رحم الله الشاعر عبد الامير الحصيري، كان يبيع سروالا باليا اسودا ليشتري به الخمر، ثم ليسترد البنطلون الاسود في اليوم الثاني ليبيعه مرة اخرى وليشتري به خمراً، وهكذا...عندما كان عبد الامير يفتح (قنينة عرق التمر البغدادية) كانت تجتاحه هزة من الانشراح، فيبدا بالتمايل وهو ينشد ويصيح (فيضي دنان الخمر فيضي). في آخر يوم من مسيرته في هذه الدنيا الفانية، فتح عبد الامير (ربعية عرق العصرية) وبدأ يتمايل وهو ينشد (فيضي دنان الخمر فيضي). وعندما انهى زجاجة بنت الحان حتى آخر قطرة فيها، كان عبد الامير الشاعر قد ولج باب الابدية وهو ينشد فيضي دنان الخمر فيضي على الرصيف ونام نومته الاخيرة، فاضت روحه الى الله وهو مخمور. تاركا سروالا رثا وثوبا وحذاء قد تهرى، فتشوا جيوبه فعثروا على افلاس معدودات احصوها فكانت خمسة افلاس نيكلية بالتمام...ترك عبد الامير شعرا وخمسة افلاس، ثم رحل. بعدها رثته السماء وبكت باحر الدموع... ثم القت وابلا من المطر ثم طلا ثم اشرقت الشمس من جديد.
الشاعر العراقي عبد الأمير الحصيري، عرفته في الستينات في عهد عبد الكريم قاسم يوم كانت محلة الحيدرخانة وفيها مقهى الزهاوي، المقهى الذي كان يعرف بمقهى الحيدرخانة، كانت حدود محلة الحيدرخانة في الخمسينات والستينات وما قبلها مملكة الادباء والشعراء المتسكعين، فيها يجلسون في هذين المقهيين يدخنون ويقرأون الجرائد مجانا او مقابل بضع افلاس يعطونها لموزع الجرائد في مسعى لقراءة جميع الصحف التي كانت تصدر آنذاك، كان اكبرها يصدر في ثمان صفحات واصغرها في اربع صفحات. كان النقاش بينهم يجرى هادئا او محتدا لكن صاحب المقهى يكون مسيطرا وكان بعضهم لا يحمل في جيبة غير افلاس معدودة وكان سعر الشاي في المقهى عشرة فلوس فيشرب الشاي ويبقى جالسا عشر ساعات.
كنت انذاك املك مطبعة الشباب التي شاركني فيها الشيخ عبد الجبار الاعظمي. وهي المجاورة لمقهى الزهاوي حيث كان الكثير من جالسي المقهى يدخلون المطبعة لقضاء حاجاتهم الاساسية، اذ لم يكن في المقهى ( بيت ماء ) فكانوا يتسللون الى المطبعة، كان ذلك بلاءً لم استطع منعه اذ كانوا في اشد الحاجة لكي يفرغوا مثانتهم، وربما كان بعضهم مصابا بتضخم البروستات اذ كانوا في ذاك الزمن يجهلونها حتى قادة التاريخ الاشاوس ماتوا من البروستات دون ان يدروا بعد ان سبوا النساء وعاشوا متمتعين بالجواري الحسان وكان قسما منهم مصابا بالعنة لانهم انهكوا بروستاتهم، عفوا سيداتي سادتي فقد خرجت عن الموضوع. على اي حال فقد كان الشاعر عبد الامير الحصيري المتشرد واحدا ممن يريد دخول مرافق المطبعة ثملا و في حالة يرثى لها وكان بعد ان يقضي حاجته اجلسه في غرفة الادارة واطلب له شايا واحادثه وكثيرا ما كنت اقدم له بعضا من النقود منبسطا.
كان الشاعر عبد الامير الحصيري منذ طفولتة نابها، مالكا ناصية اللغة والتعبير، وكان يحرج اساتذة اللغة العربية حين كان في المرحلة المتوسطة، نهل من التراث الشعري واتقن قواعد اللغة معتمدا سيبويه تعني (ريح التفاح) ونفطويه اللذان كانا ركنان من اركان اللغة العربية على الرغم من أعجميتهما ربما كانا من الفرس او السريان لان السريانيين اتقنوا اركان لغتهم السريانية لهذا اغنوا لغة العرب لغة الضاد لان الذين حملوا سيوفهم اليمانية وفتحوا الامصار والبلدان كانوا قوما من سكنة الخيام .
نشأ الشاعر عبد الامير الحصيري في مدينة النجف المغلقة على الماضي تاركا تراثها الديني الى التراث الادبي والشعري. قرض الشعر منذ صباه وفي المرحلة الإعدادية اصدر مجموعته الشعرية الأولى (أزهار الدماء)، وشارك في ندوات شعرية عديدة في مدينة النجف وكان الجميع يتوقعون له شأناً شعرياً وأدبياً ومعرفياً كبيراً في أوائل الخمسينيات التي شهدت ثورات ونهضات الشعر ابتداءً من بدر شاكر السياب ولميعة عباس عمارة حتى نزار قباني لكنه بقي على خطه الكلاسيكي ولم يلجأ الى النثر الشعري او النثر المشعور الذي اسميه وكانت الشاعرة جاكلين سلام لا ترتاح مني بسبب هذه التسمية.
في مطلع الستينات هجر الحصيري النجف واستقر في بغداد فاشتغل في إحدى المطابع وتعرّف على الكثير من الشعراء حسين مردان وسعدي يوسف والجواهري الذي ساعده على العمل في مكتبة اتحاد الأدباء، لكنه لم يستقر على حال فكان مأواه المقاهي والشوارع خاصة مقهى البرلمان محطته، كان يزور الصحف محاولا العمل فيها لهذا فان الوحدة والغربة دفعته دفعا الى الادمان في شرب الخمر ثم التشرد لهذا أراد أن يكون ربا للخمرة اما حسين مردان فكان ربا للمرأة، لهذا يقول (وها أنت قد أصبحت للخمر ربها وأصبحت للأقداح ترعتها الكبرى). وكان يقول عن اندفاعه في حياة الصعلكة (أنا عروة بن الورد، شيخ صعاليك أزمنة الأرض).
اشبه الشاعر عبد الامير الحصيري بالشاعر على بن الجهم الذي كان يهيم في البراري وعندما قابل الخليفة المعتصم في بلاطه في بغداد قال له (انت كالكلب في حفاظك للود وكالتيس في قراع الخطوب) لكن المعتصم لم يحقد على على بن الجهم بل ابقاه في بغداد فلما استقر فيها متمتعا بطيب العيش وحسان بغداد قال (عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث ادري ولا ادري). فالشاعر عبد الامير الحصيري جاء من النجف الصارمة التقاليد حيث كانت الخمور تباع سرا، ولاشخاص موثوق بهم. اما الجميلات فكن محجبات من اخمص الرأس حتى القدم. وهذا يذكرني بنكتة لصديقي منذ اكثر من 50 عاما، صديقي الصدوق الحاج السيد الصيدلي حسين القزويني، روى لي مرة قائلا في الخمسينات في الحلة كانت المعلمات اللواتي ياتين للحلة يمشين سافرات، وفي يوم سافر من الحلة الى بغداد رجل شبه مسن فرجع متعجبا وعندما سألوه ما الذي اثار عجبك من بغداد اجاب فورا كل النساء في بغداد معلمات لان جميع النساء في بغداد كن سافرات وكن يعملن في البنوك وفي كافة دوائر الدولة دون حجاب او غطاء على الرأس. لهذا فان شاعرنا عبد الامير الحصيري اصابته الهزة عندما شاهد النساء يمشين مشي القطى بعقصات الشعر المثيرة وشفاههن المضمخة بالحمرة القاتلة، كما ان الخمر في بغداد حر المبيع كشراء الخبز كما كان الخمر مباحا في كل اشكاله (بيرة فريدة) و (عرق زحلاوي) و (عرق مسيح) وكانوا من باب الهزل بقولون (عرق ابو الكلبجة).
لم يستطع الشاعر عبد الامير الحصيري استيعاب شعر الحداثة الذي انبثق في بغداد مع الاجيال الجديدة من الشعراء الذي تأثروا بالشعر الغربي، بل بقي معجبا بالمتنبي وآخرهم الجواهري، فقد نهل واستظهر الشعر القديم في آلاف الأبيات الشعرية في مطلع شبابه. وكان يحلم ان يكون وريث الجواهري، الحصيري شاهد الحداثة الشعرية المعاصرة في العراق التي امتدت بتسارع رائع على ارض العرب التي كسرت الرتابة الشعرية الموروثة وجاءت بكل ماهو جديد.
كان الشاعر عبد الامير الحصيري على اتصال بالشاعرين حسين مردان وعبد القادر رشيد الناصري وكانا من المتمردين على الشعر الكلاسيكي والحياة منتهجين طريق الوجودية التي جاءت مع تبدل انماط الحياة في بغداد في عقد الستينات المليء بالتمرد على التشرنق التاريخي. اذ سادت صور الخنافس والهبيز وجماعات البنك (بالبي الانكليزية بالثلاث نقاط تحتها) وثورات النساء المخملية مع حلول التلفزيونات التي غزت العالم بالاحداث التي كانت تجري على ارصفة باريس ولندن والتي كسرت الجمود في عواصم العالم العربي وكانت بيروت الطليعية في الحياة. ركب الشاعر عبد الامير الحصيري هذه الموجه بطريقة لا مثيل لها حيث انتهج التسكع والسكر والنوم على الأرصفة الباردة والحدائق والمقاهي والبارات الصيفية والبنايات المهجورة والسلوك المشاكس وعدم الاستقرار الدائم راميا تراثه النجفي في سلال المهلات.
عاش الشاعر عبد الامير الحصيري الازدواجية اذ تمرد على الحياة والتزم بالشعر الكلاسيكي، حاول التمرد على الكلاسيكية لكنه لم يفلح لان إيقاع الشعر التقليدي كان المهيمن على روحه خاصة المتنبي والجواهري. كان الشاعر عبد الامير الحصيري تقدمي النزعة متعاطفاً مع الحزب الشيوعي اذ أهدى مجموعته الشعرية (أزهار الدماء) إلى شهداء الحزب، فهد وحازم وصارم كما كتب قصيدة في الشاعر الحرفي الشيوعي نافع يونس، ان اغلب قصائده ودفاتر المسودات الشعرية ضاع من خلال تشرده وفي تجواله الليلي وعدم وجود بيت أو غرفة تؤيه.
كان الحصيري يتمنى للتاريخ ان يستيقظ من سباته لكنه استيقظ الآن في عصرنا اليوم على الأحزاب القمعية والوهابية، فالحصيري كان يرى الجمود في مجتمعه وينادي في (بيارق الاتين): أيها الماضي العظيم.. أيها الموروث الأصيل..أبتهل إليك أن تعود إلى العالم ثانية... رافلاً بالعصرية... لترفع رأس أمتي وترغم الزمن أن يركع). في مطلع الستينات هجر الحصيري النجف واستقر في بغداد فتعرّف على الكثير من الشعراء، حسين مردان، رشدي العامل، سعدي يوسف وشاهد الجواهري وجها لوجه. وفي بغداد برزت عبقريته في الشعر مصحوبة بعبقريتة في الصعلكة والتشرد والتسكع والانفلات من ماضيه النجفي حيث اعترف هو بنفسة وبذلك يقول (وها أنت قد أصبحت للخمر ربها وأصبحت للأقداح ترعتها الكبرى). كان يصيح بصوت عالي (اشربوا... اسكروا... الخمرة ثم الخمرة... فهي طريق الخلاص...). الحصيري المتصعلك ليس الوحيد في عالم الشعر والتاريخ فقبله قال ابو نؤاس (اترك الربع وسلمى جانبا واحتسي كرخية مثل القبس) وقبله تمرد في شعره على نجفيته الشاعر محمد سعيد الحبوبي فقال (واشرح هواك فكلنا عشاق). من مجاميع الحصيري (أزهار الدماء، أشرعة الجحيم، أنا الشديد، بيارق الأتين، تشرين يقرع الأجراس، تموز يبتكر الشمس، سبات النار، مذكرات عروة بن الورد، معلقة بغداد). في (تموز يبتكر الشمس) تبجل بثورة تموز التي قادها عبد الكريم قاسم الذي مايزال ذكره عطرا لدى (الطيف المنشوري) من الاديان والقوميات في العراق. اما (مذكرات عروة بن الورد) فهي اعتراف الحصيري وتفاخر بصعلكيته حيث يقول (أنا عروة بن الورد، شيخ صعاليك أزمنة الأرض).
بقي الحصيري بعيدا عن مهرجان المربد الشعري حيث ان اشتراكه فيه يكلفه عددا من الدنانير، وفضل ان يشتري بها اقداحا من بنات الدنان. كان الشاعر عبد الامير الحصيري متمردا هجوميا لا يتوانى عن كشف زلات الآخرين، لذا رفضوه واعطوه الصاع صاعين فاجابهم بصراحته: (وكم يحبون تقريعي وقد كرهت نفسي بأن تظلم الفعل المفاعيل). الحصيري وفي المرحلة الاخيرة من حياته اصابه اليأس من حياة التشرد ولابد ان عقله الباطن كان يأنبه عما فعل في ذاته، لابيت ولا زوجة ولا اطفال بل تشرد وتشرد وتشرد كان يعرف ذائه في الصحو فيزيده ذلك الما وحيرة وذعرا ممن حوله فكان يداوي داءه بالخمر كما يقول ابو نؤاس (وداوني بالتي كانت هي الداء)، لذا قال (أنا الشريد لماذا الناس تذعر من وجهي وتهرب من أقدامي الطرق) و (لا تسخري مني يا مقابر جنازة تحملها المقادر).ردد عبد الامير الحصيري مرات في شعره سب ذاته قائلا انا الصعلوك انا عروة شيخ الصعاليك انا الشريد (أنا التشرد والحرمان والأرق) لكن كان دواءه في قوله (يا ابنة النخل اعصفي بكياني واطعني اعرقي وشلّي يديّا). في النهاية حقق الشاعر عبد الامير الحصيري مراده في الموت مناديا ابنة النخل فعصفت بكيانه بزرقة في عروق دمه فصاح وهو يموت (فيضي دنان الخمر فيضي). لكن الشاعر عبد الامير الحصيري نسي قول الشاعر (اذا مت فادفني الى اصل نخلة لعل عروقها تروي ظمئي).
توما شماني تورونتو عضو اتحاد المؤرخين العرب