(تحليل الخطاب الصوفي في ضوء المناهج النقدية المعاصرة)
المشغل اللساني منذ ثلاثة عقود ونيّف أولى اهتماما عميقا بالخطاب والنص مما جعل قوسَ الإشتغال واسعا ودؤوبا للمشتغلين بعلم الأدب فأجترحوا جهوية ً نقلت جهدهم من الفحوى إلى اللغوي . الأمر الذي أحدث نقلة ً مفاهيمية ً أدت إلى اتساع مفهوم النص ليشمل الملصق الإعلاني/ اللوحة التعريفية وهكذا حاز النص أفقاً جديدا ربما لم يستوعبه بعض القرّاء .
(*)
الباحث شتيفان هابشايد يرى أن الخطاب يصّور مجموعة محددة من النصوص الموجود في وسائل الإعلام ونصوص التداول والتعامل اليومي بين الأفراد والجماعات تتميز بالتقاطع وتتداخل نصوص الخطاب التي تخص نوعا معينا ومجالات معرفية متعددة.../12 ويرى بيكر ظهور مصطلح جزء من الخطاب عند تحليل الخطاب ويعني هذا المصطلح جزءاً صغيراً من نص ضمّن خطاب . كما أن أجزاء الخطاب أو قطعة مرتبطة خارج حدود نص الخطاب الواحد . أي أن كل جزء يعود لنص معين ولكن يظهر ترابط بين هذه الأجزاء من خلال موضوع الخطاب الواحد../ 130
(*)
لا تريد الباحثة آمنة بلعلى في كتابها ( تحليل الخطاب الصوفي في ضوء المناهج النقدية المعاصرة ) : تكرار العزف على ما جرى في التعامل مع المكتوب الصوفي كما فعلَ من سبقوها . فهي مهمومة بجهاز مفهومي يليق بالمنظومة الصوفية . إذن لابد من منصة ٍ جديدة تؤثلها ومنها تنطلق لملامسة توهجات التصوف المسطور، فهي ترى قصوراً في منهج التعامل مع الأرث الصوفي : لم تصل إجراءآت الأيديولوجيا إلى كشوفات ٍ تخليق فائض المعنى، أو ملامسة بنى النص . علماً أن الخطاب الصوفي ( مهيأ للأنفصال عن ذاته، ومشرّع على التجدد وتجديد الأسئلة في آن، متى توجّهت القراءة إليه من أمكنة ٍ معرفية ٍ وفلسفية حديثة../ خالد بلقاسم/ الصوفية والفراغ ) .
(*)
هنا تبثُ قراءتي سؤالها : ما هو كنه الأشكال الجوهري في المسطور الصوفي؟ هل النهاية البشعة للحلاج ؟ أليس (من المحتمل أن تكون محنة الحلاج قد أثرت تأثيرا سلبياً على جيل بكامله من الصوفيين وهو جيل النصف الأول من القرن الرابع، أي جيل النفّري. ويبدو أن النفرّي قد ألتزم بمبدأ الحذر والتقيّة، أو مبدأ التكتم والتحفّظ على ما يكتب أو يعتقد / 12/ سعيد الغانمي ) .
(*)
أن نهاية الحلاج والسهروردي تشابه نهاية المعتزلة على يد الخليفة المتوكل . لهذه الأسباب تحوّط (أخوان الصفا وخلان الوفا) وبسرية غنوصية مارسوا انتاجية موسوعية في المعارف، ومن الأشكالات ذلك التضاد بين المكتوب الصوفي وثقافة الخلافة، فقد رأى الخلفاء بمؤثرية وعاظهم : أن الصوفيين أرتكبوا قراءة آثمة بحق الشريعة الإسلامية، وهكذا حدث قطع معرفي صوفي بعد صلب الحلاج ؟ وانتقل التصوف إلى التستر؟ شخصيا أرى أن وعاظ السلاطين نسجوا شبكة معرفية واسعة مثلاً أبو الحسن الأشعري الذي تبرأ من الفكر المعتزلي استعمل الجهاز المفهومي للمعتزلة في محاربتهم. . وهكذا تعددت الأسباب في إنتاج: (العقل المستقيل في الإسلام) و(حركية الجامع في إطار عقلية التخاصم) و القفز (من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث) ؟
(*)
مِن قلق معرفي تصوغ الباحثة أسئلة ً: (هل الإعتراف بأدبية نص ما هو مجرد إقرار تاريخي واجتماعي؟ وهل يمكن ألا يُعترف بظاهرة أدبية لعصر ما في عصر متأخر؟ وهل الخطاب الصوفي الذي ولِد دينيا وأخلاقياً يمكن أن ينظر إليه على أنه أدبي؟ وهل يمكن لنصوص تبدأ حياتها تاريخيا أو دينيا أو فلسفة .............. أن يتم تصنيفها كأدب ؟/ 12) ومن باب الإسراف في السؤال أقولُ : هل المسطور الصوفي بمؤثرية الزمن شطب نفسه بنفسه ؟ وهكذا اصبحت لدينا كتلة صوفية مشطوبة ؟
(*)
الباحثة تقتنص فجوة ً معرفيةً (ليس هناك حسب اطلاعي اهتمام واضح بالنثر الصوفي ولا بأخبار المتصوفة من منظور منهجي حديث على الرغم مما أعطاه علم السرد الحديث من إمكانيات هائلة للأقتراب من مختلف أشكال السرود في العالم ../ 11 ) كلام الباحثة مرتهن بتاريخ نشر كتابها هذا وتاريخ النشر هو 2010 وكلامها غير مجروح .في 2012 أصدر الباحث خالد بلقاسم (الصوفية والفراغ).. وفي 2018 ترجمة الدكتور صابر الحباشة كتاب الأستاذ رجب شانتورك في كتابه (البنية الإجتماعية السّردية تشريح شبكة رواية الحديث النبوي .
- 601- 1505م) قد اشتغل الحديث بإجراءآت حداثية واتحفنا بالثمين النادر معرفيا .
(*)
حيرة الباحثة : تكمن في البحث عن (ثريا النص) كما علمّنا الأستاذ الأديب العراقي البصري محمود عبد الوهاب* – طيّب الله ثراه – تقول الباحثة :
(لم يكن التنوع في النماذج والبعد الزمني بينها، وتنوع أجناس الكلام من شعر وحديث وخبر، ليسمح لي بأن أجد العنوان المناسب، كما لم يكن هذا التنوع ذاته ليسمح بتوحيد آليات معينة فأوظف منهجا واحداً يمكن أن يسهل لي عملية صوغ العنوان، لذلك رأيت أن مصطلح الخطاب يمكن أن يختزل الموضوع والمنهج في آن واحد خاصة أني نظرت ُ إليه بكل المفاهيم التي ألحقت به منذ دوسوسير/ 13) من ما بين القوسين ألتقط ُ مفردتين واسعى إلى حراثتهما : مفردة (مصطلح) ومفردة (المفاهيم) حتى لايشكل الأمر على طالب المعرفة . سأعمد إلى أقصر الطرق وهو التعريف . بالنسبة للمصطلح : (مكتف بذاته، مستقر، له أكثر من تعريف، يحيل إلى المعنى. لهذا استعمل لفظ مصطلح للدلالة على ماهو متفق عليه)
ويتسم المصطلح بالسعة، لكن المتغيرات الكبرى المجتمعية وسقت التراتبية الثقافية واحدثت متغيرات فاعلة فيها حتى على مستوى المفاهيم والمصطلح واستولدت المعرفيات مصطلحات ومفاهيم جديدة . أما المفهوم : (فهو غير مكتف بذاته، متغير، يستدعي إليه مفاهيم أخرى، يحيل إلى معاني عدة.) .
(*)
سيكون مصطلح الخطاب أوسع قوسا من مفهوم النص . ومن جهة ثانية يرى الناقد العراقي محمد الجزائري – طيّب الله ثراه – (أن الخطاب لابد أن يحيل إلى خطابات، بل هو يفعل ذلك دائما وبالضرورة، كما أنه يتوارى خلف خطابات، وحين نسعى إلى تحليل،، الفوارق،، وأقامة المقاربات والفوارق والإختلافات بين صيغ الخطاب ووجوهه، فإنما لنكتشف – بقدر أو آخر : مظاهر الإستمرار المحسوس وغير المحسوس الذي يربط بكيفية اتصالية الخطابات بما يسبقها وبما يحيطها، وبمايليها.. لأن ماهية تأسيس الخطاب تدفع إلى معرفة عناصر اتصاليته وبالتالي تخلق بقصدية أو بدون ذلك منظومة متوالية إبداعية../7/ محمد الجزائري /خطاب الإبداع )..
(*)
الفرق بين النص والخطاب ..
سعة الخطاب : جهويا / تفاعليا/ تحاوريا في الخطاب تحدث المواجهة الإجتماعية ومنها ينبجس التحاور والتجادل... مع النص يكون التواصل مع المسطور بعيدا عن مؤلف النص . وهكذا تكون علاقتي مع النص لا الشخص وهذه العلاقة هي علاقة تلقي وصدمة التلقي وتكون بين المطبوع الساكن الذي يتم تحريكه بفعل القراءة . وحسب قول إسكاريت : الكتاب هو آلة القراءة ولكن لا يمكن إستعماله ميكانيكا .
(*)
اشتغال الباحثة على الخطاب، لا يعني سيكون تعاملها مع النص انتباذيا أنها تخبرنا : (أنا أعاين المظاهر النصية من خلال الخطاب الذي يحملها..) ..ثم تبرر الباحثة آمنة بلعلى قائلة (حين نستعمل مصطلح الخطاب موصوفا بالصوفي فلأننا نعتقد أن هذا المصطلح بمقدوره أن يبعد التصوف من نسبيته ومحدودية وظيفته وأدلجة أنتمائه ..) هنا يكون المصطلح تعويذة حارسة للمسطور الصوفي!! شخصيا أرى أن النص أي نص إذا لم يستطيع الدفاع عن نصيته فلا خير فيه.. أعني أن النص الذي يعاني من عوز مناعي لا يستحق أي عناية مرّكزة تتقوس عليه.. ثم ينتقل مصطلح الخطاب ليكون بمثابة فلتر/ مصفاة للنص فيعيد( تقديمه إلى القارىء للمعاينة بالوصف والتحليل والتفكيك والتأويل) والعملية الثالثة التي تجرى للنص هو ترحيله من حقله الصوفي : (وفق أجهزة تلق تذهب به إلى تخوم الفلسفة أحيانا)
(*)
التصوف : تصوف لا يجوز إجراء عمليات تجميل لهويته . الفلسفة : رؤية عقلية . التصوف : رؤيا القلب للزيتونة الواقفة على خط الإعتدال كما بشرنا ابن عربي في فتوحه المكية وهو يعترف من آيات ٍ بينات في سورة النور
(*)
تبدع الباحثة في الفصل المعنوّن (البرازخ النصية) وهي تبذل جهدا معرفيا مثمراً للمصالحة بين قدامة ابن عربي وحداثة جيرار جينيت. يغترف ابن عربي من قوله تعالى (مرج َ البحرين يلتقيان*بينهما برزخ ٌ لا يبغيان) من هذه المنصة في سورة الرحمن يؤثل بن عربي حكمته النورانية الخاصة بالخيال وتفسير الوجود ودلالة البرزخ لدى بن عربي هو (ما قابل الطرفين بذاته) وأنّه أمر فاصل (بين معلوم وغيرمعلوم وبين معدوم وموجود، وبين منفي ومثبت وبين معقول وغير معقول../ 265 ).. تلاحظ الباحثة أن كلام ابن عربي يتجاور مع كلام جيرار جينيت، فأن تعريفه لمصطلح المحيط النصي في كتابه (عتبات) هو كالتالي :
(منطقة بين الداخل والخارج، بدون فاصل لا نحو الداخل ولا نحو الخارج)
(*)
التصوف : هو رياضات الوقفة وصاحب الوقفة متعوب ورؤيوي يتغيا كنه الجوهر الفرد ولا يريد سواه. ولا يكون ذلك بلا حركة انتباذية متخفية عن السلطان وجواسيسه وصاحب الوقفة قويٌ بضعفه الذي يخاف عليه من البطش بخرقة الصوف.. وهكذا نسجتْ لا بالقوة بل بالفعل الليّن نهجها خرقة الصوف وصارت هي اللانهائي واللامحدود والمتوهج الذي لا تأخذه غفوة ُ أو غفلة . بالفعل المكتوم أيقظت الخرقة النائمين والسادرين في غيهم . التصوف أنزياح عن الإجتماعي : يضرم أنزياحاً لغويا ؟ ويشهر ألوهية الإنسان المقبوسة من الحق المطلق في زمن الطامورات وتفنن في آلات التعذيب : وهذه عينات من أنزياحات الحلاج أسطّرها على ذمة ذاكرتي المدرسية :
(أعمى بصيرٌ وأني أبلهٌ فطنٌ ولي كلامٌ إذا ماشئت مقلوبُ
أني يتيمٌ ولي أبٌ ألوذ به قلبي لغيبته مازال مكروبُ )
(أدعوك بل أنت تدعوني إليك فهل
ناديتُ أياك أم ناجيتُ أيائي
يا كل كلي وكل الكل ملتبس
وكل كلك ملبوس بمعنائي
يا كل كلي يا سمعي ويا بصري
يا جملتي وتباعيضي وأجزائي)
نرى أن الانزياح عن المجتمع فجرّ أنزياحا لغويا صادما لدى المتلقي المطمئن والمؤتلف مع النمط الشعري السائد آنذاك .. نلاحظ أن الخطاب الصوفي لا يتقاطع بل يتوازى مع الخطاب الديني هذا التوازي يستفز (وكلاء الدين ) !!
والسبب شخصتّه الباحثة آمنة بلعلى : (أن الخطاب الديني يشتغل بلغة حرفية لا مجال فيها للتخييل..) وكأن الصوفيين يرون أن الرأسمال هو الإنسان المتعالي البنّاء لعالم ٍ معرفي تكون فيه الذات (شرط وعي العالم) أليس هذا هو فائض المعنى المنشود يكون الإنسان هو النقطة والدائرة = الشوق والأشتياق ؟
وهكذا ينبجس من التعالي الصوفي الأستنكاف المكابر (الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق) : من منصة هذه النفس الواعية تبدأ رحلة الصيد الصوفي .
هنا يتعرى الصوفي من اليومي ويغوص في الجواني لعله يصطاد الماهية الخالصة هنا تتعطل لغة التواصل، فالصوفي تجاوز برزخ العالم الخارجي وهو في (وضع معرفي عاطفي لايمكن للغة أن تنمذجه ../ 65 )
*آمنة بلعلى/ تحليل الخطاب الصوفي في ضوء المناهج النقدية المعاصرة/ منشورات الأختلاف/ بيروت/ ط1/ 2010
*شتيفان هابشايد/ النص والخطاب/ ترجمة : أ0د موفق محمد جواد المصلح/ دار المأمون/ بغداد / ط1 / 2013
*محمد بن عبد الجبار النّفّري/ الأعمال الصوفية/ راجعها وقدم لها :سعيد الغانمي/ منشورات الجمل/ كولونيا – بغداد – 2007
*محمود عبد الوهاب/ ثريا النص : مدخل لدراسة العنوان القصصي/ الموسوعة الصغيرة/ دار الشؤون الثقافية / بغداد/ ط1/ 1995
*خالد بلقاسم / الصوفية والفراغ الكتابة عن النّفّري/ المركز الثقافي العربي/ بيروت/ ط1/ 2012
*محمد الجزائري/ خطاب الإبداع: الجوهر – المتحرك – الجمالي / بغداد/ دار الشؤون الثقافية / ط1/ 1993
*إبراهيم محمود/ الفتنة المقدمة/ دار رؤية/ القاهرة/ ط1/ 2016( حركية الجامع ص386
*رجب سانتورك/ البنية الاجتماعية السّردية: تشريح شبكة الحديث النبوي/ ترجمة د. صابر حباشة/ دار جسور/ ط1/ بيروت/ ط1/ 2018
* جورج طرابيشي
*العقل المستقيل في الإسلام/ دار الساقي/ بيروت/ ط2/ 2011
*من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث/ دار الساقي/ بيروت/ ط1/ 2010
* جيرار جينيت/ عتبات / ترجمة عبد الحق بلعابد/ منشورات الأختلاف/ الجزائر/ ط1/ 2008
* شخصيا أرى أن الأدعية : تمتلك شروط الخطاب، فهي مقروءة ومسموعة وذات تلقي واسع جدا
ولي تجربة كتاب معها : ونشرتُ في المواقع الثقافية : (شرفات الكرسي: قراءة نسقية في دعاء كميل بن زياد)
وكذلك (دعاء الخائف) وهو من أدعية (الصحيفة السجادية) للأمام علي بن الحسين – عليهما السلام وهناك دراسة بعنوان (العطايا قبل السؤال) : محاولة تصنيع مقدمة لدراسة (دعاء الاعتذار) وهو من أدعية (الصحيفة السجادية)
وهناك دراسة لي عن دعاء (البهاء) وهو من أدعية الإمام محمد الباقر عليه السلام
*