جميل صدقي الزهاوي والقوى العاقلة – 13 –

2022-03-15

ولقد نظَّرَ الزهاوي فيما  نظَّرَ، مسألةَ القوى العاقلةِ بقوله أنَّ :

" القوى العاقلةَ، نتيجة لانْقسام الأعمال، وكمية الخلايا القائمة بها في جسد الحيوان ولا سيما في مُخِّه .  ومنشأ هذه القوى هو الحسُّ الذي ليس غير الانفعال يمؤثرات المحيط  وكلها طبيعية . 

والحكم على الشيْئِ في الحيوان هو نتيجة غَلَبَةِ قسمٍ من خلايا المخ على غيرها في تأثرها أو فعاليتها عقب الحس . وبالحسِّ تهتزُّ دقائقُ قسمٍ من الخلايا في المخ، وهذه الاهتزازات إذا سكنت بمرور الزمان، فان لها قابليةَ التكرُّرِ والعودة عند حصول حس جديدٍ مشابهٍ لما أحدثها قبلًا، كأنه يوقِظُها فيحسُّ بها العقلُ ثانيةً وهي الذاكرة ."

وحين يتحدث عن اعمال الحيوان يقول :

" كلُّ اعمالِ الحيوانِ هي نتيجةُ الضرورة، وقواها العقلية ترجع إلى الحسِّ الذي هو انفعالٌ طبيعي، وما الإنسانُ وحده يقيس ويحكم ويريد ويعمل، فالذبابةُ وهي حيوان منحطٌّ تستدلُّ وتحكم وتريد مثل الإنسان . ألم ترَ أنَّها اذا وقعت بالقرب منك فمددتَ اصبَعَك إليها، تطير هاربةً قبل أن تصلَ إليها إصبَعُك .  ذلك لَعمري لانها تحس بحركةِ إصبَعِك ووجهة هذه الحركة وهي تعلم باختياراتها التي ورثتها من آبائها الأولين منذ مئات الألوف من السنين أنَّ هذا المتحركَ إليها إذا صدمها فهو يهلكها وهي تحب حياتها مثلما أنت تحب حياتك فهي تهرب من أمام هذه الداهية (الإصبع) كما تهرب أنت من النمر المفترس، وما هربُها إلّا نتيجة فعلية لقياس منطقي ترتبه في نفسها، كأن تفتكرَ أن هذه الإصبَعَ متوجهةٌ إليها، وأنها إذا مكثت في مكانها فهي تصل إليها وتعدمها حياتَها، وأنَّ الهربَ من الضرر أسلمُ لها، فتحكم بوجوب الهرب، وتعمل بموجب حكمها المنطقي هذا فتطير إلى حيث السلامة والحياة ."

 

ثم يمضي فيقول :

" ولا فرق بين نوعي العقل في الإنسان والحيوان مهما انحط الحيوان إلّاا في الكمية فهو في الإنسان أكثر منه في الحيوان على أنه فيهما جميعاً على درجات .

 

والإرادة أكبرُ مشكلةٍ في الحيوان وقد زعم نفرٌ من العلماء أن الإنسان مختارٌ وأنا لا أعقل له اخْتيارًا، فهو كغيره من الحيوان مضطرٌّ في حميع أعماله ليس له من الإختيار شيئٌ وإنما إرادته التي يعنون بها اختياره ظاهرية وما هذه إلّا غَلَبَة قسمٍ من خلايا مخِّه على قسمٍ آخرَ في مركزِ خاصٍّ منه كما قلنا في الحكم بعد أن ينفعل بالكهربائية التي تأتيه بطريق أعصاب الحس، فهو إذا اشتدَّ انفعالُه الذي يعقبُ احتياج الجسم وتهيَّجَ، ينقبض أو يتحرك حركة أُخرى يطلق فيها طريقًا للسيال الكهربائي على أعصاب الحركة إلى الجهة التي يحس بالضرر منها أو النفع فيها، فيحرك السيال العضو بواسطة عضلاته الموصولة بتلك الأعصاب .  وقد تراوغ خلايا الإرادة فتحرك العضو من الطريق الأبعد، ذلك أنها بما ورثته  من آيائها تذكر عدة طرق للوصول، فتحرك العضو في الطريق الذي صورته في هذا الذكر أشد تأثيرًا فيها وتطبقه على الوضع الخارجي . وما التردد في الإرادة إلاّ مقاومة قسم من خلايا مركزها لقسم آخر وللوراثة في جميع قوى العقل يد أية يد ."

 

انتهى كلام الزهاوي !

 

لا أظنُّ أن القولَ بأن الحسَّ الذي تحدث عنه الزهاوي وكان يقصد الحسَّ الظاهري، وليس الحسَّ الباطني، هو منشأ القوى العاقلة، أو أن هذه القوى هي نتيجة لانْقسام الأعمال وكمية الخلايا في جسد الحيوان التي تقوم بتلك الأعمال، أو أن القوى العاقلة ذاتها، يتصف بها الحيوان والإنسان على حد سواء، أُمور يمكن قبولها .  كما أن حصرَ القوى بالقوى العاقلة فقط، أمرٌ، هو الاخر، لا يمكن قبوله .

 

نقول والحسُّ حِسّان : حسٌّ ظاهري، وحسٌّ باطني، أما الحسُّ الظاهري فيمكِّنُ الإنسانَ والحيوانَ من التفاعل مع العالم الخارجي، بغض النظر عن طبيعة التفاعل وكيفيته، أما الحسُّ الباطني فهو الحسُّ الذي يمكِّنُ الإنسانَ فقط من إدراك المعاني والقيم العميقة مثل قيم الحق، والعدل، والخير، والكرامة، والفضيلة، والمساواة، ونبذ الشر والكراهية والحقد والظلم، وهذا ما لا يكون في الحيوان .  

 

وحين يقول لك الزهاوي (1863-1936)، (ولا فرق بين نوعي العقل في الإنسان والحيوان مهما انحط الحيوان إلّا في الكمية، فهو في الإنسان أكثر منه في الحيوان، على أنه فيهما جميعًا على درجات)،  فانه في اطروحته هذه يبدو متأثِّرًا بما ذهب إليه تشارلز دارون (1809-1882) من أنَّ  الحيوانات لا تختلف عن الإنسان من حيث امتلاكها لقدراتٍ عقليةٍ متشابهةٍ نوعًا، مختلفةٍ درجةً، يتجلّى ذلك في إمكانية التعامل الملحوظ بينهما .

 

وعندي ليس بالْغريبِ أن نجدَ في قول الزهاوي صدًى لما قاله دارون، إذ صرَّح في مكان آخر من مخطوطته ما نصُّه : " ولا أشك في صحة مذهب النشوء القائل بارْتقاء الحيواناتِ متسلسلةً من البسيط إلى المركب فالْاكثر تركبًا، غير أني كبعض العلماء لا أجد تنازع البقاء والإنتخاب الطبيعي كافيين لتولد الأنواع، بل أقول كبعضهم بالتحول الفجائي" .  وهذا يدلِّلُ على أنَّه قرأ لدارون وتأثر به .  أما حقيقة الأمر فإن الحيوانَ لاعقلَ له ولا قبولَ لما قال ايٌّ من الرجلين مع الإحترام .

 

ان القوى في المخلوقات قد وزعت لحكمةٍ ارادها خالقها إلى أربع هي : قوة العقل، وقوة الشهوة، وقوة الغضب، وقوة الواهمة .  ولقد خصَّ الإنسانَ بجميعها، أما الحيوان فيتمتع بقوتين هما قوة الشهوة وقوة الغضب فقط . وفي عالم الحيوان تتفاوت درجة هاتين القوتين، ولذا تجد من الحيوانات ما تتفوق فيها إحدى القوتين على الأُخرى تبعًا للطبيعة الخَلْقِيَّةِ لذلك الحيوان . أما الجنس الآخر من المخلوقات فهو جنس الملائكة حيث يتمتع هذا الجنس بقوة العقل فقط  دون شهوة أو غضب .


تتنافس هذه القوى الاربع في الإنسان وتتفاعل باستمرار، ويلعب العقل بينها دور التذكير والتبصير، فان غلبت قواه العقلية بقية القوى، ارتقى إلى درجة هي أعلى من درجة الملائكة، أما اذا غلبت تلك القوى قوة العقل، انحدر إلى مرتبة الحيوان . إن
مثل هذا التنافس والتفاعل لا يوجد في عالم الحيوان، وكيف يكون تنافس بغياب العقل ؟ .

 

بهذه التركيبة الخَلْقِيَّةِ فإن الإنسان يتمتع بصفتي التخيير والتسيير معًا، لا كما قال الزهاوي أن الإنسان مضطرٌّ في جميع أحواله .  لقد مُنِح الإنسانُ الخيارَ في الطريق الذي يسلك، خيرًا أم شرًّا .  لقد أراد له خالقه ذلك، فألهَمَهُ القابليةَ على أن يسلك الطريق الذي يراه، بعدما أوضح له ما يؤدي إليه كلا الطريقين دون إجبار، وترك لعقله القرار .  قال تعالى :  " ونفسٍ وما سوّاها، فألهَمَها فُجورَها وتقواها، قد أفلح من زكّاها، وقد خاب من دسّاها . "


هذا ما يتعلق بالتخيير الذي يكون فيه الإنسان مسؤولًا، بحكم ما يتمتع به، وتبعًا لاخْتياره . أما التسيير فهناك من الأقدارِ ما قد كتب لها أن تحدث بما قرره الخالق في علمه الأزلي، ولا خيار للإنسان فيها، ولا مسؤولية عليه إن حدثت .


ينبغي تمييز العقل الذي يرتبط به التكليف، واختص به الإنسان دون الحيوان . إنَّ هذا العقلَ هو العقلُ الغريزي، أو العقلُ الهيولاني، الذي يميِّز الإنسانَ عن الحيوان ويجعله مكلفًا مسؤولًا، أما ما يطلق مجازًا، وربما قاد إلى الإيهام، على عقل الحيوان، فإنه لا يتعدى أن يكون وسيلة تمكن الحيوان من التمييز، وإلإدراك، والفهم المحدود .  لذلك يكون قول الزهاوي "
وما الإنسانُ وحده يقيس، ويحكم،َ ويريد، ويعمل، فالذبابةُ وهي حيوان منحطٌّ تستدلُّ، وتحكم، وتريد، مثل الإنسان"  ضربًا من هُراءٍ يجانِفُ المنطق، فشتّان مابين القياس، والحكم، والإرادة، في الإنسان وما يخيَّلُ من امْتلاك الذبابةَ او الحيوان على وجه العموم مثيلاتها .

 

لقد منح الخالقُ كلَّ حيوانٍ ما يناسبُ طبيعتَه، بُغيةَ الهداية، وتدبيرَ العيشِ، والتكيُّفَ للمحيطِ، والفطنةَ المحدودةَ، والقابليةَ على اختلاقِ الحِيَلِ ونحو ذلك .  إن هذا النوعَ من العقل المحدود لا يترتب عليه تكليفٌ أو مسؤولية، والأجدر أن يُسَمّى إدراكًا، أو فطنةً، أو تحايلًا بدلًا من عقل . بهذا الفهم، ربما كان الحسُّ الذي تحدث عنه الزهاوي هو منشأ الإدراك الحيواني، وما يعقب ذلك من تصرف .

 

ينبغي ألّا ننسى أن العقل الانساني الكلي ينطوي على عقل ظاهر، أو ما يسمى بالعقل الواعي، وعقل باطن أو ما يسمى بالعقل اللاواعي . ولا يشكل العقل الظاهر إلّا جزءًا صغيرًا من العقل الكلّي مقارنةً بالعقل الباطن الذي تحكمه ضوابط مخزونة، كثيرة، محكمة، اعتمادًا على خبراتٍ متراكمةٍ، متعددةِ المصادر، تُسْتَدْعى متى كانت هناك حاجةٌ أو موقف .

 

إن مثل هذا العقل الكلي الغريزي (الهيولاني) هو الذي أهَّل الانسانَ لكي يُطالَبَ بإعمار الأرض، (هو انشأكم من الأرض واستعمركم فيها ) .  إن اللهَ قد أحكم خلقَ هذا الكونِ السحيق (أدركناه أم لم نُدركْه)  بنظامٍ  مثاليٍّ دقيقٍ لا عشوائيَّةَ فيه، لا بد أن يستخلف من هو قادرٌ على إدامتِه وإعمارِه، فاخْتار الإنسانَ لسبرِ أغوارِه واستثمارِه، لما يتمتع به من عقلٍ مفكِّرٍ مستوعِبٍ، ولم يستخلف الحيوان مهما كان حجمه، إذ حسبُهُ أنَّه خُلق لدور آخر أهَّلَه له دونما مسؤوليَّة .

 

أما بالنسبة لما ورد في القرآن الكريم أو السنة النبوية من وصفٍ لبعض الحيوانات التي تمتعت بنوعٍ من العقلانيةِ المحدودة التي تقترب مما يتمتع به الإنسان من ذكاءٍ ونطْقٍ، فانها حالةٌ خاصةٌ ارتبطت بمعجزاتٍ مُنحت لأنبياء في مكان وزمان معينين، حيث أدَّت أدوارًا رُسِمَت لها دون تكرارٍ .

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved