عمّان-
ان يحثنا انسان على الامل فهو امر يستحق الثناء لا سيما ان ايامنا تبدو مأزمة ومختنقة، وان يحثنا انسان على الامل وهو في غارب ايامه وحياته تعاني سؤال فصولها الاخيرة فهذا يعني الكثير والكثير لاسيما انه يأتي وفق سياق وجداني وليس عبر توصيات ومواعظ جاهزة.
فيروز في اسطوانتها الجديدة " ايه في امل" تحثنا عن الامل وان كان صوتها هنا (بتأثير تقادم السنين) خافت النبرات لكنها بحسب صياغات لحنية مثيرة للجدل ومتجددة دائما من ابنها المشاغب البارع زياد الرحباني، تجعل هذا الامل دعوة رقيقة حتى وان بدت طالعة من "ملل" ايامنا ورتابتها كما تقول مفردات الاغنية التي منحت الاسطوانة الجديدة عنوانها.
اغنية " ايه في امل" هي كلام جميل .. عن الزهر والسنونو والاحساس بالخيبة من علاقة عاطفية قد لا تلتئم جراحها ولكنها بسبب صدق شعوري عميق ميزها تحث على تجدد الامل الذي "اوقات بيطلع من ملل واوقات يرجع من شي حنين" . لحن الاغنية يشبه انغام سائدة في شمال البحر المتوسط ولكنه وفق دلالتين: صوت فيروز وكلام يشبه حالة عاشقين من ايامنا المعيوشة صار لحنا عن اسى يشمل عواطفنا اليوم وخيبتنا الانسانية.
وليس بعيدا عن هذا السياق تأتي أغنية " الله كبير"، فهي معادوات لمشهد العاشقين اليومي: الصبر والامل والتضرع لهما ومفردة "الله كبير" ايجاز لهذا التشبث بالحياة والدفاع عن قيمها الرفيعة. والتوزيع الموسيقي المتقن هنا والجملة الموسيقية الاخيرة التي تحاكي دلالات الاسى ولكن دون جزع وانما بانسجام مع الذات، تكفي لوحدها وتستحق ثناء مميزا.
وفي مغايرة لهذا الايقاع تأتي اغنية "بكتب اساميهم" التي جاءت تعديلا عن الاغنية الكلاسيكية المعروفة لفيروز "بكتب اسمك"، وفيها يوجه الكورس تحية الى عاصي ومنصور الرحباني، وهنا جاءت الاعادة موفقة لا لمجرد توجيه التحية الى ركني الرحابنة الاساسيين بل في المعالجة الموسيقة التي وفرها زياد ضمن قراءة متجددة تداعب اللحن الاصلي. وهي الحال ذاتها في اعادة لاغنية "بنت الشلبية" التي ادتها فيروز مجددا بصوت مجروح ولكن هذه المرة برشاقة اكبر ومعاصرة وحيوية بحسب قراءة زيادية لقيم التجديد الموسيقية.
ووفق براعات صاحب "انا مش كافر" تأتي مقطوعة "تل الزعتر" التي ترسخه مؤلفا موسيقيا نادرا في مشهدنا العربي الموسيقي المعاصر، وفيها ينتقل من تمهيد وصفي الى لحظة التراجيديا التي ارتبطت بها الاسم والمعنى : تل الزعتر.
وضمن سياق التأليف الموسيقي ذاته تأتي مقطوعة "ديار بكر" موفرة سياحة ثقافية وجغرافية في المكان ودلالاته الانسانية. وزياد هنا يفتح بابا على التواصل الثقافي مع بيئة مجاورة، فنحن نعرف الكثير عن اميركا والغرب وحتى الشرق القصي لكن لا نعرف الا القليل عن جوارنا الجغرافي والانساني.
غلاف اسطوانة "ايه في أمل"
وبالعودة الى ما غنته فيروز هناك "قال قايل" الاغنية التي جاءت وفق سلطنة اللحن الشرقي وهذه علامة من علامات زياد كما في "سلملي عليه". اما نكهة الكلام المسترسل كحكي بين المطربة والكورس يبدو مغايرا بالكامل لفيروز المعروفة كمغنية "القناطر والميادين وجارة القمر"، فهنا نبرة عتاب وتجاذب بين عاشقين، وهو ما تشهده حياتنا الاف المرات كل صباح ومسا و"اذا كان (حبك) حلو، وصفى مش حلو، إلك مني عيدوا من أوله".
مثل هذا الانطباع يشمل اغنية " كل مالحكي"، واتصالا بهذا المعنى ايضا تأتي " قصة صغيرة كتير". هنا صوت فيروز وقد غالبه عسر تعبيري جراء عملية قسرية بين مزاوجة الكلام واللحن التي يعتمدها احيانا زياد دون معاينة خصائص الصوت، وانطلاقا من مبدأ اساس يكوّن عمله، وهو ان الاغنية عمل موسيقي قبل كل شيء اي اللحن اولا الصوت المؤدي تاليا والكلام اخيرا، وليس وفق عملية هارمونية متصلة، فيوفق احيانا ويخسر احيانا كما في " كبيرة المزحة هاي" وهي ليست اغنية جديدة فسبق ان تضمنتها اسطوانة "فيروز في بيت الدين 2002" . وبحسب لحنها الثقيل المستمد من الجاز جاءت النتيجة غيابا للتوافق لا مع صوت فيروز ولا مع كلمات تبدو بلا دلالات عاطفية رقيقة غالبا ما ارتبطت بها اغنيات صاحبة " لولو"، فصوتها يكاد يختنق حد الخفوت حتى وان جاء متوسلا نداء عاطفيا "حبني بس حبني". وثمة آه لو ان زياد قدم كلاما او اختار نصا غير هذا، فالموسيقى في الاغنية بناء مكتمل بذاته والجملة الاخيرة لوحدها كافية لان تعطي المستمع دفقا من الرقة المتناهية التي ضاعت للاسف في غلاظة كلام جفف في صوت فيروز ما بقي فيه من ينابيع رقة.
ومع بداية تصويرية ومؤثرات طبيعية (مشهد القرية) تبدأ فيروز اغنية " ما شاورت حالي" التي تنتظم في سياق التهكم الذي عادة ما تتوافر عليه اعمال زياد الرحباني. لحن فولوكلوري ولازمة "يا ضيعانو" في استعادة لايقاع ازمنة وفضاءات كانت مفتوحة ذات يوم على براءة انسانية لم تعد حاضرة اليوم.
واغنية "الارض لكم" مثال آخر لمزاوجة قسرية بين نص وموسيقى تبدو جاهزة ومكتوبة على عجل، حتى وان كان النص يحيل الى مرجعيات كنسية تؤكد الوحدة الانسانية وتعظيم فكرة الحرية. وكان يمكن لو توافرت الاغنية على توزيع موسيقي ابعد من تنفيذه على بيانو منفرد ان تبدو الفكرة في الاغنية بعمق اكبر تأثير عاطفي ارشق.
"ايه في أمل" نعم.. هناك أمل، وفيروز تقدم مثالا عاطفيا رقيقا وان كان بصوت خافت النبرات لكنه من انضجته الحكمة والألم.