أنت المستثنى من ( المكان الخطأ ) وحدك الجدير فعلا بالمكان الذي كنت فيه، أيها المؤتمن على أرث الفيصل العصامي الطالع من مخطوطات لا تنوشها صفرة الزمن، ذلك البصري الطالع ثانية من أفلام ( كلارك كيبل ) و( كريكري بيك ) و( جميس ستيورات ) يالها من لقطة شمسها لا تغيب من ذاكرة العشريني الذي كنته أنا، بشفتين متماسكتين ينحرف البايب قليلا، إلى الزاوية اليسرى من فمه، وأبهاميه مدسوستان في حافتي الليلك البني، أما سترة الحاج فهي تتدلى من مسمار يحتفظ بفضته، يجاور رفا، يحتوي سلسلة كتب ( الناجحون )، المستضيئة أقفيتها بخصلة حروف ِ من ذلك الجهبذ العلاّمة الذي خان الأدب ومكث نيفاوعشرين منفى أمريكيا في الأقتصاد السياسي وحين عاد لم تؤهله القومية العربية وزيرا للأقتصاد، فتدلت أيام مثل منشفته الزرقاء الصغيرة من يده في أروقة كلية الأدارة والأقتصاد في باب الزبير: البروف محمود الحبيب – طيب الله ثراه – في حدائق الحسن البصري ...
يا أبا مصطفى كنت ُ اتحايل على كدحي وأزورك عند الضحى أحيانا، فأنت من النادر أن تكون عصرا فيها، اقصدك في محرابك المتربض في القعر الأفقي للمكتبة : نتجالس نحتسي استكانات الشاي نتبادل التساؤلات العائلية، فما بيننا عشرة عمر شارفت الخمسين فأنا الثاني من عائلتي أما الأول فكانت مودتك وحوارتك الشفيفة مع أخي الأكبر .. ثم يأتي سؤالي التقليدي : ماذا تقرأ هذه الأيام ؟.. يصلني صوتك بنبرة خفيفة تحمل الصدق والشغف والدف ْ وأنت تبدي أعجابك بروايات خالد الحسيني، الروائي الأفغاني وتسهب بتفاصيل تزيدني شوقا للعودة إلى روايات الحسيني.. وروايات أليف شافاك .. يقطع خيط الكلام : اتصال على موبايلك لحظات .. ثم تخبر الطرف الآخر : صدفة حلوة هاهو قربي ..
هنا يدك اليمنى تمتد صوبي بالموبايل وصوتك يخبرني : معك ( أبو تمامة ) فأعقب بدوري : جاسم المطير؟ تهز رأسك ثم يغمرني صوت أبي تمامة بعبق تلك الأيام التي كنتها صبيا وأبو تمامة في بيتنا مع شقيقي الأكبر..... فأبارك له نشاطاته الثقافية المتنوعة التي هي بحق أقوى رد معرفي على مكابداته الجسدية ..
أخي الكبير غازي ...
حين أراك منتشيا، يحلو لي إيقاظ أيامك الحلوة .. تسألني : طبعا تعرف عدنان سيد صاحب ؟ فأجيبك : طبعا.. أخو قحطان وسلام وبتول وزوج هناء : عائلة يسارية للعظم والد عدنان شارك في المؤتمر الأول للحزب الشيوعي العراقي . تهز رأسك إلى الأسفل مرتين وتحدثني عن لياليكما الجميلة في بصرة فتية سافرة أنيقة لبوة.. بصرة لا تشتهي النوم، كل ليلة تنتظر فجر الندى وشمس الله مبللة تنهض من شط العرب تحدثني وتسرح عيناك إلى هناك تحدثني كأنك تقرأ تعليقا يتزامن مع عرض شريط سينمي في سينما الحمراء أو الرشيد.. يغمرك صوتٌ فتغيب عني .. أشعرك تغوص إلى هناك .. إلى بصرة . بعد لم يضرجوها بالمدفعية وسرفات الدبابات واللافتات السود والاعلام فوق التوابيت وأثمان الطلقات من عوائل المظلومين في البرجسية وجبل سنام .... ثم ضرجوها بالصكاكة والعلاّسة والزجاج المظلل والقتل في الهواء على الشبهة ... ها أنت تهبط .. تهبط في نقاء الماء الحي .. يتقدم نحوك سلمٌ من البلور.. ها أنت تصعد، تصعد متلحفا بالبياض الحق – الحقيقة تصعد نحو باب ٍ واسع الأنوار ..