة يزيد من تقوقعنا وقحطنا العلمي .
  • غياب هيكلة وتنظيم مؤسساتي يقوي العلاقة بين مراكز البحث المنتمية للقطاع العمومي أو الحكومي وتلك المتواجدة في القطاعين الخاص والشبه العمومي لخلق آليات وأشكال محفزة للشراكة والتكامل ، وليس التحفيز الضريبي للمقاولات التي تنتج أبحاثاً ذات أهمية اقتصادية واجتماعية كما جاء في وثيقة الرؤية الاستراتيجية للإصلاح 25ـ30 ( المادة 88- الفقرة ب) .
  • عدم وجود توازن بين مهام التدريس، ومهام الإشراف على البحوث العلمية،وهذا لا يعني الدعوة إلى تفرغ الأُستاذ الجامعي لينصرف من التدريس إلى البحث العلمي سعياً إلى تقدمه الوظيفي وزيادة راتبه، وهذا ما قد يعطي صورة مبخسة عن التدريس الجامعي وكأنها وظيفة هامشية؟ ليس هذا قصدنا، وإنما علينا النظر إلى الأُستاذ الجامعي والتدريس الجامعي كمسؤولية ووظيفة انمائية تساعد على نشر المعرفة والوعي العلمي، وفي نفس الآن تناط به مسؤولية الأبحاث التي تعد الأداة الرئيسية لإثراء المعرفة وتقدمها .

إنهم أساتذة و مؤطرون، مفكرون وباحثون، مجال عملهم إثراء المعرفة وادارة العمل الأكاديمي والبحث العلمي .

 بدون هاتين الوظيفين المتلازمتين والمتكاملتين، قد يتحول الأُستاذ الجامعي إلى موظف أجير يؤدي وظيفة اعتيادية داخل المدرج، أو في المختبر الجامعي، فينصرف إلى "النضال النقابي " مما يسهل على السلطة القائمة أمر التحكم في نخبة المجتمع .. فيتدنى الأداء الاكاديمي للجامعة، ويسود المفهوم التقليدي والنمطي للأبحاث فنسارع بعد ذلك إلى الخبرة الأجنبية  نطلب مشورتها وكأن بلدنا خالية من الكفاءآت المؤهلة، وجامعاتنا تبقى سوقا استهلاكية للأبحاث الاجنبية ..

لابد من إعادة تقييم الوضع للتخلص من المشاكل التي أتينا على ذكر بعضها، والتي حولت مراكز الأبحاث إلى مكاتب للتسجيل والتوثيق  وحولت الجامعات إلى مؤسسات للتوظيف .

لابد من إعطاء الأولوية للجامعات والمعاهد العليا كي تساهم في جعل نواتج كل العلوم منافع حقيقية مشتركة تساهم في تحقيق التنمية المستدامة  لمجتمعنا، وهذا ما لا يتأتى إلّا بعد حصول تغيير في عقلية الجامعات وسياساتها التي يجب أن تركز أساساً على تعظيم إسهاماتها على الصعيد العلمي، وحجم المعارف التي تحشدها هذه الجامعات لطلابها وأُطرها و مؤطريها وباحثيها وقادتها من رواد الفكر والعلم .

لابد من توسيع نطاق التمويل الحكومي، والتمويل الخاص للبحوث العلمية، فنحن بحاجة ماسة الى الأبحاث الاساسية والتطبيقية التي تجريها الجامعات الوطنية، غير أن الصعوبات التي تواجه القيام بإجراء مثل هذه الأبحاث كبيرة للغاية، ولضمان نجاح هذه الأبحاث العلمية يجب أن تمنح هذه الجامعات الدعم المادي وأن يتوافر لديها التسهيلات المناسبة، وأن تتمتع بقدر كاف من الحرية الأكاديمية .

هذه الاجراءآت والتوصيات ملحة واستعجالية، لأن القرن الحالي هو قرن لتسابق جنوني نحو إنتاج المعارف، الشيء الذي يحتم على بلدنا إيلاء أهمية كبرى للبحث العلمي والتقني في استراتيجياتها الوطنية التنموية، وارتباطا بما سبق جاء الميثاق الوطني للتربية والتكوين وخصص الدعامة الحادية عشرة "لتشجيع التفوق والتجديد والبحث العلمي"،ثم تلاه مشروع الرؤية الاستراتيجية للإصلاح 2015- 2030 وخصص حيزاً لهذا الجانب في الرافعة الرابعة عشرة تحت عنوان "النهوض بالبحث العلمي والتقني والإبتكار" وأهم ما جاء في هاتين الوثيقتين المؤطرتين في باب تشجيع الإبتكار والبحث العلمي :

  • توجيه البحث العلمي والتكنولوجي نحو البحث التطبيقي والتحكم في التكنولوجيات وملاءمتها مع دعم الابداع فيها – الفقرة 125
  • إخضاع البحث العلمي والتقني لنمطين من التقويم، داخلي وخارجي – الفقرة 127
  • الرفع التدريجي من الإمكانات العمومية والخاصة المرصودة للبحث العلمي والتقني – الفقرة 128
  • تطويرثقافة المقاولة والتدبير والإبداع في مؤسسات البحث والتكوين ..وتشجيع البحث التنموي والنهوض بمستواه – الفقرة 129
  • تشجيع محاضن للمقاولات المبدعة داخل بعض مؤسسات البحث والتكوين والتي من شانها تمكين الطلبة والباحثين انشاء مقاولات بناء على نتائج أبحاثهم – الفقرة130

صحيح أن الميثاق الوطني للتربية والتكوين قد أكد على ضرورة وجود سياسة حكومية واضحة المعالم والأهداف، سياسة تتأسس على تخطيط يحدد الاولويات ويرصد الوسائل اللازمة ويرتكز على اليات التقويم والتثمين، كما طرحت الوثيقة ضرورة التنسيق والتكامل بين التعليم العالي ومؤسساته العمومية والقطاع الخاص من منظور برنامج وطني للبحث العلمي والتربوي، وهي نفس الاقتراحات التي اعيد عرضها في الرؤية الاستراتيجية، هادفة الى (تطوير البحث العلمي والارتقاء بإنجازاته بغاية مواجهة التحديات التي تعرقل السياسات الوطنية في هذا المجال ورفع الرهانات المجتمعية والدولية) الفقرة88

لكن الواضح ان مجتمعنا وجامعاتنا وحكوماتنا  لم تتمكن بعد من تطوير هذا الجانب الذي اصبح من الركائز الاساسية لعمليات التنمية الحديثة ، وهي التنمية التي تحتاج الى استخدام العلم ووسائل وادوات التكنولوجيا المتطورة... والازمة الراهنة تدفعنا الى الاقتناع واليقين  بضرورة تلبية الحاجة العاجلة الى تحسين تمويل ودعم البحث العلمي بجميع اصنافه من العلوم الدقيقة والعلوم الاساسية والعلوم الانسانية والاجتماعية بعد ان افضى هذا الفيروس اللعين الى ايجاد واقع اجتماعي جديد " لا يمكن اختزاله في البيانات الوبائية فقط" وانما عن طريق نشر ثقافة علمية  تقوم على اعداد (مواطنين واعين ومسؤولين يشاركون في اتخاد القرارات بطريقة جماعية )،وبالعلم لا نمكن البشر من التفوق على الذات وانما ( يساعدهم العلم على جمع شملهم وتمكين من يتخلف منهم عن الركب من اللحاق به )، وهذه رسالة وجهتها مديرة اليونيسكو اثناء الاحتفال باليوم العالمي للعلوم من اجل السلام والتنمية، وفيها اشارت الى ابتلاء مجتمعاتنا بجائحة فيروس كورونا المستجد مما يتطلب ان نضع نصب اعيننا دور العلم والعلماء في المجتمعات المستدامة، وحاجتنا إلى تثقيف المواطنين وإشراكهم في العلوم، مع إظهار أهمية العلم في معايش العامة، بعد ان أحدثت جائحة فيروس كورونا المستجد التي أصابت العالم بحالة من الشلل وحولت دوله إلى جزر منعزلة، إنها تدعونا إلى أن نحول هذا التحدي إلى إمكانية لبناء مستقبل أفضل بفضل البحث العلمي الذي هو ضرورة مجتمعية وإنسانية ملحة، إلى درجة أنه أصبح في أعلى مرتبة في سلم الأمن الإنساني

إذن، لأجل الإستمرار في الحياة لابد من تقوية المؤسسات العلمية الجامعية وغير الجامعية العمومية والخاصة، وزيادة قدراتها المادية والبشرية، و دعم وتقوية وتمويل أنشطة البحث العلمي لأجل نشر الوعي العلمي بين جميع فئات المجتمع، وإعادة استقطاب الأدمغة العلمية التي هاجرت إلى الخارج وتشجيعها على الخلق والغبداع .

إن وجودنا واستمرار حياتنا تبقى موضوع تهديد، فالأمل بعد الله تعالى في العلم والإبتكار العلمي قصد تحسين جميع جوانب الحياة. شرط مزاولة هذا العلم في إطار اخلاقي وانساني مشترك . 

                                                    ذ. محمد بادرة

الدشيرة الجهادية

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved