لم يكن يخطر في بالي أنني سأبحث عنه ذات يوم وأن اسأل من أين أتى...
وأن اقتفي أثاره وآثار من رأوه أخر مرة ...وكيف السبيل الى عودته . لولا غيابه الذي أحدث جَلبَة ً بقلوبنا ... وشرخاً في خارطة الإنسان ، فمنذ ثمانية أعوام ونيف ، والجميع مشغولون بهذا الأمر ومذهولون بما يحدث لهم ، ولا احد يجرؤ على تفسير رحيله بهذه القسوة ..
**********
الرجال المعمرون وأصحاب العمائم يقولون انه حين قدم إليهم ، كان يحمل خبزاً ، وكتباً ، ولم يكن له عمر معروف أو اصل معروف ، وانه قد اثر البقاء لولا منعنا المتكرر في استطراد حديثه وما قدم لأجله، وانه طلب أن نضرم النار في أوثاننا، وأفكارنا، وشهواتنا وأن ننصره على أنفسنا، وما تحمله من عقائد باطله ... أما عن الجهة التي جاء منها وكيف الوصول اخبروني اليها أن أضع غروب الشمس على يميني وامضي دون توقف فذلك مكانه ....
**********
النساء بمختلف الأعمار والطباع قلن أنه كان جميل وانه كان يتحدث بعفة، وحشمة، ووقار وحزم، وقد استوعبت حديثه شفاههن، وضفائرهن، وعواطفهن، وحين راودته أحداهن، وطلبت منه بلين، وعطف، وأصرت بحنان أن يبقى بجوارهن حاسر الرأس ...
غضب ممتعضاً...ولم يخرج من الباب بل طار كعصفور الكناري ولم يدخل عليهن مرة أخرى...
*****
صيادو السمك المعجونة أرواحهم، وأجسادهم بطين الشواطئ أكدوا انه خرج عليهم ذات ليلة من أعماق النهر، وانه لم يكن مبتلا، وكان صغيرا، وقد لعب معهم طوال الليل ثم اقتفى مع الفجر طريق المدينة تاركا وراءه سنابل القمح وعرائش العنب ، وورد الروز، والليلي ، والزنبق ...
وان أطفال المدينة البازغين مع الشمس أكدوا انه قد تحدث معهم وأعطى لكل منهم قرطاسا محشواً بكلمات لم يتعلموها بعد، لكنهم آلفوها وزينوا بها بصائرهم وأفئدتهم، وحين وصل خبر غيابه لم يجدوا تلك الكلمات وأصبحت القراطيس ...أكواز ذره...!!
**********
المدرسة التي قيل انه كان يحاضر بها أكد لي طلابها أنه كان اشد المدرسين حرصا وولعا ً بهم، وأنهم قد حفظوا عنه الكثير، وفهموا ما يراد بهم ....وانه كان يحرض على الانقلاب ضد الظلم بدون عنف، وإراقة دماء وأنهم حين حملوه ذات يوم، وخرجوا به أرجاء الحي اختفى ولم يبق منه سوى صورة مرسومة بقلم رصاص يحمل بيديه كومة من الكلمات الساخنة ويرتدي ثوباً من المشاعر ويقف على مراكب الشمس وقد كتب تحتها حين يلبس الإيمان بالظلم يسود الخوف والموت .....

