جائلٌ في الشعر الإيراني الحديث

2020-10-19

كثيرا ما تصحبني رغباتي لقراءة قصائد من الشعر الايراني المعاصر الذي يوفّره لنا مترجموه العارفون بأسرار العربية وقوة مفرداتها ومواطن الإبداع فيها مثلما يعرفون ملامح الجمال ومكامن التجديد  في لغتهم الفارسية ومن تراثهم الموغل في العراقة ؛ فلم يعد القاريء العربي غريب الوجه واليد واللسان امام كرم العولمة التي وهبت لنا ابداعات الشعوب وقدّمته لنا على طبق من ذهب وغالبا ما قلت في سري وأنا أتذوق شيئا من شعر هؤلاء : ليت سياسيي إيران الراديكاليين مثل شعر بلادهم بهذه اللمسات الرائقة والصوفية العذبة الناهلة من مولانا جلال الدين الرومي وفريد الدين العطار ومن نفحات سعدي الشيرازي والفقيه العالم الشاعر عمر الخيام وشتان بين بذاءة السياسة وبين بداعة الشعر وفيضه في الروح والحواس وخلجات المشاعر والأحاسيس .

وأنا أكتب هذا المقال عن شعراء إيران المحدثين كنت أتنزه في ملاعب جنّة شيراز التي عرفتها  منذ العام /2007 واحة هانئة ممتعة ثرية بثمارها الأدبية ، وشيراز هذه مجلة تصدر  بلغتنا العربية الفصحى من طهران وهي تعنى  بترجمة خيْرة قصائد الأدب الإيراني الحديث والقديم  إلى لغتنا العربية كما تقتبس عيّنات مختارة من شعرنا العربي الحديث وتقدّمه إلى القاريء الإيراني، يرأس تحريرها الأُستاذ والصديق العزيز موسى بيدج وهو شاعر محدث، مؤمن بحوار الثقافات، مولع بالأدب العربي المعاصر ومترجم حاذق ناقل للإبداع العربي الحديث إلى اللغة الفارسية وبالعكس ويؤمن إيماناً راسخاً بمدّ طرق التواصل بين الأدبين العربي والإيراني، وكما تشير مجلته في غلافها أنها نافذة على مدّ أواصر التواصل بين أدبنا العربي والأدب الايراني الحديث وهل غير الأدب وسيلة راقية للتواصل والتقارب واللقاح الفكري لترميم ما أفسدته السياسة بين الشعوب .

قامت مجلة شيراز بترجمة الكثير من نتاجات  أُدبائنا المعاصرين وخاصة في مجال الشعر والقصة والنقد فقد عملت على ترجمة شعر محمود درويش ونقلت أغلب قصائده إلى قرّائها الكثر المهتمين بالشعر العربي كما ساهمت في نشر شعر علي أحمد سعيد إلى الفارسية بترجمات ثريّة على أيدي مختصين بارعين بهذا الشأن عدا قيامهم بنشر الكثير من القصائد المفردة لشعراء عرب محدثين، كما قرأت في مجلة شيراز مقابلة مع الأديب الفلسطيني عزّ الدين المناصرة وأغدقت على قرّائها نماذج منتقاة من شعره ورؤاه النقدية وعرَّفت بمسيرة الأدب الفلسطيني الحديث، ولم تكتفِ بذلك بل وسّعت من جهدها ونشرت بتراجم ملفتة العديد من النتاج القصصي من خلال انتقائهم نصوصا نثرية من أدبنا العربيّ الحديث ونقله إلى اللغة الفارسية بعناية وانتقاء مدروسين .

ومع الأسف تعرضت مجلة شيراز وراعيها الأديب والمترجم الحاذق موسى بيدج إلى ضائقة مالية حجبتْها عن الصدور ورقيا، وهناك مساعٍ إلى إظهارها الكترونيا قابلة للتحميل كما قال لي مؤخرا عسى أن تثمر جهوده بالنجاح قريبا .

ومن ضمن مصادر قراءتي لشعراء إيران المحدثين فانني كثيراً ما ألوذ بترجمات الأديب الموسوعي صديقي العتيد  جلال زنكابادي الشعرية لبراعة نقله المناخ الشعري إضافة  لقدراته اللغوية وفهمه العميق بأسرار وخفايا الإبداع في اللغتين العربية والفارسية ولكونه شاعرا يعرف كيف يبرع في إزاحة المعنى الشعري ونقله بتوئدة وتأنٍ ليصل الينا معافى سليما وكأنه هو من كتب القصيدة الأصل وأوصلها الينا بأمانة  .

أنقل هنا مقتطفات من نصّ شعري كتبهُ الشاعر الإيراني محمود كيانوش  وهو الذي مرّر شعره أيام حكم الشاه بتقمّصَ شخصية شاعر هندي وهمي اسمه " براديب أوما شانكار " بترجمة الأُستاذ الشاعر والباحث القدير جلال زنكابادي عنوانه "  المطر " :

لا تتوقّع ولا تسل الغيوم

عن مفهوم العدل والرحمة

فهي لا تفقه الحساب

فإذا ما حبلتْ غيمة

فأنّى تكن وفي اللحظة المحتومة

ستلد مولودها الزكيّ

مادام الثرى مهد الحياة

لكنما الآن تسفّد بندقيتك بالطلقات

وتصوّب على الحياة

حيث الحقد يبتغي القربان

اما الفيضان فلا يهاب شيئا

اذ يجتاح قصور المغتصبين

ويجرف الغلال غير المحصودة

لئلا يكنزوها في عنابر الإحتكار

ولموسى بيدج ترجمات غاية في الرقيّ والثراء للشاعر الإيراني بهاء الدين المعروف ب" سلطان العلماء " تشكّلت على شكل ومضات غاية في الجمال والتأثير الإبداعي على القاريء واقتطف منها :

العالم حربٌ، لا تكونوا من غير سلاح

***

ايمانُك مثل جسمك

اذا لم تخبئْه عن الذئاب والسباع

واذا لم تَقتل الأفاعي والعقارب

فلن يحيا باطمئنان

***

روحك صارت تشبه بيوت النمل

من فرط اكتظاظها بالشياطين

***

السماء والأرض شجرة

والناس فاكهة على أغصانهما

تسقط تباعا

***

المرأة مرآة

لا تكن حجَرا فتحطّمَها

ولا ماءً فتنساب فيها

***

حين يصل الألم ذروتهُ

يعجز المرء عن النواح

لأن إناء النواح ضيق

لا يستوعب ذلك الحجم من الألم

لا يمكن المرور بعوالم الأدب الإيراني الحديث دون التوقّف مليا في عالم " فروغ  فرخزاد "  ( 1935—1967 ) هذه الشاعرة اللامعة التي عاشت وضعا دراماتيكيا غاية في الغرابة والتنوّع وحالة أسريّة لا تخلو من الإضطراب وتوفيت في عزّ شبابها وهي بعمر الثانية والثلاثين في حادث مؤسف ، لنقرأ إحدى قصائدها من مجموعتها الشعرية " عصيان " الصادرة عام /1958وهي ترى موتها المبكّر بأمّ عينها وكأنها تتنبأ بمصيرها ومآلها القريب بعيدا عن الحياة يضمّها قبرها صديقها في العالم السفلي بترجمة رائقة من قبل الشاعر والمترجم العراقي الصديق العارف بخفايا اللغة الفارسية حميد كشكولي :

سوف يأتيني موتي يوما

في ربيعٍ مضيء بأمواج النور

في شتاءٍ مغبرٍّ في أقصاه

او خريفٍ خلا من الصراخ والأمواج

سيأتيني موتي في يومٍ من الايام المرّة او الحلوة

في يومٍ عجيف مثل بقية الايام

يستمدّ ظله من يومنا هذا ومن الامس

عيوني كأنها دهاليز داكنة

وجنتاي مثل الرخام البارد

سيخطفني نومٌ مفاجئٌ

وسأفرغ من صراخ الألم والأنين

يداي تزحفان على دفتري بهدوء

فارغتان من سحر الشعر

ذاكرة ايامٍ كان دمُ الشعر يبرق ويفور

لا تني الارض تهمس لي كلّ مرّة

ان ثمة قادمين في الدرب الى تربتي

آهٍ  ! ، لعلهم عشّاقي أتوا ليضعوا الورود

في منتصف الليل على ضريحي الحزين

وستنزاح فيما بعد ستائر دنياي السود

وستنسلّ عيون غريبة في اوراقي ودفاتري

يدخل غرفتي شخص غريب على شرف ذكراي

ويوقظ ذاكرتي ، وثمة شعرة وبصمة يد ومشط

تبقى متروكة امام المرآة

انني اسير من ذاتي وأبقي شيئا ما في ذاتي

وسيكون الخراب مصير ما يتبقّى

فروحي مثل شراعِ مرْكب يلوح في الافق البعيد

تتسارع الأيام والأسابيع والشهور وقد نفد صبرُها

وعيونك تتشوّف رسالة وترنو الى الدروب

الا ان الارض تعصر جسدي البارد من كلّ الجهات

فبدونك، وبعيدةً عن خفقان قلبك

سيتهرأ هناك قلبي تحت التراب

ولاحقا سيغسلُ المطرُ والريح اسمي بنعومةٍ

على وجه الصخر ، ويبقى قبري مجهولا في الطريق

خاليا من اساطير الشهرة والعار

وقد سبق لحميد كشكولي ان غاص في بحر الشاعر الطليعيّ احمد شاملو (1925- 2000 ) وأخرج العديد من دررهِ الشعرية كونه يعدّ من مجددي الشعر الايراني الحديث وممن تمرّدوا على الاوزان الشعرية والهياكل التقليدية في الشكل والتي اعتمدت على اوزان الفراهيدي حالها كحال قصائدنا العربية ، ونستطيع القول ان شاملو امتداد للرعيل الاول من شعراء ايران اللامعين امثال نيما يوشيج ومهدي اخوان ثالث وحميد مصدّق وصادق هدايت وكانت اشعاره يتغنّى بها الشباب الثوري المتمرّد على التقليد وعلى سلطة الوليّ الفقيه ومنتقدي الراديكالية المتأسلمة مما اضطرت السلطات الدينية الى منع تداول شعره في العام/ 1981 حتى مجيء السيد محمد خاتمي الشخصية المعتدلة المحبّة للشعر رئيسا للبلاد وقتذاك وتم كسر طوق الحصار على شعر شاملو في العام/ 1997؛ اذ من المعروف ان خاتمي كان معتادا ان يهدي رؤساء الدول دواوين من شعراء فارس الكبار مثل سعدي الشيرازي وعمر الخيام والفيروزأبادي وغيرهم خلال زياراته وجولاته لهذه الدول عندما كان في رأس السلطة الايرانية .

ويجدر ان نذكر بان أحمد شاملو يعتبر أول من أرسى دعائم قصيدة الشعر الحرّ وأشاع قصيدة النثر في الشعر الإيراني المعاصر وكثيرا مايقارن ببدر شاكر السياب عندنا بريادة القصيدة الحديثة، وبخطى المحدثين الآخرين  في ترسيخ الشعر المنثور في أدبنا العربي الحديث، وهذه ترجمة السيد كشكولي لقصيدة شاملو " الحبّ الكلّي " :

الدمع ُ سرٌّ

البسمةُ سرّ

الحبّ سرّ

دموع تلك الليلة كانت بسمة الحبّ

فانني لستُ قصة ترويها

ولست نغمة تغنّيها

ولست صوتا تسمعه

او شيئا ما تراه

او شيئا ما تفهمه

فانني الإلم المشترك

نادِني !!! 

فالشجر يتحدّث إلى الغابة

العشب يتكلّم مع الصحراء

النجم مع الكون

وأنا أتكلّم اليك ...

قل لي اسمك !

أعطني يدك !

قل لي ما عندك من كلام

هاتِ قلبك !

لقد أخرجتُ جذورَك

تحدثتُ بشفاهك إلى كلّ الشفاه

ويداك تعرفانِ يدي

لقد بكيت معك في الخلوة المضيئة

في سبيل ذكرى الأحياء

وغنيت معك أجمل الأغاني في المقبرة الظلماء

لان أموات هذا العام كانوا أعشق الأحياء

اعطني يدَيك

يداك تعرفانني

يامن لقيت متاخراً، أحكي اليك

بقدر مايحكي الغيم مع العاصفة

بقدر مايحكي العشب مع اليباب

بقدر مايحكي المطر مع البحر

بقدر مايحكي الطير مع الربيع

بقدر مايحكي الشجر مع الغابة

فانني قد اكتشفت جذورك

وأن صوتي وصوتك صديقان لبعضهما ..

ولأحمد شاملو مرثية موجعة بحقّ المبدعة الشاعرة فروغ  فرخزاد أقتطف منها بعض الأبيات بترجمة الشاعر والمترجم الرائق  موسى بيدج :

باحثا عنكِ، أبكي على عتبة الجبال

على بوابة البحار والأعشاب

باحثا عنكِ أبكي في معبر الرياح

في تقاطع الفصول

في أضلاعٍ مكسورةٍ لنافذة

صنعتْ للسماء الغائمة إطاراً عتيقا

في انتظار صورتك

إلى متى وكم ستنطوي أوراق هذا الدفتر الخالي

ولمن يريد أن يستعرض ويكتب عن الشعر الإيراني المعاصر لابدّ أن يعرج على سهراب سبهري (1928—1980 ) وابداعاته الشعرية ومبتكر الصور البيانية المذهلة لأنه رسامٌ بارعٌ وفنانٌ تشكيليّ إضافة لكونه من طليعة الشعراء المجددين ذوي الخيال الواسع الأُفق، تأثر كثيرا بالسوريالية  لكن سورياليته اتسمت بأناقة الألفاظ وتنوع المعاني المبتكرة ولم ينجرّ إلى الرمزية المفرطة .

جاب سبهري العالم وكان محبا للترحال والإطلاع على أغلب شعراء العالم وفنانيه حتى وطأت رجلاه بلاد اليابان بهدف تعلّم واتقان النحت على الخشب وقرأ كثيرا من قصائد الهايكو لعدد من الشعراء اليابانيين وأعجب بها حتى ارتسمت بوضوح في معظم قصائده .

وهذه إحدى قصائده المفعمة بالخيال الواسع بترجمة الدكتور احمد موسى أُستاذ الأدب الفارسي في المغرب العربي، عنوان القصيدة " أين بيت الصديق "  :

أين بيت الصديق ؟؟

سأل الفارسُ عند الفجر

تمهّلت السماء

وهب العابرُ ظلمةَ الرمال

غصنَ النور المتدلّي من شفاههِ

وأشار بإصبعهِ إلى صفصافةٍ قائلاً :

قبل أن تصل الشجرة؛

هناك زقاق مشجّر

أكثر اخضراراً من حلم الله

الحب فيه أزرق

بلون زغب الصفاء

تذهب إلى نهاية الزقاق..

الذي ينتهي عند خلف البلوغ

ثم تدلف إلى جانب وردة العزلة

وقبل أن تصل الوردة بقدمين..

تمكث عند نافورة أساطير الأرض الخالدة

ستأخذك رهبة شفيفة

ستسمع خرخشة في صفاء الفضاء حيث يسيل

سترى طفلا تسلّق صنوبرةً سامقة

كي يقتطف من عشّ النور فرخا

فاسأله :

" اين بيت الصديق "

 في هذه العجالة، لايمكن ان أُحيط احاطة كاملة بملامح وسمات الشعر الإيراني المعاصر بهذه المقالة القصيرة وإنما هي جولة سريعة كسائح عابر في سفح صغير أمام سهوب واسعة ومساحات شاسعة يتطلب خوض غمارها والتنزه بمغانيها وماكتبته سوى انطباعات من خلال قراءاتي لشعر هؤلاء المجددين حصراً،  فهناك الكثير الكثير من الشواعر البارعات والشعراء الذين حملوا راية التجديد ولعلِّي أعود لاحقاً لتسليط الضوء أكثر على شعراء آخرين تركوا بصمات واضحة وآثار لا يمكن اغفالها في مسار حركة الشعر الإيراني الجديد .

 

 

جواد غلوم

خريج كلية الآداب/جامعة بغداد / قسم اللغة العربية لعام 1974-1975. عمل في التدريس بعد التخرج لغاية العام/1990 وفي الصحافة وهو طالب في الجامعة ونشرت في معظم الصحف والمجلات وقتذاك. سافر إلى خارج العراق بسبب الاضطهاد وظروف الحصار وعمل خلالها أستاذا في الأدب العربي/ ليبيا. عاد للعراق سنة/2004 وينشر في العديد من الصحف الورقية والالكترونية. ولديه اربع مجموعات شعرية مطبوعة وكتابان بعنوان / مذكرات مثقف عراقي أوان الحصار، و قطاف من شجرتَي الادب والفن وهي مقالات في النقد الادبي .

jawadghalom@yahoo.com

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved