كان الحضور العراقي واضحا في اعمال مهرجان ومؤتمر الموسيقي العربية التاسع عشر 1-10 تشرين الثاني الجاري ، اذ كان المؤتمر شهد مشاركة علمية وفنية لافتة مثلها الباحثون: حبيب ظاهر العباس، د هيثم شعوبي ودريد الخفاجي فيما كانت اطلالة الفنان الباحث سامي نسيم باتجاهين، حين ظهر باحثا مرة وقائدا ومؤلفا وعازفا ضمن امسية فرقة منير بشير بدار الاوبرا المصرية مرة اخرى.
وفي بحثه "المونولوج فن غنائي انتقادي ...مهدد بالانقراض" تناول الباحث والموسيقي الاكاديمي حبيب ظاهر العباس تجربة الفنان الراحل عزيز علي، متوقفا عند البدايات الاولى لفن المونولوج حين "ظهر في مصر اواخر القرن التاسع عشر وانتشر كنتاج للمسرح الغنائي، وترعرع وازدهر في السينما الغنائية في اوائل القرن العشرين". العباس الذي يشغل حاليا موقع المدير العام لثقافة الاطفال عدّ اغنية الشيخ سيد درويش "والله تستاهل يا قلبي" التي قدمها ضمن مسرحيته " راحت عليك" أول اغنية يمكن ان تدرج ضمن شكل المونولوج الذي بات مصطلحا يطلق على "الاغاني العاطفية ذات المواضيع الاجتماعية التي تعتمد الخيال" منوها الى ان الملحن المصري محمد القصبجي ارسى ملامح هذا القالب الغنائي عبر اغنية "ان كنت اسامح وانسى الاسية" التي ادتها ام كلثوم في العام 1928.
الباحث العباس الذي يمثل العراق في "المجمع العربي للموسيقى" توقف عند الوجود الاول لفن المونولوج في العراق، اذ كان الهزليان (جاسم ابن الحجامة و زميله الفكه منصور) وهما فنانان من سكنة منطقة العوينة ببغداد يعرضان فصولا غنائية ساخرة
بمحلة الفضل، ثم شهدت المقاهي والملاهي ودور السينما ببغداد نمطا جديدا هو اشبه بالمونولوج سمي "الإخباري" وقوامه تعليق ساخر على خبر، فيما رآى الباحث ان من اشهر "الإخباريين" كان جعفر لقلق زاده وحسقيل ابو البالطوات وسلمان بهلوان و"منادي اعلانات دور السينما ببغداد" عباس حلاوي الى جانب الممثل الهزلي صفاء محمد علي وجمعة الشبلي، ومع اوائل ثلاثينيات القرن العشرين كانت اولى محاولات تقديم المونولوج في العراق امتدادا لانجازات "الإخباريين".
عزيز علي .. موسيقي بوعي اجتماعي نقدي
وفي تتبعه التاريخي لفن المونولوج بالعراق توقف العباس عند منتصف القرن الثالث من القرن الماضي وتحديدا بعد افتتاح دار الاذاعة العراقية، ومعها تغير شكل المونولوج ومضمونه واسلوب ادائه، فقد "اتخذ من الأزجال الشعبية والأمثال المحلية لغة له بعد ان كانت بداية نظمه دعوة لاصلاح المجتمع وانقاذه من العادات والتقاليد السيئة المتمثلة بالشعوذة والدجل، وقد انبرى لهذه المهمة عن جدارة واستحقاق، الفنان المبدع عزيز علي شاعرا وملحنا ومؤديا". وأحسن الباحث حبيب ظاهر العباس في قراءته لارث المونولوجست عزيز علي، ذلك الجانب الاجتماعي المهم عند صاحب "إحنه عدنا بستان" الذي كان "ينشد من خلال مونولوجاته العدالة الاجتماعية بين الناس، داعيا للتضامن ومشجعا للاخوة والمحبة، رافضا وبإحساس مرهف الخطأ والتخلف".
وفضلا عن الجانب الاجتماعي هذا في غناء عزيز علي، لاحظ الباحث جانبا فنيا مهما حين "استطاع ان يقدم هذا اللون الغنائي الجديد (المونولوج) ويثبت اركانه في بيئة اجتاحتها موجة عارمة من الغناء الريفي " وهذه اشارة مهمة لما يعنيه النقد الاجتماعي ضمن السياق الفني (الموسيقى والغناء) من وعي تركيبي متطور هو ابن المدينة الغنية الافكار، فيما الغناء الريفي أميل الى التقليدية والثبات والخط الافقي لحنا واداء، ويبدو
انعكاسا لبيئة جغرافية وانسانية محدودة في معطياتها الفكرية.
وفي مقاربته النقدية لالحان عزيز علي لفت الباحث العباس الى ان اسلوب الراحل "يقترب بعض الشيء من الترتيل بعد ان وفر لعنصر التطريب حرية الاحتفاظ بنسبة تحاكي رجولة هذا الفن بعيدا عن التميع والاسترخاء". كما وتوصل الى ان صاحب مونولوج " الراديو" كان ضمن اعماله "نزعة رومانسية لها اثر في بنية الالحان التي اداها بما احتوت من مقدمات وجمل ولوازم موسيقية اكتسبت الرصانة والاتقان ومنحت مونولوجاته صفة الحداثة في اطارها العام بعيدا عما كان مطروحا في الساحة اللحنية العراقية وقتذاك".
وفي محور البحث العلمي حول فن المونولوج ذاته، قدم الباحث والفنان سامي نسيم ورقة بعنوان " المونولوج الفكاهي ..فن النقد الاجتماعي الساخر" محددا له غرضا وظيفيا "تناول قضايا اجتماعية وسياسية بشكل ساخر" عبر "شعر مرمز بفكر نقدي لاذع وفنان ممثل يؤديه بشكل فكاهي وإن كان ليس مطربا باعتماد موسيقى خاصة ملائمة لفن المونولوج تعتمد على الضربة والتقطيع والتعبير حسب الاداء الصوتي والشعري معا".
وميز الباحث نسيم بين المنولوج الفكاهي والاخر الذي سماه الغنائي متوقفا عند هذا النوع وبحسب اعمال وضعها الملحنون: سيد درويش، محمد القصبجي، محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي.
وفي تفريقه بين اشكال المونولوج وتحديدا في دراسته للتجربة العراقية، اقترح الفنان الباحث نسيم تسمية " المونولوج السياسي" وجعلها قرينة بالفنان الراحل عزيز علي الذي رأى فيه قدرة على استشراف الاحداث العراقية حتى قبل عشرات السنين من وقوعها " قامت ببث مونولوجاته القنوات الفضائية والاذاعات الحالية في العراق بعد منع سنوات طوال، واخذت تبهر الجمهور بواقعيتها وكأنها نبوءات عن الاوضاع الراهنة، حيث تضمنت التعابير البسيطة الموحية عن سوء استغلال السلطة وغيرها".
ومع ان المونولوج الغنائي ابن فترته التي انتجته لضرورات فكرية وفنية واجتماعية الا ان الباحث سامي نسيم ذهب، ومثله فعل باحثون آخرون، قدم توصيات بقصد احياء هذا الفن الذي لم تعد ضرورواته قائمة حقا، لجهة ان النقد الاجتماعي عبر الفن وجد اشكالا كثيرة معاصرة، اكان ذلك في المسرح والدراما وحتى الاعلانات المتلفزة. كما ان وسائل الاتصال المعاصرة افقدته قدرة التعليق على الاحداث السياسية ونقدها تهكميا وفنيا.
وفي بحثه " اراء ومضامين الفارابي الموسيقية في كتابه الموسيقى الكبير" عرض المؤرخ والباحث الموسيقي د هيثم شعوبي لمكانة الفيلسوف الفارابي الموسيقية منوها الى انه "الكتاب الوحيد للفارابي الموجود حاليا في علم الموسيقى ولانه اهم كتب الموسيقى في تراثنا العربي، ولانه يضم معلومات قيمة تتناول جوانب الموسيقى العربية اهتم بها الفارابي ودونها في كتابه هذا".
وفي حين قدم الباحث شعوبي نفسه "خبير في التراث العراقي والعربي" الا انه خلط في عنوان كتاب الفارابي، فمرة يسميه "كتاب الموسيقى الكبير" وهي التسمية الصحيحة، واخرى تسمية غير دقيقة حين يقول في مواقع عدة منها العنوان والفقرة الثالثة من الصفحة 12 ضمن بحثه: " ولقد ذكر الفارابي في مقدمة كتابه "الموسيقى الكبير" انه استنبط.."، كما انه استغرق مطولا في تأكيد "عروبة" الفارابي وهو ما لم يكن اساسيا في عصر الفيلسوف والموسيقي، العصر الذي حمل ملامح الحضارة الاسلامية عبر مركزها ببغداد التي استوعبت علماء العالم ومفكريه دونما سؤال عن اصل قومي ولا حتى ديني.
وضمن اعمال مؤتمر الموسيقى العربية التاسع عشر ذاته قدم الباحث دريد الخفاجي ورقة ضمن محور اغنية الطفل بعنوان"التضمينات القولية الشعبية في لعب واغاني الاطفال في العراق"، عرض فيها لما "تزخر به العاب الاطفال واغانيهم الشعبية في العراق من تضمينات شعبية من الامثال والحكم والاحاجي". واحسن صنعا في بحثه حين اشار الى التنوع الديني والقومي والجغرافي والاجتماعي للعراق واثره في اغناء مصدر كان الى حين يشكل علاقة الطفل الاولى بالايقاع لغويا وموسيقيا.
وتتبعا لهذا الاثر المهم جال الباحث الخفاجي بين مناطق عراقية عدة متوقفا بالتحليل اللغوي والموسيقي عند قيمة الامثال الشعبية وتاثيرها حين تصبح غناء يردده الاطفال، أكانت تلك الامثال تحمل قيما تربوية عالية ام تبدو غير ذلك عملا بانه، اي الباحث، قصد الامانة العلمية والموضوعية في ورقته التي انهاها بمقترح لانتاج تسجيلات صوتية متقنة لاغاني الاطفال الشعبية.
"فرقة منير بشير".. عرض موسيقي جميل
وفي مشاركتها بمهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية التاسع عشر بدار الاوبرا المصرية قدمت "فرقة منير بشير"العراقية عرضا من فنون بارزة في العزف على العود، فضلا عن مستوى ناضج في مقاربة الاشكال الموسيقية العربية (السماعي بخاصة) وإن كانت تلك المقاربة ضمن اطار معاصر راعى معنى ان تكون هناك مجموعة من الات العود تعزف معا.
والفرقة التي يقودها العازف والمؤلف الموسيقي سامي نسيم بدأت عرضها بعزف "سماعي رست" من تأليف الراحل محمد القصبجي، ثم عزفت واحدة من عيون المقطوعات الموسيقية العراقية التي وضعها من ظلت الفرقة امينة لتأثيره الراحل منير بشير، غير ان ما يحسب على اداء معزوفة "العصفور الطائر" انها جاءت باسرع من ايقاعها الاصلي وهو ما افقده بعضامن التماعاتها النغمية وتأثيرها الوجداني.
وما حمله عرض الفرقة التي تأسست في بغداد أواخر العقد الماضي من مفاجأة طيبة، كان مؤلف "سماعي بيات" الذي وضعه قائد الفرقة سامي نسيم، وعنها كان استحق قبل فترة "جائزة الابداع الموسيقي"، فالمقطوعة التي جاءت وفق اسلوب قديم انفتحت نغميا على تنوع ثر في الموسيقى العراقية مستمد من تنوع البيئات العراقية الجغرافية والانسانية، فحضرت انغام كردستان في شمال البلاد، مثلما حضرت انغام المنطقة الوسطى ثم شيء من الحان الجنوب الشجية. وجاء تضمين هذه الانغام منسجما ودون المس بالقالب الاصلي لـ"السماعي"، مثلما كانت محاولة جريئة في تأسيس ملامح موسيقى وطنية ومحلية وفق قالب نغمي استمد عمقه الشرقي (التركي والعربي) من تجارب تواصلت مئات السنين.
"فرقة منير بشير" لمسة النغم العراقي في مهرجان الموسيقى العربية
وفي اطار هاجس التجديد ذاته جاءت مقطوعة "يملؤني الحب" التي كتبها احد ابرز عازفي الفرقة مصطفى محمد، وهي حفلت بالوان تعبيرية وتصويرية امتدت من رسم ملامح الفوضى العراقية مرموزا لها بالضجيج والتنافر وصولا الى نغم شفيف وعذب كأنه الحب وهو في مواجهة الضغائن التي تتوالد بقوة خرافية في بلاد ما انفكت ايضا تضم حالمين وموسيقيين شبان يكتبون النغم الجميل مثلما فعل مصطفى محمد ومثلما جاء عليه المستوى الروحي في عزف الشاب علي حسين وعموم اعضاء الفرقة الذين وقفوا قبيل بدء الحفل حدادا على ضحايا "كنيسة النجاة" ببغداد.
وضمن اطلالتها الاحتفائية بالنغم العربي الكلاسيكي انطلاقا من وجودها في مهرجان مكرس لالوان ذلك النغم وامتدادته عزفت الفرقة مقطوعة بعنوان "الى كوكب الشرق"، واخرى " من وحي عبد الوهاب" و"من وحي العندليب عبد الحليم حافظ" الذي كان شخصية المهرجان هذا العام، دون ان تنسى الفرقة توجيه التحية لابي الغناء العراقي المعاصر وحامل لوائه عربيا المطرب الراحل ناظم الغزالي.
فرقة "منير بشير" في مشاركتها الثانية ضمن فعاليات مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية الذي تديره بنجاح الفنانة والاكاديمية د. رتيبة الحفني ويتواصل بانتظام سنويا منذ العام 1991 بدار الاوبرا المصرية، اكدت قيمة الفن الموسيقي الرفيع مثلما اكدت مثابرة قائدها واعضائها على البقاء قيد الجمال في بلاد كان العنف فيها طاول الموسيقيين والكتاب والمثقفين والعلماء.